مجلة الرسالة/العدد 805/رسالة النقد

مجلة الرسالة/العدد 805/رسالة النقد

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 12 - 1948



موسى كليم الله

لفضيلة الأستاذ الشيخ عبد الحميد مطاوع المدرس بالأزهر

قصة سيدنا موسى، عليه السلام، معروفة إجمالاً وتفصيلاً للخاصة وللعامة من اليهود والمسيحيين والمسلمين شرقاً وغرباً؛ لأنه نبي معترف بنبوته في الديانات الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام، وهو أظهر أنبياء العهد القديم؛ شأناً وسيرة، وقد تحدث بسيرته (القرآن الكريم) في مواضع عدة حسب مناسبات مختلفة لم يتحدثه بأحد غيره من الرسل والأنبياء. وكذلك الأحاديث النبوية، وتبعتها أحاديث الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الإخباريين والقصاص والمؤرخين والمفسرين.

من أجل ذلك كانت الكتابة المفصلة في هذا الموضوع عرضة لخطر التكرار المملول الذي تضيق به الأسماع والقلوب، وكان تلمس الجدة عند محاولة الكتابة فيه أمراً بالغ الخطر واجب الرعاية. وما الجدة المراد تلمسها أمراً متعذراً ولا متعسراً على راغبيها المقتدرين، وهي ألزم ما تكون لمن يخاطبون بكتاباتهم الخاصة لا العامة كمؤلف هذا الكتاب.

ونقرأ هذا الكتاب فنجده خالياً كل الخلو من الجدة، فهو تأليف بكل معنى هذا اللفظ في أصله اللغوي العام وهو (الجمع): الجمع لمعلومات أغلبها تافه ملفق وأغلبها جليل صحيح، فكثيره احتطاب ليل وقليله اجتناء لا حيلة فيه ولا مناص منه، لأن المعول عليه في القرآن الكريم. ولم يحاول المؤلف الخروج عن الجمع الساذج إلى شيء إلا الوعظ الرخيص وتلمس العبر التافهة بأسلوب معوج، فنحو ثلثي الكتاب عظات واستنتاجات (خطابية) ونحو ثلثه تاريخ مجموع على النحو الساذج الذي أشرنا إليه لم يعن فيه جامعه بما يعني به المؤرخون على اختلاف مناهجهم وكفاءاتهم وأمزجتهم وأهدافهم.

فهو كتاب وعظ لا تاريخ مع أن صاحبه يتظاهر فيه بأنه مؤرخ لا واعظ، وهو في حديثه يسوق الكلام إلى ما يقبل العقل والذوق وما لا يقبلان. ترصد الصيد عظة رخيصة أو افتعالها. وتكاد تتكرر في كل صفحة (قيل) و (قال) ولا شيء بعدهما عدا العظات، ولو تأدى تصديق القيل والقال إلى التعرض في المحال والتطوح مع الخيال إلى أبعد حدود الضلال.

في الكتب الإسلامية قصص يسميها العلماء (الإسرائيليات) يدور أكثرها حول موسى خاصة وبني إسرائيل عامة، ولقد حذر (الفاهمون الغير من العلماء) من التورط في تصديق هذه (الأساطير) التي دسها (الإسرائيليون) في (الإسلاميات) رغبة العبث والضلال، ورواها عنهم بعض (الطيبين) من علمائنا، أو نحلها إياهم هؤلاء (الإسرائيليون) ثم نقلها الخلف عن السلف بأسانيدها أو بغيرها بنية (سليمة) ضرورة أن في القرآن آيات تتضمن قصصاً لابد من تفسيرها، ولم يكن لأحد الجرأة على الخوض في تفسيرها بالحق حيناً وبالباطل أحياناً، إلا علماء (يهود) الذين عندهم علم (كل) شيء كان وكل شيء (سيكون) فما من أمر في السماء وفي الأرض حدث أو سيحدث إلا وفي (ثوراتهم) ذكره ووصفه وميقاته وكل ما يتصل به لا مجملاً بل مفصلاً أوضح تفصيل وأدقه، ولا ريب أن من القراء من أتاهم نبأ (الإسرائيلي) الذي حدث عمر بن الخطاب فعل مقتله بثلاثة أيام بأن وصفه وأخلاقه وملبسه، بل يوم موته بالتحديد مدون في (التوراة). وإذن فلا ريب أن هذه التوراة قد أحصت كل شيء علماً، وأحاطت به خبراً، وأنها صورة من علم الله.

