مجلة الرسالة/العدد 808/الرمزية في التفكير الإنساني

مجلة الرسالة/العدد 808/الرمزية في التفكير الإنساني

مجلة الرسالة - العدد 808
الرمزية في التفكير الإنساني
ملاحظات: بتاريخ: 27 - 12 - 1948



للأستاذ عبد المنعم عبد العزيز المليجي

مهما سما حظ الحيوان من الذكاء، وأياً كانت قدرته على تعديل سلوكه والتصرف والاحتيال إزاء المواقف الجديدة تحقيقاً لأغراضه، يبقى برغم ذلك فرق جوهري هي السر في تربع الإنسان على عرش الكائنات الحية، وسيطرته على الطبيعة بقدر ما يكشف من أسرارها وقوانينها. وسأحاول في هذا المقال أن أشرح هذا الفارق والفروق الأخرى الفرعية. أما الفارق الأصلي هو: أن الذكاء الإنساني ليس ذكاء حسياً فقط بل ذكاء رمزياً أيضاً، فالوظيفة الرمزية في التفكير الإنساني هي الفيصل الحق بين عقل الإنسان وعقل الحيوان، ولذلك ينبغي أن نذكر أن كلمة تفكير لا تطلق على الحيوان إلا تجاوزاً - إنما التفكير الحق هو التفكير الرمزي.

بيان ذلك أن الحيوان يدرك الموجودات المادية إدراكاً حسياً، أي تتطبع صور الأشياء التي يحسها بحواسه على صفحة الذهن. فهو يدرك كائنات مفردة أو جزئية - حسب التعبير المنطقي - ويستعيد صورها في غيبتها، ويتعرف عليها إن رآها بعد ذلك. الكلب مثلاً: يرى صاحبه فيدركه إدراكاً حسياً، ويرى غريباً فلا ينقطع عن النباح مما يدل على أنه أدرك الغريب، وعلى أن يستطيع التمييز الحسي بين شيئين كما استطاع التمييز حسياً بين صاحبه وبين الغريب. وإذا تغيب صاحبه ردحاً من الزمن وعاد بعده إلى بيته، اندفع نحوه وقد بدت عليه علامات الارتياح التي تنم عن وجود القدرة العقلية الموجودة لدى الإنسان كالإدراك الحسي وترابط الصور، والتمييز والتخيل والتعرف والتذكر، بل إن بعض الحيوانات حتى العصافير تتحرك حركات استدل منها بعض علماء النفس الحيواني على وجود الأحلام لديها. بيد أن هذه العمليات جميعاً لا تتجاوز المستوى الحسي بأي حال، فما يكون في ذهن الحيوان إذ يدرك أن يتخيل أو يحلم ليس إلا صورة أو مجموعة من الصور الحسية لأشياء جزئية مشخصة، تتولى على صفحة الذهن، متداخلة متشابكة متفاعلة، كما تتوالى صور الفلم على الشاشة البيضاء.

إن المادة التي يعالجها عقل الحيوان هي صور الموجودات الجزئية الموجودة في زمان معين ومكان بالذات، والمتصفة بالصفات الحسية كاللون والطعم والرائحة والشكل والح والصوت والملمس، وليس بمقدور الحيوان - أيا كان ذكاؤه - أن يسمو إلى إدراك المعاني الكلية التي يستخلصها الإنسان من مدركاته الحسية. فالإنسان لا يقف عند حد إدراك الأفراد إدراكاً حسياً وتذكرها وتخيلها، ولكن يدرك أيضاً ما تشترك فيه من صفات ويسقط أوجه الخلاف، ويجرد بذلك المعنى العام الذي يدل عليها جميعاً. يدرك عمراً وزيداً وفلاناً وفلانا من الناس، ويتغاضى عن الصفات التي يختلفون فيها من طول وشكل ودين وأخلاق، ويدرك فوق ذلك أنهم جميعاً - بصرف النظر عن حالاتهم الخاصة - يشتركون في صفة الإنسانية. لا يدرك الكلب والقط والعصفور فقط، بل ينتزع من أفراد كل نوع من هذه الأنواع معنى عقلياً - لا حسياً - هو معنى الحيوانية الذي ينطبق على أفراد الحيوان جميعاً بنفس الدرجة. يدرك الإنسان تصرفاً آخر ويحكم عليه بأنه شرير، فهو يدرك إذن معنى الخير ومعنى الشر إطلاقاً، أي بغض النظر عن الفاعل وظروف الفعل. يدرك الإنسانية والحيوانية، والخير والشر، واللذة والألم، والموت والحياة، والحرارة والبرودة، والسعادة والشقاء، دون نظر للأمثلة الجزئية التي تدل عليها هذه المعاني، ومن هنا كانت العملية العقلية التي تتغاضى عن الجزئيات بصفاتها المحسة التي تستخلص المعنى العام الذي ينطبق على جزئيات كثيرة تدعى عملية التجريد.

