مجلة الرسالة/العدد 803/القصص
مجلة الرسالة/العدد 803/القصص
رجل وامرأة
للكاتب الفرنسي لوي جربيو
(هذه ليست قصة بالمعنى المقصود منها، ولكنها صورة
صادقة من صورة الحياة التي نجدها في كل بقعة من بقاع
العالم وفي كل زمان من أزمنته)
(المترجم)
كان الدرج يؤدي إلى الفناء، وقد جلست المرأة بأسفله تبكي وتنتحب طول الصباح. كانت في منتصف العقد الرابع من عمرها سمراء ممشوقة القد ضعيفة البنية، وظلت تنشج بالبكاء، وتتمتم بكلمات مبهمة كأنها تتوعد من حولها. وكم ذهب إليها الجيران يحاولون الترفيه عنها وإرشادها إلى عين العقل دون جدوى. كانوا يقولون لها: لا يصح أن تثوري كل هذه الثورة. من الأفضل لك أن تصعدي إلى شقتك. إنك ستصدعين رأسك ببكائك المتواصل. (وهل يجدي البكاء؟) ولكها كانت تجلس وكأنها لا تعي كلماتهم. ما شانهم في ذلك؟ أليست هي حرة تفعل ما تشاء؟ وصاحت في أعماق نفسها (لقد سئمت كل شيء).
وكانت أحياناً ترتكن برأسها على السور الحديدي للدرج تحاول النوم دون جدوى. ثم تخفي وجهها بين يديها وتبكي في حرارة، فيسيل الدمع من بين أصابعها كما يسيل الماء من نبع لا ينضب. وتأوهت، ثم انتابها موجة من الصمت وهي تتلفت حولها بلا غاية. وأخيراً جلست دون حراك وقد أرتكن ذقنها على راحة يدها، ومرفقها على ركبتيها في ذلك الوضع الذي يفضله الرجل عندما يؤوب من عمله. أن هذا أول ناحية من نواحي انتقامها. لقد طافت بها الأفكار منذ أن بدأ الشجار إلى أن تحول هذا التحول على أية حال، ليس الآن إلا التفكير فيما قد حدث.
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي لجأت فيها إلى الدرج. كم كان ذلك يغضبه أشد الغضب. ولكن. . . أليس هذه ما توده هي؟. . لم تستطع الإجابة على هذا السؤال. لقد كان من المستحيل عليها أن تقوم بأي عمل آخر، فالتجأت إلى الدرج. إنه بالطبع يستطيع أن يهددها بأن يعتد عليها بالضرب. ولكنها كانت واثقة بأنه أن ينفذ تهديداته التي تصدر منه أثناء غضبه. فمهما فعلت فإنه لن يهجرها أبداً. لعل هذا هو السبب في أنها تزداد تهوراً.
كان الناس يصعدون ويهبطون ويمرون أمامها، فيلقون عليها نظرة إشفاق، أو يرنون إليها في دهشة، أو يهزون أكتافهم. وكانت تتظاهر بعدم رؤيتهم، ولا تتحرك، حتى لو اندفع شخص نحوها وتخطاها، ولطم إحدى يديها، لظلت ساكنة دون أن تتحرك. ولعلها كانت تود ذلك. قالوا لها إنه قد أزف الوقت لتعود إلى شقتها، فلم تجب، ولماذا تعود؟ وهل جلست هنا لتجيب على مثل هذه الأسئلة؟ وهل مكثت لتكون موضع شفقتهم؟. . كلا. . . أن شفقتهم لا تعنيها في شيء. لقد جلست هنا ليشاهدوها، وليعرفوا كيف أوصلها هو إلى هذه الحالة، وأي نوع من الحياة تحياها، وحتى يعرف هو الآخر أنهم قد شاهدوا وأدركوا حالها. نعم أن هذا هو ما ترغبه الآن. . . على الأقل. أن أول جزء من برنامج انتقامها. وكانت في كل مرة يتحدثون معها، تجيبهم بإطلاق العنان لعبراتها وهي تحاول أن تجد موضعاً صريحاً تسند عليه (رأسها المسكين) بشعره المهوش الذي لم تهتم حتى بترتيبه.
