مجلة الرسالة/العدد 807/علم النفس والقضاء الجنائي

مجلة الرسالة/العدد 807/علم النفس والقضاء الجنائي

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 12 - 1948



للأستاذ حسين الظريفي

ما من أحد يحضر مجلس القضاء إلا تملكه الشعور بالحرمة والكرامة اللتين تغمران جو المكان. لا فرق في ذلك بين من كان من المتقاضين أو السامعين والقاضي نفسه، وهو على منصة القضاء، ليمازجه نفس الشعور الذي يشعر به سواه ويدخل مع الداخلين في ذلك الجو الخاص الذي تفرضه طبيعة القضاء على كل من حضر مجلسه. فالجميع سواء في تلقي المعنى الخالد الذي يوحي به حكم القانون فيما يعمل العاملون.

إن هذه الحرمة التي كانت وما تزال؛ وستبقى إلى الأبد، وهي أقوى شعور يمتلك أنفس الناس وهم وقوف أمام عدل القانون - قد صاغت الكلمة القديمة التي تقول بأن روح القضاة من مصدر إلهي، وجعلت قضاة القرون يعتقدون في أنفسهم القدرة على استجلاء غوامض الأشياء، مهما تعقدت العقد، وامتد بها الأمد، ولم يقوا عليها من أحد. ولكننا نجد اليوم أن تلك الكلمة القديمة قد أصبحت كلمة جوفاء لا تدل إلا على معنى تاريخي ولا تزال إلا إلى لك الشعور الذي كان يمتلك الإنسان في زمن كان. فعصمة القضاء من الأخطاء لم تعد مما يدعيها أحد على أحد. والقضاة أنفسهم لا يدعونها على الناس ولا يرتضون أن ينسبها لهم الناس. وهم في أعماق نفوسهم يشعرون بثقل أمانة العدل المودع إليهم توزيعه على المتقاضين، ويحققون ويدققون فيما يحكمون، لعلهم أنهم مثل غيرهم عرضة للخطأ، وإنهم قد يضلون السبيل، ويفقدون الدليل، وينوءون بالعبء الثقيل.

والقوانين الأصولية تفصح في إجراءاتها عن مدى حفظ حقوق المتقاضين من أخطاء القضاة، فالحكم لا يصدر إلا وله معقب ممن صدر عليه، ومحكمة أعلى يلوذ بها ذلك المعقب لتفادي أخذه بما لم تقدمه يداه. ثم إن الحكم يعلن في جلسة علنية وعلى ملأ من الناس، ومن حق كل سامع له أن يستعرضه ويعرضه وأن يبدي الرأي فيه، وتلك تعليقات الفقهاء على أحكام القضاة دلائل مواثل على مدى ما يمكن أن يخطأ فيه القضاة.

والقاضي الجنائي، كالقاضي المدني، قد يخطئ في فهم النص وفي تطبيقه على الوقعة، ولكنه ينفرد عن القاضي المدني بما قد يقع فيه من الخطأ في معرفة الجاني، وفي تعيين مدى أخذه بجريرته ونوع وشدة العقاب الواجب فرضه عليه، فتلك ميادين فسيحة لا يجر فيها القاضي المدني، ويلزم بالجري فيها القاضي الجنائي ليتخطى الخطأ ويصيب الصواب فيما يقضي به على الأضناء.

ومما لا ريب فيه أن الشهادات المدلى بها أمام القضاة وسائر البينات المعروضة عليه، لا تكفي وحدها دليل نفي أو إثبات، فهناك الشخصية التي تدور عليها هذه البينات، وهي شخصية المتهم، ولا بد من إيضاح الخطوط الدقيقة التي تتجاذب أو تتنافر عندها تلك الأدلة مع شخصية المتهم لتقوم حجة له أو عليه، وهذا ما يضطلع به علم النفس وما تسديه يداه. ثم هناك ماهية الجريمة، فإنها هي الأخرى لا تقدر حق قدرها إلا بعد إيجاد نقط اتصالها بشخصية المجرم، وذلك ما يعنى به علم النفس أيضاً ويقوى عليه. بل إن الأدلة نفسها لا بد من النظر إليها على ضوء هذا العلم قبل الأخذ بها أو طرحها، حتى إذا ثبتت إدانة المتهم وعد مجرماً وأريد فرض العقاب عليه، برزت أمام القاضي الجنائي مسألة خطيرة هي تعيين درجة مسئوليته عن جريمته، وهنا تنفتح أما القاضي الجنائي أبواب علم النفس الحديث لتفتح مغالق هذه المسؤولية في الأعماق البعيدة من نفسية المجرم.

والواقع من الأمر أن المجرم يحمل في جوانحه نفسية شاذة معقدة قد ترسبت فيها أعقاب وراثة طويلة، واستقرت عندها تربية منزلية واجتماعية عليلة وبيلة، وبتفاعل هذه بتلك وتلك بهذه، نشأت عنده الميول الإجرامية، ثم أتيحت لها فرصة العمل بشكل اعتداء على المجتمع.