وظيفة التجريد تزود الإنسان بالمعاني التي ترمز إلى ملايين المدركات الحسية، فتوفر عليه مجهوداً جسمياً أكبر. لذلك كان الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يتجاوز عقله المستوى الحسي إلى المستوى العقلي المطلق من قيود الزمان والمكان، وكان اقدر الحيوانات على التصرف والتكيف للظروف، فهو لا يحتاج إذ يفكر إلى تمثل صور الموجودات التي يفكر فيها، بل يكفي أن يستحضر معنى واحداً كالإنسانية يقوم مقام الملايين من الأفراد الجزئية المحسة. الحيوان يتعامل بالمواد المحسة، والإنسان قد يدع الموقف الحسي جانباً، ويرجع إلى عقله متعاملاً بالرموز التي تمثل عناصر الموقف. فهو إذ يريد أن يشيد بناء ضخماً، لا يستحضر المواد الأولية من حجارة وأخشاب وحديد وأسمنت ثم يعمل فكره في هذا الخليط مجرباً بانياً ثم هادماً ليصلح ما فسد ويقوم ما انحرف، ولكنه يتناول القلم والقرطاس ويسطر المربعات والمثلثات والدوائر وغير ذلك من الرموز الهندسية والمعادلات الجبرية والحيل الميكانيكية حتى يتم التصميم. وما التصميم إلا مشروع عقلي صرف، ثم نتيجة التأليف بين رموز عدة، فهو بدوره رمز يمكن تنفيذه في الواقع في أي وقت وفي أي مكان وبأي نوع من المواد. ثم يشرع الإنسان بعد ذلك في تنفيذ التصميم بتشييد بناء هو حالة مفردة جزئية من حالات عدة في حيز الإمكان.

يتفرع عن القدرة الرمزية إذن قدرة إنسانية فريدة هي الاختراع الذي تخطى إن اعتبرناه مستنداً إلى الذكاء العملي اليدوي وحده، وهي السر كذلك في القوة الفكرية العظيمة والإنتاج الإنساني الصميم، أعني به (اللغة) فاللغة مجموعة من الرموز يحملها ما أدرك من صفات وما أحس من مشاعر وما يبغي من آمال، وينقلها إلى غيره عن طريق الإشارة أو الإيماءة أو اللفظ، فيكفي أن أتفوه بلفظ إنسان حتى تبرز في ذهنك الصفات التي ينطوي عليها معنى الإنسانية الذي يرمز إلى جميع أفراد الإنسان، وتتابع على صفحته صور حسية عدة، مختلطة مبهمة، مثيرة مجموعة من الذكريات والأخيلة والأحاسيس لا حصر لها.

طالما ردد الفلاسفة (إن الإنسان حيوان ناطق)، ورددنا نحن قولهم هذا دون تدبر لحكمة اختيارهم لفظ النطق للدلالة على التفكير. وبعد ما أسلفنا تبيين العلاقة الوثيقة بين اللغة وبين الرموز، بين اللفظ وبين الفكرة؛ فاللغة نتاج القدرة الرمزية، واللفظ المنطوق به حامل الفكرة المعقولة موشاة بخليط من المشاعر النفسية التي لا تنفصل بحال عن مجرى التفكير، ويتبين صدق الفلاسفة إذ جعلوا النطق - أي التفكير الرمزي - فيصلاً بين الإنسان وسائر الحيوان، يتبين صدقهم لسببين:

الأول: أنه رفع الإنسان فوق الزمن وحرره من قيود المكان وأكسبه قدرة عقلية قائلة لم تكن لتتيسر له أو اقتصر على التعامل بالجزئيات، وقدرة عملية ممتازة تتضح أكثر ما تتضح في المخترعات والمنتجات الصناعية والفنية المختلفة.

والثاني: أنه شكل حياة الإنسان الاجتماعية تشكيلاً راقياً؛ ذلك أن اللغة يسرت اتصال الناس بعضهم ببعض اتصالاً فكرياً وعاطفياً في آن واحد، فهي أداة التعبير عما يدور في الذهن من معان، ووسيلة الربط بين القلوب بما تنقل من مشاعر.

تؤدى اللغة كل ذلك بأيسر وسيلة وأروعها، وهي لا تربط بين فردين في صعيد واحد فقط، بل تصل بين أفراد وأقوام تفرقوا شيعاً في شعاب الأرض قاصيها ودانيها؛ ولا تربطنا بالأحياء فقط بل بالسلف وفد واراه التراب، وطواه التاريخ في عصوره السحيقة. ألفت اللغة إذن بين القاصي والداني، وبين الأحياء والأموات، وبين الصغار والكبار، وبين المتمدنين والبدائيين. وتيسر بفضلها خزن التجارب والمعارف نقوشاً على جدران المعابد ورموزاً في بطون الكتب سجلاً خالداً يغني عن تجشم الصعاب التي تجشمها غيرنا، ويوفر علينا جهداً هو حقيق أن يبذل في تحصيل معارف جديدة وكسب تجارب مفيدة، نضيف إلى تراث الإنسان ذخائر جديدة. ولما كانت اللغة بمثابة النافذة التي تطل منها على نفوس البشر وعقولهم كانت بحق أداة الوحدة الاجتماعية أو عامل التكامل الاجتماعي - على حد تعبير مدرسة علم النفس التكاملي - عامل التأليف بين عقول البشر وقلوبهم وأذواقهم حتى قال بعض المفكرين إنه إذا كان للأفراد متفرقين عقول خاصة، فلهم مجتمعين عقل عام يسمونه (العقل الجمعي) الذي يتولد عن اجتماع عقول الأفراد ويزيد عن مجموعها. فالأفراد مجتمعين يكتسبون كياناً مستقلاً عن كيان الأفراد، والمجتمعات منطق خاص يعلو على منطق الأفراد، وإرادة تفرض نفسها على إرادة الأفراد الجزئية، ونفوذاً يكسر من شوكتهم.

وغير خاف أن التكامل الاجتماعي، أو متانة البناء الاجتماعي ميزة حظى بها الإنسان - بفضل الوظيفة الرمزية - بينما الحيوان لا يزال في مرتبة دنيا من حيث الترقي الاجتماعي. ألا صدق الفلاسفة الذين فصلوا بين الإنسان والحيوان بوصفهم الإنسان بالحيوانية والمنطق.

عبد المنعم المليجي

مدرس الفلسفة بحلوان الثانوية