وهذا الكتاب قد حشرت له (الإسرائيليات) حشراً لم يترك منها فيما يتصل بهذا الموضوع حتى ما لم توح به نصوص القرآن ولا يرتضيه عقل مستقيم ولا يقبله ذوق مهذب. وإليك مثلاً من عشرات وقعت في الكتاب وصف الله فيها بصفات (توراتية) معاذ الله فالذي وصف فيها هو (يهوه رب الجنود) كما يسمي اليهود إلههم ويلقبونه. في هذا المثل ترى (يهوه رب الجنود) في أقصى جنونه الوحشي يدبر المكايد، ويتجنى على (الضعفاء) الذنوب ويدفع بفرعون دفعاً إلى الكفر والعناد ثم ينتقم منه أبشع انتقام ويشمت به أقبح شماتة: هذه مؤامرة يشترك فيها (رب الجنود) مع جبريل وميكائيل ضد فرعون الذي وقف مع جيشه على شاطئ البحر متردداً في اقتحامه خلف الإسرائيليين الهاربين من وجهه، ووزيره هامان ينصحه بالإحجام فيرسل (رب الجنود) جبريل أمامهم يغريهم، وميكائيل من خلفهم يرفعهم، ويحسنان لهم عبور البحر، ويوقظان فيهم شهوة النكال بموسى، ثم لم يكتفوا بذلك، فامتطى (جبريل فرساً أتاناً عريضة الكفل حسنة المنظر (تأمل هذين الوصفين) فتقدم بها جواد فرعون الفاره وضرب فرسه فتحركت أمامه وجرت تخايله فأندفع جواد فرعون (كذا) وتدافع قومه بعده بخيلهم ورجلهم) ص 89 وأتاه جبريل - وهو يشرف على الغرق - وأراه فتيا كان قد خطها فرعون بيده مغزاها أن العبد الذي يجحد فضل سيده جزاؤه الغرق في البحر (فناوله جبريل إياها وأطلعه عليها والماء يلجمه ويغصهن فعرف خطه وبكى حظه، ثم ندم، ولات ساعة مندم.

أرأيت تفصيلات هذه المؤامرة الصبيانية التي لا تليق بإنسان رشيد له قلب بعطف أدنى فضلاً عن إله وملائكته؟ إن شئت غيرها فأمثالها في الكتاب كثير تبلغ عشراً وعشرات.

وفي الكتاب عشرات المحالات في غير ضرورة من دين أو عقل أو ذوق، وهاك مثلاًك أرسل موسى وهو في التيه - أثنى عشر نبياً من الإسرائيليين (البواسل) إلى أرض كنعان للتجسس، فلقيهم كنعاني (وهو عوج بن عنق، وكان فاره الجسم يطاول السماء بقامته - رأى النقباء أمامه فأخذهم في كمه مع فاكهة يحملها من بستانه، وجاء بهم إلى ملكه ونثرهم بين يديه. . .) ص 149 أين خيال الكاتب الإنجليزي مؤلف قصة (جلفر) وقصوره من خيال سادتنا العلماء (الطيبين) في هذه (الإسرائيليات). لقد اشتط القصصي المسكين في خياله هازلاً فما ظفر بغير هذه البدائع (المقدسة) التي أوردها سادتنا الأبرار جادين بل مسرفين في الجد والإيمان. إن لم تكن أعجبتك هذه ففي الكتاب عشرات أمثالها. ولقد زعمت لك قبل أن المؤلف لم يكن عمله في كتابه هذا إلا الجمع، وأنا أنزل عن هذا الزعم هنا مرة واحدة لأن المؤلف استعمل هنا عقله فسكت عما تذكره الإسرائيليات عن (عوج بن عنق) وهذا فقد ذكر ما ذكرته من أنه كان (يطاول السماء بقامته) ولكنه لم يقل ما قالته من أنه - لطوله هذا - كان يمد يده فيخرج الأسماك من أقصى قيعان البحر ويرفعها أمام الشمس فيشويها في حرارته ويأكلها هنيئاً مريئاً.