إن العمل مهما كان شكله وموضوعه لا بد أن يكون ناشئاً عن حافز داخلي، ولا بد لتقدير هذا العمل وإعطائه القيمة الحقيقية له، وتعيين درجة مسؤولية صاحبة عنه، من إزالة الستار عن ذلك الحافز الذي يكمن وراءه. والمجرم مهما كان مالكا لروعه وهدوئه عند مقارفته الجريمة، لا بد أن يكون خاضعاً لتأثير خفي في نفسه، فهو رجل شقي غير سوي، ومقدار شقائه يجب أن يقدر بمقدار ما له م حرية إرادة تجاه ذلك العامل غير الشعوري الذي يمكن أن ندعوه بعامل الجريمة.

إن تحقيق العدالة في تطبيق الإجراءات الجنائية على الوقائع والجناة بحيث تؤدي إلى معرفتهم لا تكفي وحدها دون أن تضم إليها العدالة تطبيع قانون العقوبات على الجناة، بحيث تفرض على كل جان العقوبة المؤثرة فيه، فتنزل عنده بمنزلة الدواء وتمنحه الشفاء من علة ما فيه من الميل إلى الإجرام.

وقد يقع الفعل الذي يمنعه القانون ويعاقب عليه دون أن يؤاخذ عليه الفاعل، وذلك فيما إذا كان في حالة يعفى فيها من العقاب، تلك حالة تستوجب حسن تطبيق القانون، ولا سبيل إلى حق هذا التطبيق إلا عن طريق دراسة نفسية الفاعل مضافة إلى دراسة طبيعة الظروف الذي وقع فيه الفعل.

ذلك بعض ما أمكن الإشارة إليه في هذه الكلمة القصيرة، وهي تفصح عن المدى الذي يصل إليه ويتغلغل فيه علم النفس من مباحث المجرم والجريمة في القوانين الإجرائية الجنائية والعقابية. ولاختلاف هذه المباحث في موضوعاتها وتشعب أصولها وفروعها ذهب علماء الفقه الجنائي لا إلى إحداث علم نفس خاص يعني بموضوع المجرم والجريمة، ويتقل بمباحثة عن علم النفس العام، ولكن بتقسيم هذه المباحث إلى موضوعات، وإفراد كل موضوع منها بعلم نفس خاص له أسلوبه وأغراضه ودوره الذي يؤديه في ساحة القضاء.

وهكذا وجد علم النفس القضائي، وهو العلم الذي يحلل فيه القاضي الجنائي نفسيات جميع أفراد الدعوى العامة من شاك بمثل الهيئة الاجتماعية في شخصية النيابة العمومية، ومن متهم، ومجني عليه، وشهود إثبات، وشهود دفاع وخبراء ووكلاء، ثم هو قبل ذلك وبعد ذلك يحلل نفسيته تجاه أدلة الدعوى وتجاه أفرادها ليأمن شر ما يكمن وراء شعوره من منازع ودوافع الانحياز إلى جهة التجريم أو البراءة، فيحتفظ بحياده القضائي في كل مرحلة من مراحل الدعوى وفي كل إجراء من إجراءاتها ولا يغفل عما يفعل.

تلك هي نظرة القاضي إلى نفسه، وأما نظرته إلى أفراد الدعوى الآخرين، فإنها توقفه على حالة المتهم الماثل أمامه أبرئ هو أمسيء، وهل يصدق هذا الشاهد أو ذاك في شهادته هذه أو تلك، أم هو يكذب فيها عن عمد أو غير عمد؟ وهل هناك مؤثرات شعورية أو غير شعورية لامست ولا بست الخبراء والوكلاء فتأثروا بها عن شعور أو عن غير شعور فأعرضا عنها أو استجابوا لها، ومدى تأثير ذلك في أقوالهم وأعمالهم في جميع درجات التحقيق والمحاكمة؟

وُجد علم النفس الجنائي، وهو العلم الذي يفسر الجريمة بالتفسير العلمي، ويحلل نفسية المجرم، ويمج يده إلى جذور الإجرام فيه.

ووجد علم النفس القانوني، وهو العلم الذي يضمن للقاضي حسن تطبيق نصوص القانون العقابية على الوقائع الجرمية من حيث تعيين درجة المسؤولية التي يمكن إلقاؤها على عاتق الجاني

وهكذا نجد علم النفس القضائي يسير في ركاب القاضي الجنائي من أول مراحل الدعوى إلى آخرها فيحفظه من مغبة الحكم على البريء والإفراج عن المسيء ويعين من هو الفاعل.

ونجد علم النفس الجنائي يظهر في قاعة المحاكمة عندما ينتهي علم النفس القضائي من تعيين الفاعل فيقوم فيه بدور التحليل ورد الجريمة إلى أصولها وبواعثها لتعيين كونه مجرماً أو غير مجرم، ثم يأتي الدور لعلم النفس القانوني، وهو دور غير حتمي، وفيه يضع القاضي مواد القانون في الموضع الذي أراده الشارع بالقياس إلى تعيين موقف الفاعل من الظروف المبيحة لارتكاب الفعل أو المعفية من العقاب، ويقرر كون الفاعل مسؤولا أو غير مسؤول

تلك هي العلوم النفسية الثلاثة التي لا غنى عنها لكل قاض جنائي يهمه الاضطلاع بأعباء الدعوى العامة على الوجه الذي يحقق العدل ويربح الضمير ويزيد من ثقة الناس بالقضاء.

(بغداد)

حسين الظريفي المحامي