مجلة الرسالة/العدد 809/طبيب أديب

مجلة الرسالة/العدد 809/طبيب أديب

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 01 - 1949



للأستاذ عباس خضر

عاش هذا الرجل ببغداد في القرن السادس الهجري، في الوقت الذي كان قد مضت فيه حقبة طويلة على اكتمال الحركة العلمية في العصر العباسي ونضج ثمارها، وانتقلت من مراحل النقل والترجمة والشرح والتلخيص والتمحيص، إلى طور الإنتاج والاختراع والإنشاء. وكان هذا التقدم العلمي على عكس التدهور ولاضطراب السياسيين، أو قل أن الازدهار العلمي قد عمر أكثر من الازدهار السياسي.

ولا أسترسل في ذلك، فلنعد إلى صاحبنا، وهو أمين الدولة ابن التلميذ الطبيب الأديب. قالوا: أنه كان أوحد عصره في صناعة الطب، وكان إلى ذلك أديبا، له شعر جيد ورسائل بليغة. ولم يجذبني ما رووا عنه من الشعر والنثر ومن البراعة في فنون العلاج الطبي، بمقدار ما راعتني صفات أخرى فيه، يسمونها في عصرنا (واجب الطبيب الإنساني) وقد عرفه واجبا عمليا قبل أن يأتي زماننا فيردده كلاما طليا. . .

كانت داره بجوار المدرسة النظامية في بغداد، فكان يتفقد معلميها وطلبتها، إذا مرض أحدهم نقله إلى داره وقام عليه في مرضه، فإذا شفى أذن له في الانصراف ووهب له دينارين.

وعرض لبعض الأمراء النائين مرض عضال، فقيل له ليس لك إلا ابن التلميذ وهو لا يقصد أحدا. فقال: أنا أتوجه إليه، فلما وصل أنزله ومن معه في ضيافته، وعنى بمعالجته، فلما برئ الأمير وتوجه إلى بلاده أرسل إلى ابن التلميذ مع أحد التجار مالا كثيرا وهدايا ثمينة، فامتنع من قبولها وقال: أن علي يمينا إلا أقبل من أحد شيئا. فقال التاجر: هذا مقدار كثير. قال: لمل حلفت ما استثنيت. وأقام التاجر شهرا يراوده فلا يزداد إلا إباء. فقال له عند الوداع: ها أنا أسافر ولا ارجع إلى صاحبي، وأتمتع بالمال فتتقلد منته وتفوتك منفعته ولا يعلم أحد انك رددته. فقال: ألست اعلم في نفسي أني لم اقبله؟ فنفسي تشرف بذلك علم الناس أو جهلوا!

وقد اعتاد معاصرونا أن ينتسبوا إلى شرف المهنة، ولكن ابن التلميذ كان الأمر عنده ابعد غورا، كانت أصوله في نفسه، فقد درس الفلسفة ومزج الحقائق الخلقية بنفسه ودرس ال مقرونا بالفلسفة المكونة للإنسان الجدير بلقب (الحكيم) فكل ما يعنيه هو شرف نفسه الذي يشترك فيه كل إنسان راق، والذي ينبع منه (شرف المهنة) أن كان لابد من هذه التسمية. ولعل إنصاف الأطباء بتلك الأصول الخلقية في ذلك الزمن واقتران دراستهم الطبية بالدراسة الفلسفية، وإطلاق كلمة الحكمة على كل ذلك، لعل ذلك هو الأصل الذي ينزع إليه إطلاق العامة لفظ (حكيم) على الطبيب.

وكان ابن التلميذ رئيس المستشفى العضدي ببغداد وقد فوض إليه الخليفة رياسة الطب فيها، فكان من شأنه الإشراف على الأطباء وإقرارهم على مزاولة المهنة بعد اختبارهم ومعرفة ما عند كل منهم فيها، وفي أحد مجالس الاختبار حضر شيخ له هيئة ووقار، ولم يكن عنده من صناعة الطب إلا التظاهر بها، وان كان له دربة يسيرة بالمعالجة، فلما انتهى السؤال إليه قال له أمين الدولة:

- ما السبب في كون الشيخ لم يشارك الجماعة فيما يبحثون فيه حتى نعلم ما عنده من هذه الصناعة؟

يا سيدنا، وهل شيء ما تكلموا فيه إلا وأنا اعلمه وقد سبق إلى فهمي أضعاف ذلك مرات كثيرة!

فعلى من كنت قد قرأت هذه الصناعة؟

يا سيدنا، إذا صار الإنسان إلى هذه السن ما يليق به إلا أن يسأل كم من التلاميذ له، ومن هو المتميز فيهم، وأما المشايخ الذين قرأت عليهم فقد ماتوا من زمان طويل.

