مجلة الرسالة/العدد 805/حقوق الإنسان في هيئة الأمم

مجلة الرسالة/العدد 805/حقوق الإنسان في هيئة الأمم

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 12 - 1948


للأستاذ عمر حليق

سنتان والنقاش مستمر في هيئة الأمم المتحدة حول إقرار ميثاق لحماية حقوق الإنسان.

وأمام الجمعية العمومية بباريس الآن اقتراحات بعضها مشوه وبعضها متناقض في مبادئ أساسية في تقرير الحرية والحقوق والواجبات التي لابد منها لكل ميثاق يوضع لحماية حقوق الفرد نحو الفرد والفرد نحو المجتمع، والفرد نحو الدولة والدولة نحو الفرد. ولا تزال هذه الحقوق موضوع بحث ومناقشة وتعديل في لجنة حقوق الإنسان التي أسسها المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع لهيئة الأمم المتحدة في أواخر عام 1946.

وفي خضم الجدل السياسي العنيف الذي يشوب اجتماعات الأمم المتحدة يكاد مشروع ميثاق حقوق الإنسان لا يجد من ألسنة الرأي العام من ينوء به ويشير إليه بما يستحقه. ذلك لأن إقرار ميثاق عالمي لحماية الحرية والحقوق والواجبات سيكون معلمة خالدة من معالم الحضارة المعاصرة.

ولكن روح السخرية التي جلبتها هيئة الأمم المتحدة على نفسها بعد مهازلها السياسية في فلسطين وإندونيسيا وحيدر أباد وكشمير واليونان وكوريا وغيرها جعلت مجهود الأمم المتحدة في سبيل هذا الميثاق لوناً من ألون الجدل البيزنطي العقيم.

على أن الآراء التي أبداها مندوبو الثماني عشرة دولة التي تؤلف لجنة حقوق الإنسان فيها طرافة وانعكاسات عميقة في ناحية مهمة من نواحي التفكير والاتجاهات والمذاهب السياسية والاقتصادية المعاصرة. وسأحاول هنا أن أعرض بعض هذه الآراء وطرفاً من الجدل الذي احتدم حولها بين مندوبي هذه الدول. أمام اللجنة الدولية التي وكل إليها وضع ميثاق حقوق الإنسان صيغة تحضيرية لا يزال المندوبون يتناولونها فقرةً فقرة بل كلمةً كلمة.

خذ مثلاً المادة الثانية التي تنص على أن لكل فرد الحق في جميع ما ينص عليه الميثاق من حقوق وواجبات (بدون تمييز في الجنس واللون واللغة والعقيدة والمذهب السياسي ومميزات الثروة أو العراقة أو المحتد.

هذه المادة كانت موضوع جدل عنيف جداً؛ لأن مندوب الاتحاد السوفييتي أصر على إدخ كلمة (الطبقة الاجتماعية) في هذه المميزات المحرمة، والطبقة كما لا يخفى تحتل مكانة أصيلة في الفلسفة الماركسية.

وأصر الروس على إجراء هذا التعديل وتألفت لحل هذا الإشكال لجنة فرعية مؤلفة من أمريكا وفرنسا وروسيا واتفقوا بعد جدل عنيف على إضافة كلمة النسب إلى الأنظمة الاجتماعية التي يجب أن لا تكون مميزة للفرد على الفرد.

وبالرغم من أن جميع مندوبي الدول وافقوا مبدئياً على روح الميثاق إلا أن الخلاف على تفاصيله وصياغته كانت من أصعب الأمور التي كانت الأمم المتحدة القيام بها.

وهذا ما اشتكى منه الدكتور شارل مالك أستاذ الفلسفة في جامعة بيروت الأمريكية سابقاً ومندوب لبنان في هيئة الأمم، فهو المقرر للجنة حقوق الإنسان بالإضافة إلى رئاسته للمجلس الاقتصادي والاجتماعي.

ذلك لأن الخلاف على الصياغة وحرفية الميثاق يستمد عنفه من التباين في المذاهب السياسية والاقتصادية والفكرية التي تدين بها دول الجيل المعاصر.

خذ مثلاً خطبة الإنتاج التي استهلت بها المسز فرانكلين روزفلت مندوبة الولايات المتحدة ورئيسة لجنة حقوق الإنسان.

قالت مسز روزفلت: (إن هذا الميثاق (ميثاق حقوق الإنسان) يجب أن لا يفرض التزامات قانونية على الدول، مع العلم بأن مبادئه هي أسس الحرية التي يجب أن يكون السعي لتحقيقها هدف جميع الدول والشعوب). ووافقها مندوب السوفيات الدكتور بافلوف ذلك. ومع هذه الموافقة كان نقاش مسز روزفلت والدكتور بافلوف من أعنف ما شهدته اللجنة.