والمعجزات في الكتاب أكثر من أن يحيط بها عقل، وأعجب كيف حملها الكتاب، ففي كل حركة يتحركها موسى وقومه وأعداؤه بل في كل همسة معجزة ضخمة وفي كل معجزة ضخمة أصغر منها، وإن تكن المعجزات في (إقناع) العقل سواء فلا صغيرة فيها ولا كبيرة إلا من حيث المساحة، وفي الكتاب يبدو (يهوه رب الجنود) الذي اختار (يهود) شعباً له وفضلهم على سائر خلقه - يبدو قائماً قاعداً لا يهدأ له بال ولا يقر له قرار، ولا يهتدي إلى حل مشكلات (شعبه المختار) سواء ما شجر منها بين بعض أفراده وبعض وما شجر بينهم وبين الشعوب الأخرى التي قدر للشعب المختار أن يحتك بها ويساجلها الكراهة والتمازع بل (يتطوع) بكرهها ومنازعتها لوجه (يهود) أو لوجه (الشيطان).

أورد المؤلف في كتابه بالتفصيل كل ما قيل في موسى من الإسرائيليات الواردة في الروايات الإسلامية، وألم بأطراف مما ورد فيه ذكر موسى من التوراة، فتحدث بنسبه ومولده ونشأته وهربه إلى مدين وعودته إلى مصر رسولاً، وخروجه منها ببني إسرائيل قائداً لهم، والطريق الذي سلكه بهم، وما جرى لفرعون وجنده في مطاردتهم، وما حدث له ولقومه في صحراء سيناء من سياسته الشاقة لهم، ونزول التوراة عليه وعبادتهم العجل في غيابه، وقصته مع هارون أخيه بعد رجوعه بالتوراة حين وجدهم يعبدون العجل، وقصته مع الخضر (العبد الصالح) وقصته مع قارون وإيذائه إياه وانتقام الله منه إذ خسف به وبداره الأرض ومقامه مع قومه في التيه أربعين سنة، وقصة بلعام بن باموراء العالم الإسرائيلي (وكان في مجلسه اثنا عشر ألف محيرة للمتعلمين يكتبون عنه ويرصدون غزير علمه) فغضب الله عليه لأنه لم يشكره يوماً على ما أعطاه، وتحدث المؤلف بما حدث على يد موسى من معجزات في هذه المواقف كلها، ومن هذه المعجزات ما ذكره القرآن ومنها ما لم يذكره و (تطوع) أصحاب (الإسرائيليات) بذكره، وذكر المؤلف قصة هرون أخيه وموته ثم موت موسى ودخول (يهود) أرض الكنعانيين، تحت قيادة خليفته عليهم (يهود) إلى (الحجاز)، ولا موضع لمثل ذلك في سيرة موسى.

يقول المؤلف في مقدمة كتابه (اتخذت القرآن الكريم إمامي، والأحاديث النبوية عمادي، وآثار الصحابة والتابعين سندي، ورواية الثقات من المفسرين مرشدي، وما تراضى عليه المؤرخون واللغويون مصدري، ورتبت القول بما يتفق ومجرى الحال من ولادته حتى وفاته) ص6. وهذا تعريف بمصادر الكتاب ناقص من ناحية وزائد من ناحية، فهو ينقل عن التوراة وكتب علماء الآثار مثلاً معلومات كثيرة، ولا يرفض ككثير من (ثقات المفسرين) ما في (الإسرائيليات) من شطط ومحال. وتعريفه بالكتاب ومصادره وكيفية الانتفاع بها في مجمل غامض لا يفيد من يريد المراجعة والمحاسبة.

