مجلة الرسالة/العدد 808/الأسرة المنبوذة
مجلة الرسالة/العدد 808/الأسرة المنبوذة
- 2 -
نعم يا سيدتي أذكر أني كنت وأنا صبي أمر في طريقي إلى الكتاب بمنزل المعلم يوسف النجار فأجده كل صباح جالساً تحت جداره في يمناه قدومه وفي يسراه يد فأس يسويها، أو بسخة محراث يقويها، أو ورش طنبور يجدده؛ وأصحاب هذه الأدوات من شباب القرية قيام من حوله أو قعود ينتظر كل منهم دوره ليقدم آلته أو ليسأل حاجته. وكان مظهر النجار المرح ومنظر حلقته الصاخبة يغريان صبيان الكتاب بالوقوف فيقفون ليسمعوا هذا يستحثه بالسب لأنه عوقه عن الخولي، وذلك يبادره بالعتب لأنه غشه في خشب الزحافة، وبذلك يركبه بالدعاية لأنه غبنه في ثمن النورج؛ ثم ليروا المعلم يوسف مكباً على عمله، ووجهه متهلل بالضحك، ولسانه متحرك بالمزاح، يجزي على السباب بالنكتة اللاذعة، ويحتج على العتاب بالحجة البارعة، ويرد على الدعابة بالسخرية المرة. حتى إذا انصرف الفلاحون إلى حقولهم، انصرف هو إلى دورهم، فتسأله هذه إصلاح المطرحة، وتسأله تلك تثبيت الباب؛ وهو يجيب كل طالب بابتسام، ويؤدي كل عمل باهتمام؛ لأنه يقوم لأهل القرية جميعاً بنجارة البيت والغيط مستأثرة فيأخذ من كل أسرة كيلتين في موسم القمح وكيلتين في موسم الذرة. ومن هذه الجباية السنوية يجتمع له ثروة من الحب تظهر بركتها في عيشه الرضي وباله الرخي وزيه الجميل واستبد النجار الوحيد بخير البلد وارتفع به الغنى إلى طبقة أعيانه. ونظر يوسف في أمره فلم يجد في نفسه حاجة يتمناها على الله غير زوجة تكون لعشه الحالي سكينة وزينة. والتمسها في فتيات القرية فلم يغلها، لأن الفقيرة أقل مما يبني، والغنية أكثر مما يستطيع. فأشارت عليه أمه العجوز أن يتزوج من قرية أخواله وهي على بعد كيلين من قريته؛ فعله نصيبه على فتاة رأيناها بعد زفافها عليه ودخوله بها فإذا منظرها يملأ العين ويشغل الفؤاد: جسم بض ممتلئ يكاد الثوب من ربه يلتصق به، وقوام سبط معتدل يتثنى تثني الغصن الأملد، ووجه مشرق اللون كأن على كل صفحة من صفحتيه وردة جورية، أو تفاحة أمريكية، وساعدان عبلان يحليهما، من الرسغين إلى المرفقين، أساور من الزجاج الأحمر المذهب، ويدان رخصتان تزينهما أسطار من الوشم الأخضر المنمنم وهندام مدني جريء، ظل حديث الدور والمصاطب مدة طويلة! كثر الفضول حول دار النجار، فكل امرأة تريد أن ترى وكل رجل يحب أن يسمع، ومضت الأيام وحال بعض الجارات على بعض يقلن وهن يملأن جرارهن من النهر: إن لامرأة المعلم يوسف لوناً حين يتنفس الصبح، ولوناً حين يمتع الضحى؛ لونها في طلعة الشمس أسمر حائل، ولونها في ميعة النهار أزهر مشبوب!
ثم مضت الأيام وقالت جارة لصواحبها وهن يحملن الحطب إلى البيوت: لقد رأيت بعيني محمد العطار يقف على باب النجار ويعطي زوجه شيئاً في السر فأخذته مسرعة وهي تتلفت، وغيبته في ثوبها وهي تهمس، ومحمد العطار هذا بائع جوال ينتقل بحماره وخرجه بين القرى المتجاورة، فيبيع اللبان اللدن والصابون الممسك والمناديل المزركشة والغوائش الملونة، وسلعاً أخرى تتصل بالزينة والتجميل يسار بها النساء، فينفرن منها ويطول حديثهن عنها.
ثم مضت الأيام وجاءت جارة أخرى تعرض على جارتها وهن يخبزن رغفانهن في الفرن المشترك. حقة صغيرة من الصفيح الأخضر على غطائها المستدير مرآة، وفي جوفها الفارغ آثار من صبغ أحمر؛ وتقول أنها التقطت هذه الحقة خفية من دار النجار؛ وهي تؤكد أن هذا الأحمر هو (حسن يوسف) الذي طالما أغراهن به العطار؛ ونرجح أن هذه المرأة الفاجرة تصبغ به وجهها؛ ولا يجرؤ على تغيير خلقة الله إلا الغوازي في القرى وبنات الهوى في المدن. ولابد أن تكون هي من هؤلاء أو من أولئك.