وبروح السخرية الخفية قالت المسز نيولاندز مندوبة نيوزيلندة بأنها وإن كانت تواقة لأن ترى الدول توافق على ميثاق عالمي لحقوق الإنسان إلا أنها ترى من الأهم، قبل كل شيء، أن يوضع مشروع عالمي مماثل يضمن إخلاص الدول في تنفيذ هذا الميثاق. وتابعت مندوبة نيوزيلندة الكلام مشيرة إلى أن الدول والشعوب تتفاوت في مستوى التقدم الفكري والرقي الاجتماعي والمناهج السياسية والأنظمة الاقتصادية، وإن لكل منها كياناً خاصاً يختلف في كثير من الأوجه عن كيان الدول الأخرى وأن أية محاولة لحملهم على التقيد بميثاق موحد يفرض عليهم فرضاً دون تعديل وتحوير محاولة لن تسفر عن النتيجة المتوخاة، وأن التراث الثقافي والتاريخي الذي تستمد منه الدول مبادئها وآراءها وفلسفتها في الحياة يستوجب التريث قبل أن ترتبط الدول بالتزامات أدبية ودولية تقتضيها روح ميثاق حقوق الإنسان ونصه. وأن على كثير من الدول أن تعيد النظر في مدار هذا الميثاق على ضوء الأنظمة القانونية والتقاليد والعادة والعرف التي تدين بها المجتمعات التي تعيش فيها.

واتخذ مندوب اليونان حقه في النقاش وسيلة إلى التنويه بالديمقراطية التي نشرت الثقافة اليونانية في عصور الجهالة القديمة، وقال إن الأمم المتحدة مسؤولة أمام الحضارة عن إقرار هذا الميثاق.

وانتقد كثير من المندوبين الصيغة التحضيرية للميثاق لأنها لا تصر إصراراً كافياً على واجبات الفرد بنفس الحماسة التي تصر بها على حماية حقوقه. وكان مندوب جمهورية كوبا في أمريكا الجنوبية هو بطل الحملة في هذه النقطة المهمة. وتكلم مندوب الاتحاد السوفيتي معقباً فقال إن الدستور السوفيتي والنظام الشيوعي، وتعاليم ماركس ولينين تصر جميعاً على إقرار حقوق الفرد بنفس القوة التي تطلب بها منه القيام بالواجبات.

وتابع المندوب الكوبي الدكتور جينوروز ' تفنيده الميثاق مشيراً إلى أن حقوق الفرد الاجتماعية (بالمقارنة إلى حقوقه السياسية والاقتصادية) ليست تحتل المكانة التي يجب أن تحتلها في الميثاق، وأن تعديلات أساسية لإثبات حقوق المرأة وحمايتها يجب أن تدخل في صلب الميثاق المقترح.

وعند بحث هذه النقطة تكلم مندوب المملكة العربية السعودية السيد جميل البارودي فلفت النظر إلى أن الميثاق على الجملة لا يلائم المبادئ والعادات ومفهوم الحقوق والواجبات التي يدين بها المجتمع السعودي، وهي مبادئ وعادات تختلف - في بعض الأحوال - اختلافات جوهرية عن المبادئ التي نص عليها الميثاق والمستمدة من الحضارة الغربية والتراث الثقافي الغربي. ومن الطريف ذكره أن السيد جميل البارودي مندوب المملكة السعودية مسيحي من لبنان يستوطن الولايات المتحدة، وقد استخدمه الوفد السعودي ليمثله في بعض أعمال هيئة الأمم، وقد دافع عن وجهة نظر السعوديين في أهمية الثقافة الإسلامية بالرغم من أنه لا يدين بها. وكذلك فعلت السيدة إليس فندلفت مندوبة سوريا في لجنة حقوق المرأة في مناسبة مماثلة.

وأثار مندوب اتحاد جنوبي أفريقيا مسألة حقوق الأقليات فقال إن حكومته لا توافق على نص الميثاق بخصوص الأقليات. فإن ممارسة الحقوق - في رأيه - يجب أن تكون مصحوبة بتوفر المؤهلات. وهو بذلك يعني تقييد حقوق العبيد والهنود في اتحاد جنوبي أفريقيا الذين لا يزالون يصارعون في سبيل الحصول على حقوقهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية هناك.

وتكلم مندوب الاتحاد السوفيتي الدكتور بافلوف بإسهاب في إحدى الجلسات الأخيرة فقال إن في لجنة حقوق الإنسان ثلاث جبهات: جبهة تقول بأن الميثاق المقترح يذهب إلى أبعد مما يجب. وجبهة ثانية أظهرت بعض الحماس لبعض مواد الميثاق وأهملت البعض الآخر، ولكنها على الإجمال راضية عنه. أما الجبهة الثالثة فلا تعتقد أن الميثاق المقترح يلبي الحاجة ويسد الفراغ، وأنه يجب أن يعدل ليكون أكثر ملاءمة للتطور التقدمي الذي يكتسح العالم، والاتحاد السوفياتي منضم إلى الجبهة الأخيرة.