كان الشجار قد بدأ مبكراً، ولم تمر الساعة الثامنة إلا وكانت على الدرج. ولن تبرح مكانها فإنه لا يوجد ما يؤدي بها ال التفكير في مبارحته. ها هو ذا الظهر د أقبل، وسيعود هو بعد لحظات. ما الذي سيقوله لها؟ لعله سيحدث ما حدث في المرة السابقة، فيمر عليها دون أن يعيرها انتباهه. ولكنه لن يظل وحيداً في الشقة أنه لم يحتمل هذه الوحدة - آخر مرة - أكثر من ربع ساعة ثم عاد يبحث عنها. ومما لا شك فيه أن ذلك سيحدث ثانية.
لقد تركها والغضب يعصف به. وصفق الباب وهو يقسم أن هذه هي المرة الأخيرة. . . المرة الأخيرة. أنه لا يستطيع احتمال هذا المسلك الجنوني. ولكنه سيجد عندما يصل إلى مقر عمله من فسيح ما يسمح له بالهدوء والتفكير في تؤدة.
وفتح باب الفناء، وميزت وقع أقدامه. ولم تتحرك عضلة من عضلات جسمها، وانقلب كل شيء فيها ساكناً، وقد تركز كل كيانها في الاستماع إلى وقع خطواته، وبدت كأنها لا تشعر بما يدور حولها. واقتربت الخطوات. سرعان ما ستراه. ولكنها ظلت دون حراك وقد أرتكن رأسها على سور الدرج. وأغمضت عينيها نصف إغماضه وهي تنتظر. وكاد أن يتعثر فوقها، وعرته دهشة بالغة، ثم تراجع وهو يحاول أن يستعيد رباطة جأشه وقد أغمض عينيه كان رجلاً بديناً في الحلقة الرابعة من العمر، يرتدي زي الكتبة، وقد أمسك بمظلة.
وتمتم قائلاً في صوت خال من الغضب - ما الذي تفعلينه هنا؟ فلم تجبه وابتدأ القلق يساوره، وغاض الدم من وجهه، وارتجفت اليدان وهما تقبضان على المظلة. ثم اكتسحه شعور من الضعة لا نهائي وإحساس بالاحتقار لا حد له. ووقف دون حراك بجوا المدخل. كان الضوء يسقط عليه من الخارج، فلم تستطع تمييز ملامحه. وظهر لها كأنه شبح بدين يحمل مظلة. ثم ردد في صوت خافت وكأنه يتحدث إلى طفل - ما الذي تفعلينه هنا؟ فلم تجب. لا بد أنها مكثت هنا ساعات. وهز كتفيه. إذن لا توجد نهاية لذلك. وجعل يفكر في شجارهما هذا الصباح، ويلوم نفسه. . . ولكنه كان يأمل.
- أتعتزمين البقاء هنا؟ فلم تجب. وكانت لهجته تنذر بانفجار بركان غضبه. وكان يلاحظ ما يختلج في نفسه من عواطف ثائرة، ويعرف أن غضبه ينهكه، فقال - هيا. . . دعينا نصعد إنه أنه لغباء. . .
وولدت كلمة (الغباء) في عينيه نظرة من الشراسة. وتنهد في حزن وقال: (يا لها ن حياة! كل ذلك لأجل ماذا؟) وجعل يتفحصها بنظراته بإمعان. وكأنما عزم أن يعمل ما في وسعه ليحل المشكلة فهز رأسه يمنة ويسرة ثم قال - حسن. . . ماذا؟ ما الأمر؟ ولم يكن هذا ما يود أن يقوله، ومع ذلك سيان عنده أقال ما قاله أو تفوه بشيء خلافه. وابتدأ يصعد الدرج. ولكنه سرعان ما استدار فجأة وصاح في صوت جفلت منه: (والطفلة؟) وانحنى فوقها، وشعرت بأنفاسه تهب على شعرها. الطفلة؟! لم تكن قد أعارتها أدنى اهتمام. أن نسيانها الطفلة كان ولا شك جزءاً من انتقامها. ومع ذلك شعرت بالقلق يستحوذ عليها.
- ما الذي فعلته بالطفلة؟
وخيل إليها أنه سيهم بضربها، ولكنها كانت قد صممت على ألا ترد عليه. ثم شعرت برأسها يدور. إنها حقاً لم تهتم بالطفلة.
- أجيبي! ها هو ذا قد انفلت منه زمام غضبه. ونزل الدرج، ثم وقف أمامها، وأسند مظلته على الحائط، ومد يده تلمس طريقها إلى وجهها التي تخيفه. ثم قال في صوت هادئ - متى، متى ستكفين عن تعذيبي؟ متى. . . متى - أواه، يا إلهي؟. . .