وانتشر الخبر في القرية انتشار الظلام، فلم يبق من لا يعرف أن زوجة المعلم يوسف تستعمل حسن يوسف.
ثم مضت الأيام وغدوت ذات صباح إلى الكتاب ومررت في طريقي إليه بدار النجار فإذا الحال غير الحال والمنظر غير المنظر: تقوض المجلس وأقفر المكان، فلا الرجل قاعد تحت جداره ينجر ولا الجمع حاشد من حوله ينتظر! وأسأل نفسي وأسائل الصبيان: ماذا صنع الدهر بالمعلم يوسف؟ لم يعد رجل يستأجره لعمل، ولم تعد امرأة تزوره في حاجة! فيقولون لقد قاطعه القريب وتحاشاه البعيد، لأنه تزوج من الخبيزة! والخبيزة كما علمت من بعد، اسم يطلقه أهل المنصورة وضواحيها على المواخير، ولمواخير الفسق ما لمواخير اليهود من تعدد الأسماء في مختلف الأنحاء، على مسماها القذر الواحر.
وطال احتباس الرجل في بيته وتعطله عن عمله حتى صدئ قدومه ومنشاره، وبيع في الدين متاعه وعقاره. فاقترحت عليه أمه أن يطلق زوجه إبقاء على سمعته وصحته وصنعته؛ فقال لها في إباء وألم: وما ذنب هذه المسكينة يا أماه، وإنك لتعلمين كما أعلم أنها طاهرة الثوب قاصرة الطرف، وإنما جنى عليها هذه الجناية تقليدها البريء لابنة عمها المتزوجة في القاهرة. وقد حرمت على نفسها منذ أن شاع ما شاع أن تتزين حتى بالزجاج، وأن تتجمل حتى بالكحل. وأرى عندي أن نهاجر تحت الليل إلى عزبة من العزب المنشأة في أطرف بلقاس فنستأنف هناك حياة جديدة وعسى الله أن يجعلها بفضل براءتها واستكانتها موفقة سعيدة.
وأصبح الناس فإذا دار النجار مفتوحة بعد أن ظل بابها مغلقاً أثناء الأنهار سنة وشهرين لم يدخل منه داخل ولم يخرج منه خارج. فنفذ المارون بأبصارهم إلى دهليزها فلم يلحظوا حركة تبدوا ولم يسمعوا صوتاً ينبعث؛ فتسللوا إليها حذرين مستطلعين فلم يجدوا وا أسفاه إلا ربعاً أوحش بعد أن أنس، وروضاً صوح بعد بهجة، وشملاً تبدد بعد اجتماع.
ثم مضت الأيام وتعاقبت الأعوام وفعل الزمن فعله في العقول والميول فأصبحنا فإذا الرجل هو الذي يشتري الأحمر لزوجته لتصبغ، ويخلع المعطف عن ظهر أمه لتعرى، ويشعل السيجارة لأخته لتدخن، ويقدم المراقص إلى ابنته لترقص!!
ما أقربنا من ذلك الزمن وما أبعدنا عن تلك الحياة!! كان الولد يشب ثم يتزوج ثم يولد له ويبتليه الله بالتدخين فلا يستطيع أن يعلن ذلك لأبيه، ولا يجرؤ على أن يدخن في حضرة من يكبره. وكان الأخوة لأب وأم يعيشون في دار واحدة ثم لا يرى أحدهم زوجة الآخر. وكانت المخدرة إذا سهلت من حجابها، أو تبرجت بين أترابها، انتفت منها العشيرة وتحامتها الجيرة. ثم أمسينا فإذا المرأة هي التي تدبر الأمر وتسير العرف وتحجب الرجل. وإن مجلسي منكما هذا المجلس، وظهوركما على هذا الظهور، لشاهدان على هذه الحال!
فقالت جارتاي بلسان أوشك أن يكون واحداً في لفظه: تلك سنة الحياة يا أستاذ! قدم ينسخه تجدد، وتأخر يدفعه تقدم، ورق يخلفه تحور! فقلت لهما إن ألفاظ التجدد والتقدم والتحور كألفاظ الحق والعدل والاستقلال، لها في كل ذهن معنى، وفي كل نظام صورة، وفي كل أمانة دلالة. لقد تقدمنا في التعليم ولم نتقدم في التربية، وجددنا في الصور ولم نجدد في الفكرة، وتحررنا من السوط ولم نتحرر من الهوى، - وهنا سحبت جارتي اليسرى من محفظتها سيجارة أخرى، ثم بحثت عن علبة الثقاب فلم تجدها، فاضطررت إلى أن أقطع الحديث وأدور بين الجماعة، لألتمس لها من بعضهم ثقاباً أو ولاعة!!
أحمد حسن الزيات