ومن أعجب العجب في الكتاب أن مؤلفه إذا ذكر آية من القرآن ذكر رقمها وسورتها، وينقل عن التوراة آيات برمتها فلا يذكر أرقامها في إصحاحاتها - إلا مرة واحدة نقل فيها نقلاً وأشار إلى أنه من سفر الخروج (ص 103) دون تعيين الإصحاح ولا رقم الآية فيه - وينقل عن مصادره الأخرى ومنها كتب التفسير وكتب عبرية مخطوطة، وكتب لعلماء الآثار الغربيين، وكتب لمؤرخين وطنيين وأجانب فلا يشير مرة واحدة في هامش صفحة إلى اسم الكتاب الذي نقل عنه صفحة نقله إلا مرة واحدة ذكر فيها خبراً، وأشار إلى أنه من رواية (الإمام القرطبي والنسقي والنيسابوري، وسواهم من أئمة المفسرين) ص 27. وهذا سير عجيب بل سير مريب لأنه يفترض أن كل هذه المصادر البعيدة معروفة للقراء فلا داعي لذكرها ما عدا القرآن فهو مجهول ولذلك لا غنى عند ذكر الآية من ذكر رقمها في سورتها. هذا مع أن الكتاب ألف باللغة العربية كي يقرأه أقل من يعرفونها دون سواها، فهو يكاد يكون مؤلفاً لعامة المسلمين وحدهم.

والمؤلف يسوق قصة موسى كما وردت في القرآن وقصته كما وردت في التوراة على أنهما متكاملتان، وهذا السياق يوقعنا في خطأ كبير، وهأنذا أقرر - ولا أدري أحداً سبقني إلى قراري هذا - أن الصورة التي يتبينها القارئ في نصوص القرآن لموسى تختلف اختلافاً كبيراً عن الصورة التي يتبينها له من تأمل نصوص التوراة رغم اتفاق القصتين في معظم الوقائع العامة، وأن الله في نظر موسى كما ذكر القرآن يختلف اختلافاً كبيراً عن (يهوه) في نظر موسى كما ذكرت التوراة، فإن موسى المؤمن بالله الواحد غير موسى الذي اختص هو وقومه بعبادتهم (يهوه) مرة، و (إلوهيم) - ومعناها الآلهة - مرة أخرى.

والمؤلف ينقل عن التوراة مسلماً بصحتها، ولا أريد أن أصدمه برأي الثقات من علماء المسلمين، ومبلغ ثقتهم بهذه (التوراة) كما فهموا من نصوص القرآن، لا أريد صدم المؤلف بذلك رغم أنه مسلم بل عالم من علماء الأزهر، ولكني أشير عليه أن يعيد قراءة التوراة كلها بفهم وتدبر، وأنا بواثق من أنه سيغير رأيه فيها كل التغيير، وليسمح لي أن أهمس في أذنه بأن الجهل التام شر من بعض العلم ولاسيما في هذه المسائل التي تؤخذ كلها. فليحط خيراً بما يريد الاعتماد عليه من المصادر، وإلا فحسبه مصادره الإسلامية وحدها، وشفيعه أنه من (علماء الأزهر) لا يثق إلا بما يثق به دينه وعلماؤه الفاهمون، فأما تقحم المعضلات بلا أهبة وخطف جملة من هنا ونبذة من هناك دون استيعاب ولا تمحيص فإثمه أكبر من نفعه.

لقد نقل المؤلف - كما أسلفت - عن كثير من علماء الآثار والمؤرخين الغربيين، وهو يهتم بذكر التفصيلات التافهة فكان عليه - لذلك - أن ينظر فيما أصدروا من أحكام خطيرة هي في حاجة إلى إبداء رأيه فيها لخطرها وخطر أصحابها. فالعالم النمسوي المشهور سيجموند فرويد - وهو يهودي غير متهم - يذهب في ترجمته لموسى أنه مصري لا يهودي، ويرى غيره أن موسى مات قتيلاً لا حتف أنفه وأن اليهود هم الذين قتلوه حين ضاقوا به وبإصلاحاته، وغيره يرى أنه تعلم في (جامعة عين شمس) على أيدي كهنتها، ومنهم من يرى أن فرعون المشار إليه في التوراة والقرآن ليس ملكاً مصرياً بل أحد الحكام الصغار في أقاليمها الشمالية الشرقية، ومنهم من يرى أن بني إسرائيل لم يتوغلوا داخل حدود مصر، ولم يتجاوزوا حدود صحراء سيناء أثناء ضربهم في الأرض شرقاً وغرباً، ويستدل قائل ذلك على قوله بسكوت التاريخ القديم عن ذكر عن ذكر هؤلاء الإسرائيليين بأي اسم من أسمائهم المعروفة قديماً وحديثاً، ومن هذه الأقوال ما لا يتعارض مع نصوص القرآن ومنها ما يتعارض معها، فهل عند فضيلة المؤلف علم شاف بهذه الأحكام التي لم تصدر جزافاً، وهل عنده حجة للرد على ما يتعارض منها مع نصوص القرآن؟ أنا في انتظار الجواب، وهو أول من يدل برأيه في هذا المجال الذي اختص به وعرف فيه حتى ما ذكره الغربيون كما يدل عليه نقله عنهم، ولعل فضيلته لا يبخل علينا بالجواب، كي تتم فصول الكتاب.

