مجلة الرسالة/العدد 804/طرائف من العصر المملوكي:

مجلة الرسالة/العدد 804/طرائف من العصر المملوكي:

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 11 - 1948



رسالة الدار عن محاورات الفار أو فن القصة

الأستاذ محمود رزق سليم

بقية ما نشر في العدد الماضي

اتبع كذلك المؤلف طريقة الحريري والهمذاني في ابتداع شخصيتين في القصة، شخصية راوٍ هو (حسان) ومروي عنه وهو (الحكيم حسيب) الذي أشرنا إليه فيما سبق. فيقول مثلاً (قال الراوي حسان. معدن الظرافة والإحسان: فتوجه الحكيم حسيب الأديب الأريب إلى إيراد الأخبار. عن الهداة الأخيار. فحكى أن ملكاً من ملوك الأمصار. وسلاطين العجم يدعى (شهريار). . . الخ). وذلك شبيه بما كان يقوله مثلاً أبو قاسم الحريري: حدثنا الحارث بن همام. . . ثم يقص قصته عن أبي زيد السروجي.

وقد توخى المؤلف في كتابه، مفاكهة الناس على اختلاف درجاتهم وتباين مشاربهم، من الحديث المشوق الذي يجذبهم إلى سبل الخير. وأسلوبه وإن كان مزدحماً بالبديع وبخاصة السجع، لأنه من المولعين به، من الحق علينا أن ننصفه، وأن نذكر أنه أخف مئونة من أسلوب المقامات العباسية حين بلغت أوجهاً على يد الهمذاني والحريري. وهو أكثر حكمة وأوفى مثالاُ وأدق تعبيراً وأكثر تحليلاً لخفايا النفوس، وإظهاراً لهواجسها، فلم يقتصر على الأوصاف الحسية بل حلل وتعمق وأمعن ودقق. فليست البراعة الأسلوبية رائدة الأول أو دافعة الأكبر على تدبيج قصصه وتأليف كتابه. وبهذا كله يفترق عن كتاب المقامات.

أما المقامات فقد عرفناها منذ عصر بني العباس، قصصاً وصفية يعني فيها بإظهار البراعة في الصناعة البديعية. وقد اتجه من أدباء العصر المملوكي إلى إجادة هذا الفن من القول. وقد تعددت موضوعاتها واتسع نطاق الوصف فيها، وخرجت عن سمت الاستجداء، واستوت المقامات فأصبحت في مقدمة الأغراض الكتابية في العصر المذكور، ومظهراً من مظاهر الصناعة البديعة، مع قلة تعسف، وخفة مئونة. وقد قرأت أربع مقامات لزين الدين بن الوردي (748هـ) التزم في أولها أن يقول: (حدث إنسان. من معرة النعمان) أو نحو ذلك. ولعله يقصد بالإنسان نفسه، وأولى هذه المقامات (المقامة الصوفية) وقد صور لنا فيه رجلاً لقي عشرة رجال كانوا يتجادلون في أمر الصوفية فطفق الرجل يشرح لهم ما خفي عنهم من أمور الصوفية وأسرارهم وشروطهم وما إلى ذلك. فكأنما هي درس تعليمي لا قصة كما نفهم القصة في العصر الحديث. وضمن منثوره شيئاً من النظم المناسب للمقام. وفي مقامته الثانية (الأنطاكية) حدث عن مدينة إنطاكية وما فيها من مظاهر طبيعية جميلة، وقد لقي فيها وإليها، فجلس إليه، وأخذ الوالي يبثه شكواه من البغيظة الضاربة الرواق بين عجم المدينة وعربها. وخلل نثرها على عادته بأبيات عدة. ومن وصفه فيها قوله عن المدينة: (سورها منيع، وعاصيها مطيع. وأطيارها تحن إلى نغماتها الجوارح. وأنهارها مطردة وعيونها سوارح. ونسمها يبطل رائحة المسك السيق. وساكنها يزهي على الغصن الوريق. يصدأ بهوائها السلاح، وتجلى به القلوب والأرواح برية بحرية. سهلية جبلية. منثورها منثورها:

متكامل فيها السرور لمن بها ... يوماً أقام كما تكامل سورها

وخلت قلوب قصورها فاستضحكت ... إذ عاش شاكرها ومات كفورها. . . الخ

وأنت ترى أن هذه مقامة وصفية. وعلى هذا النسق تقريباً جرى في مقامتيه الأخريين (المنبجية) و (المشهدية). وله مقامة أخرى تعرف (بصفو الرحيق في وصف الحريق) بدأها بقوله (حدث غيث بن سحاب عن ندى بن بحر) واشتملت على وصف حريق شب في مدينة دمشق.

ومن كتاب المقامات صلاح الدين الصفدي (754هـ) وله مقامة وصف حريق أيضاً. وبدو من سياق حديثه فيها أنه نفس الحريق الذي وصفه ابن الوردي في مقامته.

ولتقي الدين بن حجة الحموي (837هـ) مقامة عارض بها المقامة الزورائية للحريري. وللشاب الظريف (688هـ) مقامة وصف بها شاباً برح به الغرام. ولشرف الدين أسد المصري (738هـ) مقامة فكاهية روي فيها حكاية أحد النحاة مع أحد الأساكفة. . .

ومن فرسان المقامات جلال الدين السيوطي (911هـ) الذي ضرب في كل فن بسهم. وله عدد ضخم من المقامات فمنها (بلبل الروضة) وصف فيها جزيرة الروضة. والمقامة (الوردية) وهي قصة تمثيلية أبطالها الأزهار! فقد افترض الكاتب أن الأزهار اجتمعت عساكرها وعقدت مجلساً حافلاً للجدل والمناظرة لاختيار أحقها بالملك فصعد كل منها المنبر وحاور وجادل. فتحدث الورد أولاً ثم النرجس فالياسمين فالبان فالنسرين فالبنفسج فالنيلوفر فالريحان، ورشح كل منها نفسه وزكاها ببيان أوصافها وذكر مزاياها. . . ثم أسلم الجميع للريحان وخضعوا لسلطانه.

وعلى نمط مقامته الوردية دمج عدة مقامات أخرى وصف فيها أنواعاً من الثمار أو الأحجار الكريمة أو نحو ذلك مثل المقامة (المسكية) و (التفاحة).

ومن أطراف مقامات السيوطي مقامته (رشف الزلال من السحر الحلال) وتسمى أيضاً (مقامة النساء) وقد وصف فيها عشرون عالماً في فنون مختلفة - ما بين نحوي ومفسر وفقيه وأصولي. . . الخ - ما جرى لكل منهم بينه وبين عرسه ليلة دخوله. . . دوري كل منهم في حديثه بمصطلحات علمه وفنه. . .

وعلى نمط المقامات تعددت وتنوعت مظاهر القصة الأخرى من رسائل ومحاورات وموازنات ومفاخرات كالموازنة بين النار والتراب، والمفاخرة بين السيف والقلم.

أما سير الأبطال وتراجم الرجال فما أكثرها في هذا العصر وما أجلها وأعظم شأنها، غير أنها أقرب إلى النزعة التاريخية منها إلى النزعة الدبية. ومن بينها موسوعات ضخمة، ومن بينها تراجم فردية مستقلة. ومن أمثلة الأخيرة وهي التي تقص سيرة رجل واحد، كتاب (عجائب المقدور في أخبار تيمور) لشهاب الدين بن عريشاه (854هـ) الذي أشرنا إليه من قبل. و (التأليف الطاهر في شيم الملك الظاهر) وهي سيرة السلطان جقمق كتبها ابن عريشاه أيضاً. وكتاب (تاريخ الناصر بن قلاوون) لمؤلفه شمس الدين الشجاعي و (ترجمة الأوزاعي) لابن حجر العسقلاني (854هـ) و (سيرة نور الدين زنكي) لبدر الدين بن الشهيد الدمشقي كتبه عام (874هـ). وغير هذه المؤلفات كثير.

