مجلة الرسالة/العدد 809/الإسلام دين القوة

مجلة الرسالة/العدد 809/الإسلام دين القوة

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 01 - 1949


الإسلام دين القوة؛ وهل في ذلك شك؟

شارعه هو الجبَّار ذو القوة المتين؛ ومبلغه هو محمد الصبار ذو العزيمة الأمين؛ وكتابه هو القرآن الذي تحدى كل إنسان وأعجز؛ ولسانه هو العربي الذي أخرس كل لسان وأبان؛ وقواده الخالديون هم الذين أخضعوا لسيوفهم رقاب كسرى وقيصر؛ وخلفاؤه العمريون هم الذي رفعوا عروشهم على نواصي الشرق والغرب. فمن لم يكن قوي البأس، قوي النفس، قوي الإرادة، قوي العزيمة، قوي العقيدة، قوي الإنسانية، قوي الأمل، قوي العدة، كان مسلما من غير إسلام، وعربيا من غير عروبة!

الإسلام قوة في الرأس، وقوة في اللسان، وقوة في اليد، وقوة في الروح.

هو القوة في الرأس لأنه يفرض على العقل توحيد الله بالحجة، وتصحيح الشرع بالدليل، وتوسيع النص بالرأي، وتعميق الإيمان بالتفكر.

وهو قوة في اللسان لأن البلاغة هي معجزته وأداته؛ والبلاغة قوة في الفكر، وقوة في العاطفة، وقوة في العبارة.

وهو قوة في اليدلأن موحيَه - وهو الحكيم الخبير - قد علم أن العقل بسلطانه واللسان ببيانه لا يغنيان عن الحق شيئا إذا ما اظلم الحس وتحكمت النفس وعميت البصيرة؛ فجعل من قوة العضل ذائدا عن كلمته وداعيا إلى حقه ومنفذا لحكمه ومؤيدا لشرعه. كتب على المسلمين القتال في سبيل دينهم ودينه؛ وفرض عليهم إعداد القوة والخيل إرهابا لعدوهم وعدوه؛ وأمرهم أن يقابلوا اعتداء المعتدين بمثله. ولكن القوة التي يأمر بها الإسلام هي قوة الحكمة والرحمة والعدل، لا قوة السفه والقسوة والجور؛ فهي قوة مزدوجة، أو قوة فيها قوتان؛ قوة تهاجم البغي والعدوان في الناس، وقوة تدافع الأثرة والطغيان في النفس.

والإسلام بعد ذلك قوة في الروح لأنه يمحص جوهرها بالصيام والقيام والاعتكاف والأرتياض والتأمل.

وأنت إذا عرضت على الفكر السليم الحكيم مرامي العقيدة الإسلامية، وجدتها كلها تتجه إلى القوة، أو إلى ما تحصل به القوة؛ فالصلاة نظافة جسدية بالوضوء، وطهارة روحية بالذكر، ورياضة بدنية بالحركة. والزكاة تقوية للضعيف بالتصدق، وتنمية المال بالتطهير، وتمكين للمجتمع بالتعاون. والحج قوة اجتماعية بالتعارف والتآلف، وقوة سياسية بالتشاور والتحالف، وقوة اقتصادية بالبياعات والتسوق. وان أشد ما تجتمع به القوة وتتسق عليه الحال هو الوحدة والجماعة، وهما لباب الدعوة الإسلامية. فالوحدة هي الأساس الذي حمل، والجماعة هي الصرح الذي قام. كانت الوحدة هي الأساس لأنها توحيد لله بعد إشراك، وتوحيد للعرب بعد شتات، وتوحيد للرأي بعد تفريق، وتوحيد للغة بعد تبلبل، وتوحيد للقبلة بعد تدابر. وكانت الجماعة هي الصرح لأنها جمعة القلوب التي ألف بينها الله، وجملة الشعوب التي رفع شأنها محمد. ثم قامت سياسة الإسلام على استدامة القوة بالمحافظة على الوحدة والحرص على الجماعة. فالفرد الذي يكفر بوحدة العقيدة والأمة يقتل، والطائفة التي تبغي على جماعة المسلمين تقاتل. والصلاة إنما يعظم أمرها ويضاعف اجرها إذا أديت في جماعة. وهذه الجماعة تتكرر خمس مرات كل يوم، ثم تكبر في صلاة الجمعة كل أسبوع، ثم تعظم في صلاة العيدين كل عام، ثم تضخم في أداء الحج مرة - على الأقل - في كل عمر.