والمؤلف يعلم - أو يجب أن يعلم - من دراسة الفرق الكلامية الإسلامية، أن منها من تأثروا أو دافعوا أهل نحلة تسمى (المانوية) وكنا المانويين يصدقون بنبوة عيسى ويرفضون نبوة موسى، لأسباب منها أن (الإله) كما وصفته التوراة، شيطان متوحش شرير شغوف بالخراب والفساد وإراقة الدماء، وقارئ التوراة إذا حاول أن يتبين صفات (يهوه رب الجنود) وسيرته مع (شعبه المختار) وجب أن يتصوره مخلوقاً شيطانياً لا حد لأنانيته في الحب والتدليل لشعبه المختار، وهو أعجز المخلوقات حيلة في سياستهم وسياسة خصومهم، فبينما هو راض عنهم كل الرضا إذا هو ساخط عليهم كل السخط، وهو مفرط الحقد والكراهة لأعدائهم، فهو لذلك ولأنه لا حد لقدرته ولعدم حيلته - ينزل ضرباته على هؤلاء الأعداء في إسراف وجنون وقسوة لا حد لها، وينتقم لأتفه الأسباب أبشع انتقام، وهو رغم قدرته التي لا حد لها - مخلوق (جبان) يهاب مالا يهابه إنسان له شجاعة عادية، فهو ينكص عن محاربة بعض أعدائه وأعدائهم لأن لهم في الحروب عجلات قوية فهو يتركهم وشأنهم معهم، ولا يخوض معهم في حربهم خوفاً من هذه العربات. . . إلى غير ذلك من الفروض المستحيلة التي لا يستطيع العقل أن يحتفظ بوحدته معها، ويكاد ينسحق تحت وطأتها. وكنت أود أن أدلي بتفصيل شاف للقراء في هذا الموضوع وغيره مما ألمحت إليه هنا نولاً ضيق المقام وربما قدمت هذا البيان قريباً في كتابي (أصول الزندقة وتطورها).

ولقد آن لنا أن ننظر إلى قدماء حكام مصر في موقفهم إزاء قدماء الإسرائيليين نظرة ترضي الدين ولا تغضب الحقيقة ولست داعياً إلى ذلك عن عصبية للوطن ولا استخفاف بالدين بل عن رغبة في العدل ومتابعة أحكام العقل، وحسبنا التهم الباطلة التي ألصقتها اليهود بالمصريين منذ آلاف السنين ونقلتها عنهم الأمم الأخرى - حتى العرب - دون تمحيص، وأنا أدعو إلى ذلك عائذاً بالله من شر كل هوى أعمى يدفعني إلى ما يثلم عقيدتي، ويضلني عن الحق.

هذا وفي الكتاب عشرات المآخذ نكتفي منها بما أوردناه ونسكت عن بقيتها فلا نذكرها إجمالاً ولا تفصيلا.

أما بعد فدار الفكر العربي طابعة هذا الكتاب هي وغيرها من دور النشر، شديدة الضن بمالها وجهدها على المؤلفين الكادحين، وكنا نربأ بدار الفكر أن تنشر هذا الكتاب، فإن تكن غايتها الربح وحده ففي نشر (ألف ليلة) وأمثاله ما يكفل لها ربحاً أكبر، وإن كانت تهدف إلى خدمة الدين إرضاء للعامة ففي نشر (دلائل الخيرات وأمثاله) ما يكفل لها ربح رضاهم ومالهم أيضاً، ولقد آن للهازلين أن يجدوا، ورحم الله امرأ عرف قدر نفسه.

محمد خليفة التونسي