مجلة الرسالة/العدد 804/القصص
مجلة الرسالة/العدد 804/القصص
الجد
للأستاذ عبد المغنى علي حسين
من كان يرتاد أحد المتنزهات الكبيرة بالقاهرة كان يرى في ضحى أيام الصيف يتكرر يوماً بعد يوم وفي رتابة ودقة موعد، ويسترعي نظر من تستهويه نواحي الجلال والجمال والعاطفة.
كان يرى (سامي بك) ذلك الضابط القديم الذي يحتفظ في السبعين بقامته وسمته في الأربعين يعلوهما تاج من شيبة جليلة، شيخ طويل مهيب، وليس في بنيانه وقسمات وجهه غير التناسب الجميل، يقبل كل يوم في موعد لا يتغير، بمشيته التي وهنت قليلاً لكن لم يزايلها ثباتها وانتظامها العسكري، وعصاه الخفيفة بيمينه لا يتوكأ عليها بل لا يلمس بها الأرض إلا لماماً، ترافقه على الدوام حفيدة له، صبية في نحو العاشرة، فيقصدان تواً إلى مقصف المتنزه ويجلسان إلى نضد بركن منه، ويأخذ الشيخ يطالع صحيفته والصبية تتسلى بتقليب صفحات إحدى المجلات ومشاهدة المتنزهين والمتنزهات، واللاعبين على العشب الأخضر واللاعبات.
ولم يكن يماثل إعجاب الناظر بروعة منظر الشيخ وحسن سمته سوى إعجابه وعجبه من الصبية الصغيرة أيضاً. كانت ذات ملاحة وظرف وحسن، لكن محاسنها لا تبدو إلا لمن يرقبها عن كثب لانطوائها وراء هدوء وصمت ورزانة تكتر سن الصبية بكثير، وتكاد تضارع فيها جئها الكبير. . كانت تمشي بجانب جدها في خطو متزن وقامة معتدلة، ثوبها طويل محتشم وحقيبتها اللطيفة تتدلى من كتفها، ووجهها الصغير المستدير صامت جاد، ونظرتها إلى الأمام. . فإذا جلسا لم تكن تهز رجلاً أو تتلفت أو تبادئ جدها بحديث. فإذا طوى الجد الصحيفة نظر إلى حفيدته في فرط حنان وإشفاق، وقال لها شيئاً، لعله يسائلها إن كان ثمة ما ترديد، أو يريدها أن تطرح بعض احتشامها وتنزل إلى العشب لاهية مثل لداها، فتجيبه بهزة نفي من رأسها الصغير وابتسامة شكر على ثغرها الرقيق.
هذا ما كان يطالع منهما عين الناظر العابر، لكن عين الناظر لا تستطيع أن تقرأ ما وراء الصور العابرة من قصص الحياة. . إن سامي بك تزوج في صباه من سيدة ذات محتد وعاشا عمرهما لم ينجبا غير ابن وحيد. وتزوج الابن فأنجب ابنة هي هذه الحفيدة، وقسا القدر فمات الابن، ثم لحقت به زوجته بعد قليل، وخلفا الطفلة الصغيرة لا راعي لها إلا جداها الكبيران ثم قسا القدر على الشيخ قسوة أخرى كبرى فماتت زوجته، وخلفته في شيخوخته يرعى نفسه ويرعى الحفيدة الصغيرة وحده، ينظر إلى شجرة الأسرة التي أنشأها فلا يرى باقياً منها إلا هو وفي طرف الحياة من عند نهايتها وهذه الصغيرة في الطرف الآخر عند المبدأ.
أن فرط حنان الجدود على الصغار من أحفادهم وحبهم لهم أمر معروف، أما الحنان والحب من شيخ كبير وحيد لحفيدة صغيرة وحيدة يتيمة الأبوين لا راعي لها إلا هو فهما لا شك يبلغان الغاية أو يتجاوزانها. أن حنان سامي بك وحبه لحفيدته (عزيزة) مما تعجز الكلمات عن تصويره.
إنه ينظر إلى الرصيد القليل المتبقي له من أيام الحياة. ترى هل يمتد به حتى يرى (عزيزة) زوجة سعيدة؟ لقد كان في صباه لا يرهب الموت، وعلى الأهبة في كل لحظة لبيع حياته بيعاً سمحاً عندما يقتضيها الواجب. كان ذلك والحياة قيمة، والشباب قشيب، وبساط الأمل زاه فسيح، وأفق المستقبل متألق بسام. واليوم وقد انقضت الحياة إلا نفاية من وهن وأوصاب، وبساطها قد انطوى إلا طرف يرتعش للانطواء، والأفق نحبو أضواؤه مؤذنة بانسدال الستار، يجد الشيخ نفسه أشد ما يكون حباً للحياة وحرصاً عليها. . من أجل (عزيزة).