وقبل أن نختم هذا المقال نحب أن ننوه بشيئين هما من القصة بسبيل: أحدهما الشعر القصصي، والثاني الشعر التمثيلي وهما من الأدب العربي - إلى عهد قريب - نادران. ومن العجيب أن ترى في العصر المملوكي نشاطاً من القراء في ميدان القص، وقد نوهنا في مقالتنا عن (البردة) عن مجهود أصحاب البديعيات، وعن أدباء البردة الذين عارضوها، ومنظوماتهم عبارة عن قصة الرسول عليه الصلاة والسلام. وللشعراء في غيرها جهود محمودة، فمن منظوماتهم (سيرة بيبرس) لمحي الدين بن عبد الظاهر (692هـ) و (سيرة برسباي) لبهاء الدين الباعوني (910هـ) وهي أرجوزة في 557 بيتاً. والجوهرة في سيرة المؤيد شيخ نظمها بدر الدين العيني (855هـ). والعجيب أن ترى هذه النزعة القصصية لدى الزجالين، وقد نوهنا بذلك في مقالنا عن الزجل والزجالين وأشرنا إلى جهود القيم خلف الغباري، والقيم بدر الدين الزيتوني.

أما الشعر التمثيلي فليس له وجود بالمعنى الذي نفهمه في العصر الحديث أو عنه في العصور القديمة في الآداب الأجنبية. غير أن بعض أدبائنا عثروا عن كتاب (طيف الخيال) لمؤلفه الشاعر الناثر الماجن الطبيب شمس الدين بن دانيال الموصلي (710هـ) الذي كان يعيش بالقاهرة، وقد تصفحنا هذا الكتاب في دار الكتب المصرية. وهو مطبوع في أوربا وبه مقدمات مكتوبة بالألمانية. ولعل المطبوع منه قسم من المؤلف الأصيل. ونستطيع القول إنه عبارة عن مقامة تمثيلية طويلة يصف فيها المؤلف لعبة (خيال الظل). وينطق فيها أبطال التمثيل على مسرح أمام النظارة، خلف ستار يضاء بالشمع. أما الأبطال فشخوص متعددة منها ما يمثل آدميين، وما يمثل حيوانات. ومن الآدميين: الريس، وطيف الخيال وهو شخص أحدب، وحويش الحاوي، وعسيله المعاجيني، ونباتة العشاب. . . الخ ومن الحيوانات. الأسد والدب. . . الخ. ولكل من هؤلاء جميعاً دور يؤديه وحديث يلقيه. يتقدم فيحدث ويحدث ويحاور ثم يتوارى ويترك الميدان لغيره، وهكذا دواليك. ويتخلل الحوار المنثور أبيات وأغاني وأناشيد عدة. والقطعة المطبوعة من طيف الخيال تتألف من جملة فصول أو مناظر، لكل منها حديث وحوار. واعتقادنا أن ما أورده أبن دنيال في طيف خياله هذا، ما هو إلا نمط من أنماط عدة كثيرة، ورواية من روايات مختلفة كانت تمثل بين الناس في تلك العصور الخالية للهو والتسلية والعظة والاعتبار؛ فالكتاب على ما فيه من مجون وفكاهة فيه أيضاً مثل وحكمة. وعلى أية حالة فهو يومي إلى أن التمثيل المسرحي والرواية التمثيلية والشعر التمثيلي كانت كلها تدور في مخيلات القوم في ذاك الزمن السحيق، ولو إلى حد ما.

ولا يتسع حديث واحد كحديثنا اليوم لاستيعاب القول عن مظاهر القصة في العصر المملوكي. فكل مظهر منها يحتاج إلى دراسة، فلعلنا - أو لعل غيرنا - يعود إليها في فرصة أخرى.

محمود رزق سليم

مدرس بكلية اللغة العربية