يا شيخ، هذا شيء قد جرت العادة به ولا يضر ذكره ومع هذا فما علينا، أخبرني أي شيء قرأته من الكتب الطبية؟

سبحان الله العظيم. . . صرنا إلى حد ما يسأل عنه الصبيان! يا سيدنا، لمثلي لا يقال إلا أي شيء صنفته في صناعة الطب وكم لك فيها من الكتب والمقالات، ولا بد أن أعرفك بنفسي.

ودنا إلى أمير الدولة وقال له فيما بينهما:

اعلم إنني قد شخت وأنا أوسم بهذه الصناعة، وما عندي منها إلا معرفة اصطلاحات مشهورة في المداواة، وعمري كله أتكسب بها، وعندي أولاد، فسألتك بالله ألا تفضحني بين هؤلاء الجماعة وألا تمنعني التكسب لعيالي.

لك ذلك ولكن على شريطة، وهي انك لا تهجم على مريض بما لا تعلمه، ولا تشير بقصد ولا بدواء مسهل إلا لما قرب من الأمراض.

هذا مذهبي مذ كنت.

ورفع أمير الدولة صوته والجماعة تسمع: يا شيخ اعذرنا فإننا ما كنا نعرفك والآن فقد عرفناك. . .

ومن الظريف ما حدث بعد ذلك، فقد التفت كبير الأطباء إلى أحدهم وقال له:

على من تعلمت هذه الصناعة؟

يا سيدنا، أنا من تلاميذ هذا الشيخ الذي قد عرفته وعنه أخذت صناعة الطب.

وكان أمين الدولة نصرانيا، عاش في تلك البيئة الإسلامية السمحة مكرما مقدرا أكبر التقدير، يحظى بهبات الخلفاء وعطفهم، ويحل المنزلة التي تليق به في نفوس معاصريه من الأشراف والشعراء، ومما وجه إليه من الشعر ما كتب له الطغراني يشكو ألما في ظهره:

يا سيدي والذي مودته ... عندي روح يحيا بها الجسد

من ألم الظهر استغيث وهل ... يألم ظهر إليك يستند؟

وقد حسده طبيب يهودي اسمه أبو البركات على منزلته لدى الخليفة العباسي المستضيئ بأمر الله، فاحتال للدس عليه بحيلة وضيعة، كتب رقعة نسب فيها إلى أمين الدولة أمورا تحط من قدره، وأوعز إلى من ألقاه في طريق الخليفة، فلما قرأها الخليفة رأى أن يتحقق من صدق ما تحتويه، فلما استقصى الأمر وجده اختلافا، وعرف أن كاتبها أبو البركات، فغضب عليه ووهب دمه وماله وكتبه لامين الدولة، ولكن شرف النفس منعه أن يتعرض لخصمه بسوء، فسقط أبو البركات وانحطت منزلته.

وقال أحد الشعراء في الطبيبين، وكانت كنية أمين الدولة أبا الحسن.

أبو الحسن الطبيب ومقتفيه ... أبو البركات في طرفي نقيض

فهذا بالتواضع في الثريا ... وهذا بالتكبر في الحضيض

وقد جمع هذا الحكيم المهذب (أمين الدولة) قواعد السلوك السبيل وأسباب الحياة الراقية في رسالة كتبها إلى ولده رضى الدولة، والمتأمل في حياته من خلال ما يروى عنه يراها تطبيقات على ما ضمته رسالته، قال فيها:

(وفز بحظ نفيس من العلم تثق من نفسك بأن عقلته وملكته لا قرأته ورويته، فإن بقية الحظوظ تتبع هذا الحظ المذكور وتلزم صاحبه، ومن طلبها من دونه فأما أن لا يجدها وأما أن لا يعتمد عليها إذا وجدها. ولا تثق بدوامها، وأعوذ بالله أن ترضى لنفسك إلا بما يليق بمثلك أن يتسامى إليه بعلو همته وشدة أنفته وغيرته على نفسه، ومما قد كررت عليك الوصاة به ألا تحرص على أن تقول شيئا لا يكون مهذبا في معناه ولفظه، ويتعين عليك إيراده، فأما معظم حرصك فتصرفه إلى أن تسمع ما تستفيده لا ما يلهيك ويلذ للأغمار وأهل الجهالة، نزهك الله عن طبقتهم. فإن الأمر كما قال أفلاطون الفضائل مرة والورد حلوة الصدر، والرذائل حلوة الورد مرة الصدر. وقد زاد ارسطو طاليس في هذا المعنى فقال: أن الرذائل لا تكون حلوة الورد عند ذي فطرة فائقة، بل يؤذيه تصور قبحها إذ يفسد عليه ما يستلذه غيره منها، وكذلك يكون صاحب الطبع الفائق قادرا بنفسه على معرفة ما يتوخى وما يجتذب كالتام الصحة يكفي حسه في تعريفه النافع والضار. فلا ترض لنفسك حفظك الله إلا بما تعلم أنه يناسب طبقة أمثالك، واغلب خطرات الهوى بعزمات الرجال الراشدين)

وهذا الأسلوب غريب في عصره الذي بدأ بوضع مثله السيئ ابن العميد الذي لم تختم به الكتابة كما قيل، بل ختمت بمن قبله ثم بعثت بابن خلدون.

