مجلة الرسالة/العدد 81/في الجحيم البلقاني

مجلة الرسالة/العدد 81/في الجحيم البلقاني

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 01 - 1935



ألبانيا الفتاة

لمناسبة حوادثها الأخيرة

للأستاذ محمد عبد الله عنان

في أوربا دولة إسلامية صغيرة يحدق الخطر اليوم بمصايرها؛ ويتطلع الاستعمار الأوربي إلى افتراسها: تل هي مملكة ألبانيا التي أثارت حوادثها الأخيرة كثيراً من التساؤل والاهتمام، وهي الدولة المسلمة الوحيدة في أوربا، لأن تركيا لم تبق بعد من الوجهة الجغرافية دولة أوربية؛ ومن الأسف أن هذه الملكة الصغيرة تجد نفسها، مذ حصلت على استقلالها قبيل الحرب الكبرى، بسبب ظروفها الجغرافية، هدفاً لأطماع ومنافسات دولية قوية لا تستطيع خلاصاً منها، وترى نفسها مرغمة بحكم ضعفها وعزلتها إلى التماس العون والحماية من أولئك الذين يتطلعون إلى افتراسها

كانت ألبانيا قبل الحرب ولاية تركية. ولكن هذه الأمة الصغيرة الباسلة تناضل في سبيل استقلالها منذ بداية القرن التاسع عشر؛ وقد استطاعت فعلاً أن تحصل على نوع من الاستقلال في عهد زعيمها علي باشا اليانيني في أوائل هذا القرن، فلما انهار سلطان هذا الزعيم الذي تملأ حياته وسيره المروعة كثيراً من صحف القصص الغربي، انهارت جهود ألبانيا في الاستقلال، وعادت تركيا فمكنت منها نيرها وسيادتها. ولما نشبت الحرب بين تركيا والدول البلقانية في سنة 1912، كان من نتائجها استقلال ألبانيا، قضت به معاهدة لندن التي عقدت بين الدول في مايو سنة 1913، واتفقت الدول على اختيار حاكم للدولة الجديدة المستقلة، ووقع اختيارها على البرنس دي فيد الألماني. وفي أوائل سنة 1914 قدم البرنس دي فيد إلى ألبانيا بعد أن زار حكومات الدول الأوربية المختلفة، فاستقبله وفد من الزعماء الألبانيين وعلى رأسهم عميدهم أسعد باشا بطل اشقودرة الذي أعلن استقلال ألبانيا قبل أن تقرره معاهدة لندن، طلب إليه باسم الشعب الألباني أن يقبل عرش ألبانيا، فلبي البرنس الدعوة ولقب (بأمبرت) ألبانيا وهو تصغير للقب الامبراطور، وتولى أسعد باشا في الحكومة الجديدة وزارتي الداخلية والحربية، ولكن الخلاف لم يلبث أن دب بينه و البرنس، واضطربت شؤون ألبانيا، وتفاقمت الصعاب حول الملك الجديد، وأضرم أسعد باشا نار الثورة فأرغم البرنس على مغادرة ألبانيا، لأشهر قلائل من مقدمه، وقبض أسعد باشا على رياسة الحكومة الجديدة (أكتوبر سنة 1914)، واختارت ألبانيا ملكاً جديداً هو البرنس برهان الدين ابن السلطان عبد الحميد. ولكن البلاد لبثت تتخبط في غمار الاضطراب والفوضى؛ وكانت الحرب الكبرى قد اضطرمت قبل ذلك بقليل، وأخذت دول الخلفاء تتطلع إلى ألبانيا كمركز حربي هام، وتخشى أن تغدو قاعدة لحركات ألمانيا والنمسا في المشرق؛ وفي ديسمبر سنة 1914 بعثت إيطاليا - بإيعاز الحلفاء - جملة عسكرية إلى ثغر فالونا الألباني فاحتلته؛ وعلى أثر ذلك وقعت بين الدول مفاوضات سرية بشأن ألبانيا، ووعد الحلفاء بأن يتركوا ألبانيا غنماً لإيطاليا مقابل دخولها في الحرب معهم؛ ووعدت النمسا من جانبها إيطاليا بأن تؤيد احتلالها لثغر فالونا وتطلق يدها في ألبانيا إذا هي لزمت الحياد. ولكنها لما رأت تردد إيطاليا دفعت جيوشها إلى الجنوب؛ وفي أواخر سنة 1915 غزت الجنود النمسوية الألمانية ألبانيا واستولت على اشقودرة، ووصلت إلى ظاهر تيرانا عاصمة ألبانيا، وغزت الجيوش البلغارية شرق ألبانيا؛ فاضطربت حكومة أسعد باشا الموالية للحلفاء وسقطت واضطرت إيطاليا إلى إخلاء ثغر دورازو ولكنها احتفظت بثغر فالونا. ولبث الألمان والنمسويون يحتلون شمال ألبانيا وشرقها لتأمين مواصلاتهم مع تركيا والميادين الشرقية حتى نهاية الحرب الكبرى. ولما انتصر الحلفاء كان من المقرر أولاً أن يعطى القسم الجنوبي من ألبانيا لليونان، ووافقت إيطاليا على ذلك بشرط أن تعترف اليونان بحمايتها على باقي ألبانيا مع التنازل عن سلخة شمالية لصربيا، ولكن هذا التقسيم لم يتم؛ وعادت إيطاليا إلى المطالبة بتنفيذ الوعد الذي قطع لها بالاستيلاء على ألبانيا. وفي مؤتمر سان ريمو (1920) الذي عقد للنظر في مسألة الانتدابات، منح الانتداب على ألبانيا لإيطاليا، وأخذت إيطاليا تعمل لاحتلال ألبانيا وبسط سيادتها؛ ومع أن ألبانيا غدت عضواً في عصبة الأمم، فان إيطاليا استطاعت في أواخر سنة 1921 أن تحمل بريطانيا العظمى وفرنسا واليابان على إصدار تصريح تعترف فيه (بأن انتهاك الحدود الألبانية أو استقلال ألبانيا يمكن أن يعتبر خطراً على سلامة إيطاليا من الوجهة العسكرية)