كانت ثورة نفسه لا تحتمل. وعادت به الذاكرة فجأة إلى الليلة التي هربت فيها. تلك الليلة التي ظل يبحث عنها طويلاً وهو يخشى أن تكون قد ألقت بنفسها في النهر. .
- تكلمي! ووضع يده على ذقنها، فلم تقاوم، ورفع وجهها. وطغى على نفسه شعور من الشفقة، فقال لها - لماذا أنت هكذا؟ وابتدأت شفتاها ترتعشان، وارتفع كتفاها، وتمتمت بكلمات تعذر عليه سماعها فسألها - ماذا تقولين؟ فأجابت - لا شيء.
وفجأة تغير كل شيء، فقال. . . لا شيء! حقاً؟ إذن لماذا؟ لماذا؟ ألا تخبرينني بالله لماذا؟ ما الذي تقصدينه بما حدث في الصباح؟ وما الذي فعلته بالطفلة؟ لقد كنت عازمة على ذلك منذ الصباح.
وهزها وهو يصيح بعد أن عصف به غضبه، وقد كان يظن أنه ملك زمامه. إن هذه الانفجارات، وهذه التأسفات: هذا التحول من الشفقة والحنان إلى القسوة والشراسة تلتي تصحب دائماً مشاجراتهما، كانت كأنها تمثيل مرحي. وكم كانت تهده هداً وتستنفد قواه. ها هو ذا قد جرح شعورها، فهبت واقفة، تبتعد عنه وهي تصيح (أيها الوحش!).
وصاح صوت من أعلى الدرج قائلاً - أن الطفلة معنا. لا داعي للقلق. سنعطيها غذاءها.
ولم يجب في الحال على الرغم من شعوره بالطمأنينة. إن فكرة وجود جيرانه واقفين بأعلى الدرج يستمعون ويراقبون.
هدأت من غضبه. قالوا - ألا تسمع؟
فصاح - لقد سمعت. . . شكراً!
وبحركة آلية التقط مظلته وهو يتمتم قائلاً - (لقد عيل صبري، عيل صبري!) فالتفتت إليه زوجه بوجه متقلص وعينين جامدتين وقالت في صوت مختنق ورأسها يهتز (عيل صبرك، عيل صبرك، ممن؟) وكأنه قد عزم على الصمت، فظل ساكناً لا يفوه بكلمة.
- حسن، أني في انتظار ردك.
فقال - لقد سئمت الشجار.
- هل هذا كل شيء.
- نعم.
- إذن. . . هل أنا المسئولة عما حدث؟
فقال في تهكم - كلا. . . إنه صبي الجزار!
ثم انفجر ضاحكاً. كم كان جوابه مضحكاً! وسرعان ما تلاشى ضحكه عندما قالت - ماذا يهمك إذا كنت أتعذب؟
فأجاب - ليس هناك ما يجعلني أهتم. . . فتنهدت وتمتمت قائلة - إني أعرف ذلك. . .
وران عليها الصمت. هدوء مستمر. كان قد نسى تماماً أنهما لا يزالان على الدرج، وانه يشعر بالجوع وأنها لم تستعد بعد. . . نعم، لقد استسلمت نفسه مرة أخرى إلى سحر المشاجرة وسقط في الشرك طواعية. وأنشأ يتحدث ويشرح لها كم هو تعس، ويصف لها لواعج قلبه. وود لو استطاع أن يقنعها.
- ألا ترين؟. . . إنها لغباوة أن يحدث ما حدث. . . وكم هو مضيعة للوقت! ألا تكفي مشاكل الحياة المعقدة؟. . إذن. . لماذا؟ لماذا؟. . . خبريني؟
ووضع يده على كتفيها وجذبها إليه قائلاً - هل انتهينا من الشجار؟
فوضعت خدها على خده وأخذت تبكي.
- كفى. . . كفى لا تبكي. لقد انتهى النزاع.
إن هذا الهدوء والحنان، وذلك الحديث عن الحب، هو كل ما توده منه. لقد نسيت تماماً كل شيء عداها. وقالت - هنري. . . فربت على خدها قائلاً - هيا نصعد. . . لماذا نظل واقفين هنا؟
فتبعته وهي تقول - أليس من الأفضل أن نستحضر الطفلة؟
- دعيها. . . من الأفضل تركها حيث هي الآن.