ورسالة أمين الدولة المتقدمة أشبه بكتابة الأساتذة الأوائل كابن المقفع والجاحظ، فإنت تراه يركب التعبير مطهماً فارهاً إلى حيث يقصد. وبعض الكتاب يركبه التعبير فيتسكع به، وآخرون يركبون التعبير الهزيل فلا يصل بهم إلا مبهور الأنفاس.

ولأمين الدولة شعر جيد، قال في ولد له غير نجيب:

أشكو إلى الله صاحباً شكسا ... تسعفه النفس وهو يعسفها

فنحن كالشمس والهلال معا ... تكسبه النور وهو يكسفها

وتطل الفلسفة من خلال شعره إذ يقول:

لولا حجاب أمام النفس يمنعها ... عن الحقيقة فيما كان في الأزل لأدركت كل شيء عز مطلبه ... حتى الحقيقة في المعلول والعلل

كما تبدو الحكمة في قوله:

لا تحقرن عدواً لأن جانبه ... ولو يكون قليل البطش والجلد

فللذبابة في الجرح المعدّ يٌد ... تنال ما قصرت عنه يد الأسد

وله شعر في الألغاز، على طريقة عصره، وقد أحسن التعبير عن الميزان إذ قال لغزا فيه:

ما واحد مختلف الأهواء ... يعدل في الأرض والسماء

يحكم بالقسط بلا رياء ... أعمى يرى الرشاد كل رائي

أخرس لا من علة وداء ... يغني عند التصريح بالإيماء

يجيب إذ ناداه ذو امتراء ... بالرفع والخفض عن النداء

ومن بديع مدحه قوله:

لا يستريح إلى العلات معتذراً ... إذا الضنين رأى للبخل تأويلا

يبادر الجود سبقاً للسؤال يرى ... تعجيله عند بذل الوجه تأجيلا

وله مؤلفات كثيرة في الطب، وقد روى بعض المؤرخين نوادر تدل على حذقه في العلاج وصواب حدسه في معرفة الداء، منها أنه أحضرت إليه امرأة محمولة لا يعرف أهلها في الحياة هي أم في الممات، وكان الزمان شتاء، فأمر بتجريدها وصب الماء المبرد عليها صبا متتابعا كثيرا (كالدش) ثم أمر بنقلها إلى مجلس دفئ قد بخر بالعود والند، ودثرت بأصناف الفراء ساعة، فعطست وتحركت وقعدت، وخرجت ماشية مع أهلها إلى منزلها.

ومن ذلك أن دخل عليه رجل منزوف يرعف دما في زمن الصيف، فأمره أن يأكل خبز شعير مع باذنجان مشوي، ففعل ذلك ثلاثة أيام، فبرئ. وقال في تعليل ذلك: أن دم المريض قد رق ومسامه قد تفتحت، وهذا الغذاء من شأنه تغليظ الدم وتكثيف المسام.

وقد عمر أمين الدولة، إذ بلغ أربعا وتسعين سنة. ومن تجمله في كبره أن كان عند المستضيئ بأمر الله، فلما أراد القيام توكأ إلى ركبتيه، فقال له الخليفة: كبرت يا أمين الدولة، فقال: نعم يا أمير المؤمنين، وتكسرت قواريري. ففكر الخليفة في قوله هذا، وانه لا بد يقصد شيئا بتكسر القوارير. ثم علم أن الخليفة السابق كان قد وهبه ضيعة تسمى قوارير، وظلت في يده، ثم وضع الوزير يده عليها منذ ثلاث سنين. فتعجب الخليفة من حسن أدب أمين الدولة وانه لم ينه أمرها إليه، وأمر بإعادة الضيعة إلى صاحبها وألا يعارض في شيء من ملكه.

وبعد فهذا واحد من سلف بنوا صرح الحضارة في العصور الإسلامية، وعنهم اخذ الغربيون أبان نهضتهم العلمية في أعقاب القرون الوسطى. فإن كنا الآن نأخذ من الغرب فإنا نقتضيه دينا عليه لأمثال أمين الدولة بن التلميذ.

عباس خضر