وكانت له في الحياة أماني أشتات، تزدحم بنفسه في بعض الأوقات بالمئات، تحقق منها ما تحقق وأخفق منها ما أخفق، واليوم لا يعرف غير أمنية وحيدة، هي أن يعيش ليرى عزيزة ولجت باب الحياة، وثبتت على أرضها قدميها، ولم تعد بحاجة لقبضته الواهنة تأخذ بيدها، ويستطيع أن يستودعها ركناً آمناً هانئاً، ويستقبل المصير الحتم لكل حي بقلب رخي وبال خلي.
لكن هب أن الأجل أمتد به وتحققت الأمنية، وذهبت عنه عزيزة في زيجة سعيدة فكيف تكون حياته بعد ذهابها؟ إنه حقاً إنما يعيش من أجلها، لكنه في الوقت نفسه لا يعيش إلا بها. كانت في حياته أنجم وأقمار وشموس فأفلت كلها إلا كوكب واحد هو هذه الصغيرة، فإذا زخرحت هي الأخرى من سماء حياته ففي أي ديجور بعدها سيعيش؟ ليس في الوجود أرق نغماً من صوتها، ولا أعذب لفظاً ونطقاً وأظرف معنى من حديثها، والحوار معها في دروسها المدرسية متعة عقله وروحه وعود جديد إلى عهد الصبا الجميل، والنزهة معها سبح مع ملاك في فراديس، ووجودها في البيت يجعل فقره الموحش روضة من جنات النعيم. . أي بيت يكون هذا بغير وجودها، حيث لا رفقة تبقى لذلك الشيخ غير الخدم والشيخوخة والأوصاب؟ رفقة أشباح ودميمة في قاعات مظلمة بدار عذاب!
لكن هل شيء من هذا يهم. وهل لشيء مما يتعلق بذاته الغاربة تلقاء ما يتعلق بذات (عزيزة) أي وزن، وكيف لعاطفة من الحنان والحب والواجب؟ أن محيط نفسه الزاخر تلغط جميع أمواجه هاتفة بتلك المنية وصوت الأنانية ضئيل هزيل في موضع سحيق بقاع المحيط لا يصل إلى أذنه ولا يستبين.
ومضت سنون، وأنهت عزيزة دراستها، واستوى قدمها، واكتملت أنوثتها، تلك الهمسة الحقية التي تسرها الطبيعة في نواة جسم الأنثى فإذا حان الحين نبت السر متلوياً في قاعة هيفاء لدنة كغصن البان، وحقاق على الصدر مرمرية في استدارة الرمان، والمفاتن الأخرى التي لا يتغنى فيها بيان عن عيان. . لكن الأنوثة وأن كانت واحدة إلا أنها تختلف كاختلاف لون الورود وعطرها. لقد نمت عزيزة إلى فتاة ممشوقة نحيلة القوام، صامتة جادة حيية، في بياض بشرتها شفافية لطيفة عاجية، وجهها حلو القسمات صغير مستدير، وعيناها جوهرتان أصفى من الندى أشربتا بلون عنبري عميق.
ولم يكن العريس الحبيب عليها بعزيز ولا منها ببعيد. . . إنه شاب وسيم يكبرها ببضع سنين، يشغل وظيفة طيبة في مؤسسة مصرية كبيرة، يمت إلى عزيزة بقربى من ناحية الجدة، ويمت إليها بما هو أقري، تماثل في العقلية والطبع الهادئ الجاد الرزين، وأسمه (فريد).
لقد تقدم لخطبتها غيره كثيرون، لكن ما منهم أرتاح إليه البك الارتياح كله لأسباب أرتآها، أو هفت إليه عزيزة بكامل قلبها لأسباب لا تعرفها، إلا فريد فقد حل من نفسيهما معاً في المكين.
وتمت خطبة عزيزة لفريد، وراح يعد العدة لاستكمال نصفه الذي صحا ذات يوم على افتقاده. كم هي حافلة تلك الأيام يخطو فيها الشاب خطواته ليصبح رباً بعد أن كان فرداً، ويأخذ إلى فلكه كوكباً ليدورا معاً وكان يدور حول نفسه فقط. . . وكان لفريد داره (فيلا) صغيرة راح يعدل فيها ويهيئ كي تصبح العش الجميل له وللألف الحبيب
وأخذت عزيزة تتهيأ لتقلد وظيفتها وأداء رسالتها، رسالة الحب وما يؤدي إليه من صنع خيوط جديدة في نسيج البشرية.
وجاء فريد ذات يوم ليتفق مع البك والعروس على يوم الزفاف وحدده، وانصرف الشاب، وشبعه البك وهو يشد يده في تهنئته دافئة ودعابة لطيفة.
والتفت البك إلى حفيدته العزيزة ليهنئ ويداعب، فلم يرعه منها إلا نظرة إليه بعينيها الفاتنتين تترقرق فيها دمعتان كقطرتي ندى على نرجسيتين.
قال الشيخ مندهشاً: ما بك يا ابنتي؟!. هل تبكين؟!
قالت: يا جدي لا أدري كيف أبعد عنك وأتركك تعيش وحدك!