واشتكى المندوب الروسي بأن بريطانيا تحاول أن تتخلص من قبول الالتزام بشأن شعوب مستعمراتها، وأن الدول المستعمرة إجمالاً قد تحالفت في اللجنة وأسقطت من الميثاق المقترح الحقوق الأساسية التي قد تستطيع الدول الخاضعة للاستعمار بواسطتها التخلص منه.

وأجاب المستر مايهو البريطاني على تعليقات المندوب السوفيتي مذكراً بالالتزامات الأدبية التي يفرضها الميثاق المقترح إذا اتخذ مثلاً عالمياً أعلى لحقوق الإنسان. وقال إن بريطانيا ستطبق مبادئ الميثاق على الدول الواقعة تحت حكمها أو انتدابها.

وأجاب إجابة مباشرة على اتهامات المندوب السوفيتي قائلاً: إن اتهام بريطانيا باستغلال حريات الشعوب هو من قبيل الدعاية التي يلجأ إليها الروس في المحافل الدولية بين آن وآخر، وأن خير مثل على استعباد الشعوب واستغلال حرياتهم هي الشيوعية وحملتها من السوفيت، فإنها أعنف أنواع الديكتاتوريات التي عرفها العالم. إن الأحرار الذين نالوا الويلات على يد الفاشية والنازية وجدوا الآن أنفسهم مضطرين إلى النجاة بأرواحهم من طغيان الشيوعية في أوربا الشرقية. وتابع المندوب البريطاني قائلاً: إن مندوب السوفيت الذي يقف هنا نصيراً للحرية يجدر به أن يتذكر بأن حكومته هي الدولة الوحيدة من بين دول العالم التي حققت توسعاً استعمارياً إقليمياً في السنوات الأخيرة. وقال إن الشيوعية قد شنت حملات شعواء على الأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في بريطانيا وفي جميع البلدان خارج منطقة النفوذ السوفيتي.

وجاءت هذه الحملات ارتجالية دون تحد سابق إلا العداء الكامن الذي تكنه الشيوعية لجميع المبادئ التي تخالفها في الغايات والسبل. وإن من الإنصاف أن ترد بريطانيا التهمة عن نفسها.

وقال مندوب جمهورية كولومبيا في أمريكا الجنوبية إن هدف هذا الميثاق هو في الواقع تقرير مبادئ أساسية لا للتدخل بين الدول ورعاياها أو بين الفرد والمجتمع.

وأصر مندوب بولندا على أن تكون بعض المبادئ الجوهرية للميثاق مستمدة من الفلسفة الماركسية وتقدم بأربع نقط ليدعم بها الميثاق وهي:

1 - أن الحقوق السياسية عديمة الجدوى إذا لم تعزز بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية.

2 - يجب أن يكون القيام بالواجبات شرطاً لإعطاء الحقوق للفرد وحمايتها.

3 - للشعوب الواقعة تحت الحكم الأجنبي أن تتمتع بمزايا الميثاق تماماً كما تتمتع به الشعوب المستقلة والدول الحاكمة.

4 - يجب أن لا تكون موافقة الدول على الميثاق مدعاة إلى التدخل في شؤونها الداخلية.

وعقب مندوب بلجيكا الكونت دي وييارت نقطة الواجبات مطالباً بأن يتضمن الميثاق نصاً بالتزامات حسن الجوار، واقترح لهذا النص إحدى الوصايا العشر التي نص عليها الكتاب المقدس وهي (أحب لجارك ما تحب لنفسك).

وأبدى بعض المندوبين روح تسامح وسعة أفق ورغبة صادقة في التغلب على الخلافات الحادة. فقال مندوب جمهورية الشيلي في أمريكا الجنوبية مثلاً.

إن تحضير لميثاق عام كميثاق حقوق الإنسان أمر يتطلب الصبر والأناة وسعة الأفق والتسامح والرغبة الصادقة في التعاون وتقريب وجهات النظر. فإذا عجزنا أن نحمل السوفيات وحلفاءهم والدول الغربية على التسامح والتنازل عن بعض الخلافات الحادة، فلن يجدي جدلنا هذا نفعاً. ويجب كذلك أن تسعى لتقريب وجهات النظر في المبادئ الجوهرية بين حضارة الغرب وبين حضارات الشرق وبين الأنظمة القانونية التي تختلف جوهرياً في العالم الأنجلو سكسوني مثلاً عنها في العالم اللاتيني.

وناشد الدكتور كريم عزقول مندوب لبنان اللجنة بأن توافق على الميثاق لتعيد إلى الإنسانية البلبلة الفكر المتوترة الأعصاب إيمانها بالقيم الروحية ومكانة الفرد وعزته.

ولا تزال اللجنة تواصل النقاش حول مواد الميثاق.

(نيويورك)

عمر حليق

سكرتير معهد الشؤون العربية الأمريكية