كانت الشقة على حالها منذ الصباح دون نظام أو ترتيب، ولم تزل النوافذ مغلقة، وروائخح الليل تفوح في الشقة المظلمة. وخلع قبعته وظل ممسكاً بها لحظة، وتملكته الحيرة. . . أين يضعها؟ وأخيراً ألقى بها والمظلة على مقعد. ثم وهو يراقبها تتوسط الغرفة وقد تدلى ذراعاها (حسن. . . حسن. . . ماذا؟).
وعبست عبوسة صبيانها، كأنها على وشك البكاء مرة أخرى. ومرت بيدها على جبينها.
- لقد أصابك الصداع! - نعم، إنه مؤلم.
- ألم ننته بعد؟
فبكت من قلبها وهي تقول - أواه. . . نعم.
وأخذها بين ذراعيه وضمها غليه في حنان. كان يود أن يظل ساكناً دون أن يفوه بكلمة. ولكنه انشأ أن يتكلم مدفوعاً بنزوة لا تقاوم. فقال في حنان - لماذا تفعلين ذلك. . . لماذا. . .
فقال - وأنت؟
- أنا؟!
- نحن اثنان. . . فإذا كانت هذه الهفوات من جانب واحد فقط.
- ولكنها ليست غلطة أحد منا ذلك هو السبب.
- السبب في وجود الشجار؟
- نعم، ربما.
- على أية حال، لقد انتهى الغضب.
فقالت في لهفة: أوه. . . نعم.
- أتستطيعين أن تذكري ما الذي دار عليه الشجار هذا الصباح؟ أني لا أستطيع أن أتذكر. إنه لم يكن إلا كلمات، كلمات تافهة. لقد نسيتها تماماً. . . تكفي مشاكل العالم المقبلة.
لقد كانت تعرف طريقته في الجدال فقالت:
- لننس ما حدث!
وتراخت أذرعتهما، وابتعد عنها. ثم تهالك جالساً على مقعد وقال وقد ابتدأ يعود غليه غيظه.
- إنك امرأة لطيفة. . . ألم تقرأي صحف الصباح؟
يا له من سؤال! لكأنها تهتم دائماً بالصحف!
واستطرد يقول: بالطبع هناك مشاكل. أني أقول الحقيقة.
- أعرف ذلك. . .
فانفجر قائلاً: حسن، إذا كنت تعرفين ذلك جيداً، فما الذي تعنيه من. . . من مكوثك بهذا الشكل بالدرج تبكين على شيء لا يعلمه إلا الله. . .؟
- أوه. . اصمت.
ولكنه كان قد صمت قبل أن تتكلم، وجعل يفكر في كل ذلك وهو يتأملها. لقد كرهها. . . حقاً لقد كرهها. وأصبح يعافها ويشمئز من تهديداتها.
وسألها وهو يخرج ساعته من جيبه: ما الذي سنأكله؟
ثم هز رأسه قائلاً:
- لقد تأخر بنا الوقت.
فقالت: أستطيع تحضير بعض البيض والخضر أيكفي ذلك؟
- نعم.
واختفت في المطبخ، وتمدد على الفراش ينتظر. ما الذي قاله لها هذا الصباح حتى أثارها وجعلها على تلك الحالة؟ وجعل يفكر ويفكر دون أن يتذكر. وسمعها تقوم بأعداد الطعام بالمطبخ فناداها: مارسيل.
فأجابت وقد توقفت لحظة من عملها: نعم.
- ما الذي قلته هذا الصباح حتى. . .؟
ولم تفه بلحظة ثم قالت: لا شيء.
- بل هناك أشياء. . . خبريني!
- كلا. . . وما الفائدة؟
- فقال كنت أرغب. . .
فقاطعته قائلة: ألا يستحسن عدم التحدث عن ذلك؟
ولكنه ظل منتظراً. لماذا لا تريد أن تخبره؟ وشعر بحب استطلاع غريب يدفعه عدم تذكره ما حدث.
- ألا تتذكرين يا مارسيل؟
- أجل!
- حسن. إذن أخبريني!
- لماذا! إنه من الغباء أن نعود إلى ترديد هذه النغمة ثانية.
وأدرك إنها لن تخبره أبداً، فتمتم قائلاً: حسن على أية حال.
نعم، على أية حال. . . من الأفضل ألا يتذكر. فهو مرتاح إلى. . إلى هذه المعيشة!!
محمد فتحي عبد الوهاب