فأحس الشيخ برجفة نفسانية، وكاد أول وهلة أن يشاطر الفتاة الجزع لكن لم يلبث أن تجلد وربت كتف عزيزته وهو يقول: يا أبنتي لن تكوني بعيدة. أما عن عيشي وحدي فلا تنسي أني جندي، والاخشيشان والاستكفاء الذاتي بعض ما عرفته وألفته، ومهما تقدمت بس السن فلن أضيق بشيء من ذلك ولعلي أتوق إليه.
هذا ما قاله لها. أما ما دار بخاطره فهو: ترى ماذا يمنع من أن تعيش وحيدتي العزيزة هذه معي هنا هي وفتاها بعد زواجهما حتى أموت؟!. لم لا أخاطب فريداً في هذا فقد يرضى به؟. . لكن لا. لقد كنت يوماً شاباً خاطباً مثله، ولم يكن يخطر ببالي إذ ذلك، ولي بيت أن أعيش بزوجتي مع أهلها في بيتهم، ولو طلب إلى ذلك ما كنت أفعله إلا كارهاً. . كلا، ليس أحب إلى عروسين صغيرين من عش خالص لهما، يمرحان فيه على هواهما، ويضحكان بطلاقة، ويتحابان بلا تحرج، ويختلفان إذ لزم الأمر بغير كبت. حرام علي أن أنشد هناتي على حساب شيء من هنائهما. كلا، لن أثقل عليهما بظلي في شيخوختي مثقال ذرة.
وجاءته عزيزة في يوم آخر متهللة الوجه، تجر وراءها فريداً من كمه، قالت: يا جدي، لقد أقنعت فريداً بأن يترك فلته ونعيش معك هنا في بيتنا. . . ورضى.
- أقنعته؟!. . ورضى؟! قال الشاب: إني على استعداد يا سيدي ألبك لأن أفعل أي شيء يكون فيه راحتك وهناء عزيزة.
فأطرق الشيخ برهة، ثم قال. يا بني أن فلتك جميلة جداً، وأنا أتطلع إلى اليوم الذي أزوركما فيه هناك وأجلس في شرفاتها اللطيفة وأستمتع بما يحيط بها من مناظر بديعة. إني شيخ كبير وأصبحت أسأم المكان الواحد وأحب تغيير المناظر.
فأطرق الشاب مرتبكاً ولم يدر ماذا يقول. وحدقت الفتاة أمامها وقد أسقطت في يدها هي الأخرى. وزفت عزيزة لفريد، وسافرا لقضاء شهر العسل في مصيف لطيف.
فلما حل يوم عودتهما كان الشيخ الكبير في انتظارهما بالمحطة، ولو قبع في داره مستريحاً لخفا إليه حال عودتهما، لكنه لم يستطع صبراً، ولم يكن يدري هل غابت عنه عزيزة شهر أم دهراً. وبعد أن ضمها وقبلها في الجبين عرف من أحاديثها الفرحة أن السعادة التي كان يحلم بها لها صارت حقيقة. وتركهما يذهبان وعاد إلى داره قرير العين.
وفي الغد زاره في داره: بعد الغد أخذ سمته إلى فلتها لزيارتهما، فراحا يحتفيان به ويجلسان في كل غرفة وكل شرفة ليمتعاه بالفيلا الجميلة والمناظر البديعة كما كان يقول: وكان وجهه يتهلل بشراً وسعادة، وقل صمته وجده، وكثرت دعاباته اللطيفة وملحه الطريفة. وغادرهما في المساء وعاد إلى داره.
وداعب خادمه النوبي لأول مرة في حياته حتى أبتسم الخادم من نواجذه البيض أمام سيده لأول مرة أيضاً. . وتناول عشاء خفيفاً، بعض الفاكهة وفنجاناً من القهوة، ثم أوى إلى فراشه.
وأستيقظ بعد انتصاف الليل على ضيق في التنفس وحزة في القلب واسطة الجسم وصميم الحياة. فتح عينيه وتقلب كيما يخفف الألم وتسترجع الأنفاس، لكن الألم لم يخف والضيق أزداد. فمد يده وأضاء النور، ثم تحامل حتى جلس متكئاً، فلم يغنه ذلك شيئاً. فمد يده ودق الجرس مستدعياً خادمه، وكان الخادم قد أحس يقظة سيده في تلك الساعة من الليل على غير عادة، فخف إليه فرآه ممسكاً بصدره مكروباً.
- ما لك يا سيدي؟!. . سلامتك يا سيدي!. . هل أستدعي الدكتور؟
- لا. . أعمل لي شيئاً من شراب ساخن. . فنجاناً من الينسون.
وعندما عاد الخادم بفنجان الينسون ألقاه على نضد وقد كاد أن يسقط من يده.
- سلامتك يا سيدي!. هل أستدعي سيدتي عزيزة هانم؟
- لا تزعجها. . بلغها. . سلامي.
وتشهد. . وانتهى.
عبد المغني علي حسين