مجلة الرسالة/العدد 809/الرأي العام في تعاليم الإسلام

مجلة الرسالة/العدد 809/الرأي العام في تعاليم الإسلام

مجلة الرسالة - العدد 809
الرأي العام في تعاليم الإسلام
ملاحظات: بتاريخ: 03 - 01 - 1949



لصاحب الفضيلة الأستاذ محمد محمد المدني

من أهم الدعائم التي تقوم عليها عظمة الأمة، وتستقيم بها أحوالها؛ أن يكون فيها (رأي عام) ناضج مهيب، يستلهمه قادتها والقائمون بأمرها، ويخشاه من تحدثهم نفوسهم بالبغي عليها، أو الانحراف عن الصراط السوي في تدبير شئونها.

وأهل السياسة، ورجال الاجتماع، يحكمون للامة أو عليها بحسب (الرأي العام) فيها، فإذا كان من عادة الأفراد أن يهتموا بالشئون العامة، ويحرصوا على أن يكون لهم توجيه فيها، ووزن لقيمتها، وتمييز بين الصالح والفاسد منها؛ كانت الأمة بخير، وكانت جديرة بان تعيش وتكافح في معترك هذه الحياة، وتتبوأ بين الشعوب مكانة حسنة. وإذا كان الأفراد معنيين بشئونهم الخاصة فحسب، يقصرون عليها جهودهم، وينفقون فيها كل نشاطاتهم، ولا يعنيهم بعد ذلك أصلحت أحوال المجتمع الذي يعيشون فيه أم فسدت؛ فالأمة على خطر عظيم، وهي صائرة بخطى واسعة إلى الفساد ثم الانحلال ثم الهلاك!

وهذا الأصل العلمي له شواهد من واقع الأمم في القديم والحديث، وله في عصرنا الحاضر على وجه أخص أمثلة من الأمم القوية والأمم الضعيفة لا احسبني في حاجة إلى الإطالة بذكرها. وإنما أريد أن أقول: أن هذا الأصل الذي آمن به علماء الاجتماع، واصبح من الحقائق المسلم بها، قد جاء به الإسلام، فقرره الكتاب الكريم، وبينته السنة المحمدية في جلاء ووضوح منذ أربعة عشر قرنا!

يقول الله تعالى في كتابه العزيز (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون).

وهذه الآية هي أساس المسئولية التضامنية بين جميع أفراد الشعب، إذ توجب على الأفراد أن يكونوا دعاة إلى الخير، وآمرين بالمعروف، ناهين عن المنكر، فيؤلفوا بذلك (رأيا عاما) يلزم كل إنسان بالاستقامة على النهج، والتزام الصراط المستقيم، فيما هو مولى عليه من شئون خاصة أو عامة.

وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن (من) في قوله تعالى (ولتكن منكم) للتبعيض، وأن المعنى على ذلك وجوب الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجوبا كفائيا، (إنها واجبة على الكل لكن بحيث أن أقامها البعض سقطت عن الباقين، ولو أخل بها الكل، أثموا جميعا) ورأى بعضهم أن (من) في الآية ليست تبعيضية، وإنما هي تجريدية، كما تقول: لقيت من فلان أسدا، وأنت تريد أن تقول لقيته هو، والمعنى على هذا، كونوا أمة يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.

وهذا الرأي الأخير هو الحق، وهو الذي نصير إليه، ونقول به وذلك لأمور: منها أن الله سبحانه وتعالى يقول في آية أخرى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) وفي هذه الآية أسند الفعل صراحة إلى ضمير الأمة.

ومنها أن الله ذكر المنافقين والمؤمنين في آيتين من سورة التوبة فقال: (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض، يأمرون بالمنكر، وينهون عن المعروف، ويقبضون أيديهم) (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله، أولئك سيرحمهم الله).

جعل من صفات المنافقين ودأبهم الذي طبعوا عليه ملتوون عن سبيل الحق، يمقتون الصلاح والخير، ويميلون إلى الفساد والشر، فيأمرون بالمنكر، وينهون عن المعروف، ويقبضون أيديهم عن أعمال البر والتعاون فيبخلون، ولا يصح أن يكون الكلام على إرادة بعض من المنافقين دون بعض، فإنه في صدد ذكر خصائصهم وما يعرفون به، وفي مقابل ذلك جعل من صفات المؤمنين ولاية بعضهم بعضا، أي الاخوة والمحبة والتناصر والتعاون على البر والتقوى، وجعل من صفاتهم أيضاً الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وإطاعة الله ورسوله، ولا يصح أن يكون الكلام هنا أيضاً على إرادة بعض من المؤمنين دون بعض، لاسيما وقد ذكر من الأوصاف إقامة الصلاة وما بعدها من الفرائض العينية التي تجب على كل فرد.

ومنها أن الله تعالى ختم الآية الأولى بقوله: (وأولئك هم المفلحون) أي الفائزون بما قضت به سنته من النجاح في الدنيا، والنجاة في الآخرة، وختم الآية الأخيرة بقوله: (أولئك سيرحمهم الله) أي سيشملهم برعايته وتوفيقه وفضله، ولا يصح أن يكون الفلاح خاصا بالقائمين بفرض الكفاية دون غيرهم، ولا أن تكون الرحمة مقصورة عليهم، مع أن الله قد أباح للآخرين أن يتركوا الفعل اعتمادا على كفاية حصوله ممن قام به، وإلا لكان بمثابة أن يبيح أمرا لا يتصل به سبب من أسباب الفلاح والرحمة.