على ذلك كان إسلام محمد وأبي بكر وعمر؛ وعلى ذلك كانت عروبة خالد وسعد وعمرو. كان العرب والمسلمون حينئذ يحملون المصحف للحق والسيف للباطل؛ وكان خلفائهم يجمعون بين أسامة للصلاة وقيادة المعركة، حتى بلغوا من القوة فعل كتاب الرشيد ما يفعل الجيش؛ وبلغوا من المروءة أن سير المعتصم جيشا لإنقاذ امرأة. فلما شتت الوحدة، وتفرقت الجماعة، وصارت سيوف المسلمين خشبا يحملها خطباؤهم على المنابر، ومصاحفهم تمائم يعلقها مرضاهم على الصدور، أصبحت دولهم تبعا لكل غالب، وتراثهم نهبا لكل غاصب؛ وبلغوا من التخاذل والفشل أن الأندلسيين يجلهم النصارى عن أقطارهم بالأمس فلم يجدوا الرشيد؛ وان الفلسطينيين يشردهم اليهود عن ديارهم اليوم فلا يجدون المعتصم!

إن مسلمي هذا الزمن الأخير صاروا من جهلهم بالدين وعجزهم في الدنيا على أخلاق العبيد؛ يطأطأ أشرافهم فلا يندى لهم جبين، وتنقص أطرافهم فلا يحمى لهم انف، وتنزل بهم الشدة فيتخاذلون تخاذل القطيع عاث فيه الذئب، ويغير عليهم العدو فيتواكلون تواكل الاخوة دب فيهم الحسد، وتجمعهم الخطوب فيفرقهم الطمع والهوى، ويلجئون إلى جماعة الدول المتحدة فيخذلهم العدو والصديق؛ كان الإسلام الذي كان عامل قوة وائتلاف، قد انقلب اليوم علة ضعف واختلاف! وكان الذين كنا نقول لهم بلسان الجهاد: أسلموا تسلموا، يقولون لنا بلسان الاضطهاد: تنصروا تنصروا!! ولكن الإسلام دين الله لا يغيره الزمن، ولا تجافيه الطبيعة، ولا يعاديه العلم، ولا تنسخه المذاهب؛ وإنما المسلمون اليوم هم أعقاب أمم وعكارة أجناس وبقايا نظم ورواسب حضارات وربائب جهالات وطرائد ذل، ففسدت مبادئ الإسلام في نفوسهم المشوبة كما يفسد الشراب الخالص في الإناء القذر.

إن جامعة الدول العربية كانت تعبيرا جميلا لحلم ساور النفوس الطيبة حقبة من الزمن. ولكن الحلم قد يقع وقد لا يقع، والتعبير قد يصدق وقد لا يصدق. ولو كان ميثاق هذه الجامعة قبسا من نور الله وهديا من سنة الرسول، لما رأيناها في نكبة فلسطين تعد ولا تنجز، وتقول ولا تفعل. ولو ظل أمرها قائما على الخطب الحماسية والوعود المغرية والتصريحات البليغة والاجتماعات المتعاقبة، أظلت في نفوس العرب والمسلمين مناط الثقة ومعقد الرجاء ومثابة الأمن؛ ولكن طالعها السيئ ابتلاها وهي لا تزال في زهو النشأة وصفو المآدب بحرب الصهيونية المهينة، فتحمست الدول السبع، وسيرت كتائبها المظفرة إلى عصابات اليهود في فورة من الأناشيد والخطب؛ فلما صار الأمر جدا والكلام فعلا وقفوا على أطراف الميدان وقفة الحائر القلق: هذا يتجه إلى بريطانيا وفي يده التاج الناقص؛ وذاك يلتفت إلى أمريكا وفي كفه العقد المبرم؛ والآخرون يهيبون الأمر وينتظرون في ظلال الهدنة المفروضة ما تلده الأحداث ويقرره مجلس الأمن!

وليس من هؤلاء الآخرين المنتظرين والحمد لله مصر؛ فقد قضت عليها حمايتها للإسلام ورعايتها للعروبة وأمانتها للجامعة أن تقف وحدها في الميدان الغادر تكافح في صدق وصبر جيوش اليهود وقواد الروس وأسلحة الأمريكان ومكر الإنجليز؛ ثم لا تتلقى من أخواتها الشقيقات إلا هتافا كهتاف الحمام وحنانا كحنان الإوز: يروق باسمة من غير غيث وصكوك ضخمة من غير رصيد!!

لقد تكشفت مأساة فلسطين - واسوأتاه - عن قلوب شتى ووجوه متعارضة والإسلام - كما رأيت - وحدة وجماعة. فمن فصم العروة بعد توثيقها، ونقض باليمين بعد توكيدها، وفرق الكلمة بعد توحيدها، فهو مسلم من غير إيمان، وعربي من غير شرف، وإنسان من غير ضمير!

أحمد حسن الزيات