ومنها أن الله تعالى قال في سورة العصر (إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) فجعل الحكم بالخسارة عاما يشمل جميع الناس، ثم أستثنى المؤمنين العاملين المتواصلين بالحق والصبر، والتواصي بالحق هو الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمن لم يقم بها فهو في خسر، وهذا حكم عام لجميع الأفراد، يقابل الحكم بالفلاح، والوعد بالرحمة في الآيتين السابقتين.

من هذا يتبين أن القرآن الكريم يعتبر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شأن المؤمنين ودأبهم، وأن كل مؤمن مكلف به تكليفا عينيا كما هو مكلف بالصلاة والزكاة وإطاعة الله ورسوله، وهذا طبعا في حدود الاستطاعة والقدرة والأمن من ترتب مفسدة أعظم ووقوع فتنة أكبر، وإلا سقط أو وجب الكف عنه.

وقد جاءت السنة المطهرة بما جاء به الكتاب الكريم، فمن ذلك ما رواه المحدثون عن أبي بكر رضي الله عنه من أنه قام خطيبا فحمد الله أثنى عليه ثم قال: أيها الناس. إنكم تقرأون هذه الآية (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتد يتم) وإنكم تضعونها غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله علي وسلم يقول: (إذا رأى الناس المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب) وفي رواية (ليس من قوم يعمل فيهم بمنكر، ويفسد فيهم بقبيح، فلم يغيروه ولم ينكروه إلا حق على الله أن يعمهم بالعقوبة جميعا ثم لا يستجاب لهم)، ومن ذلك ما رواه أحمد وابن ماجه والبيهقي وغيرهم من قوله (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) وما رواه مسلم وغيره من قوله : (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان).

والحديث الأخير يعم بالخطاب سائر المؤمنين ويكلف بتغيير المنكر كلا على حسب استطاعته: باليد أو باللسان أو بالقلب، والتغيير بالقلب عبارة عن مقت الفاعل وعدم الرضى بفعله، وهو وسيلة صحيحة لردع أهل الفساد فإن شعور المفسد بمقت القلوب له ونفور النفوس من فعله، واحتقار الناس إياه؛ كفيل برده عن الإفساد من قريب أو من بعيد، وهو أشبه بعلاج الإيحاء لأنه بمثابة نهي صامت ملح يتمثله المرتكب للقبيح مدويا في إذنه، مثابرا على تبكيته وتأنيبه.

وقد مثل لنا رسول الله حال المؤمن لأخيه فقال: (المؤمن مرآة المؤمن) كما مثل لنا حال الأمة بحال راكبين في سفينة أراد بعضهم أن ينقروا فيها، فإن اخذوا على يده نجوا ونجا معهم، وإن تركوه هلكوا وهلك معهم.

هذا كله تربية للأمة وتكوين لشخصيتها، وخلق لقوة المقاومة فيها، تحصينا لها من الفساد، ودفعا بها في سبيل الرشاد. وقد قص علينا القرآن أمر بني إسرائيل لما أتهدم فيهم هذا الأصل، وسامحوا فيه وداهنوا، فقال: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون) واللعن عقوبة شديدة فظيعة، هي الطرد والأبعاد عن رحمة الله والحرمان من توفيقه ورعايته، ولا شك أن أمة تصاب بذلك هي أمة هالكة بائرة، وقد ذكر الله سبب هذا اللعن الذي عوقبوا به على لسان داود وعيسى بن مريم فبين لنا أنه العصيان والاعتداء وعدم التناهي عن المنكر ثم ذم صنيعهم في ذلك بهذه العبارة البليغة المؤكدة بالقسم: (لبئس ما كانوا يفعلون).

كما قصت علينا السنة النبوية ذلك لنعتبر به، فقد روى أبو داود وغيره عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله قال: (أن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل، كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيدة، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض) ثم تلا رسول الله قوله تعالى: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل) وكان متكئا فجلس وقال: (والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد المسيء، ولتأطرنه على الحق أطرا - أو تقصرنه على الحق قصرا. . . أو ليضر بن الله قلوب بعضكم على بعض، أو ليلعنكم كما لعنهم).

وقد تحدث الله جل علاه عن (الذين اخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله) فقال وعدا، واشتراطا عليهم: (ولينصرن الله من ينصره أن الله لقوي عزيز: الذين أن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور).

فبعث بذلك في كل فرد من أفراد المؤمنين رغبة النصر والقوة والعزة على شرائط يؤديها من بينها هذا الركن الأساسي العظيم، وقد وفى الله للمؤمنين بوعده حين وفى له تعالى بما شرط عليهم، فلما كان شأنهم قول الحق، والإنكار على الظلم، وبذل النصح، وتقويم المعوج، والدعوة إلى الخير والمعروف، أصلح الله شأنهم، وأعز دولتهم، وأخاف أعداءهم، ولما جاملوا في الحق، وتسامحوا في درء المفاسد، ودفع المنكرات، وضعفوا عن مجابهة المبطلين، ضرب الله بعضهم ببعض، وأصابهم بالانحلال، وأصبحوا أفرادا ممزقين، يتجاورون في الأوطان دون أن يجمعهم وصف الأمة المتعاونة المتكاتفة ذات (الرأي العام) الناضج المهيب.

(وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون).

محمد محمد المدني

المفتش بالأزهر