على أن ألبانيا لم تستكن لهذه المحاولات الاستعمارية. والشعب الألباني شعب باسل رغم كونه يقل عن المليونين عداً (نحو مليون وستمائة ألف ثلثاهم من المسلمين)، يقدس حرياته واستقلاله، ولهذا عادت ألبانيا فاضطرمت بحركة وطنية اخرى؛ وتدخلت السياسة اليوجوسلافية خصيمة السياسة الإيطالية لتأييد هذه الحركة التي قادها زعيم فتي هو أحمد زوغو؛ ولم يمض عامان أو ثلاثة حتى استطاع أحمد زوغو بمعاونة يوجوسلافيا أن ينشئ في ألبانيا جمهورية مستقلة، وان ينتخب رئيساً لهذه الجمهورية (فبراير سنة 1925). ورأى زوغو أنه لا يستطيع المحافظة على سلامة الدولة الجديدة في بلد وعر قوى المراس قليل الموارد دون معاونة أجنبية؛ ولما رأت السياسة الإيطالية أن يوجوسلافيا تنافسها في ألبانيا، تقربت من أحمد زوغو؛ وآثر زوغو بعد أن حقق الخطوة الأولى من برنامجه أن يتفاهم مع حكومة رومه، وانتهى هذا التفاهم بعقد ميثاق تيرانا (نوفمبر سنة 1926)، وهو ميثاق تأييد متبادل وتعاون ودي، تستطيع الحكومة الإيطالية أن تتدخل بمقتضاه في شئون ألبانيا، وتتعهد أن تحافظ على الحالة القائمة فيها في حدود المعاهدات المعقودة وميثاق عصبة الأمم. وفي العام التالي عقدت ألبانيا مع إيطاليا معاهدة دفاعية لمدة عشرين سنة، تتعهد فيها كل منهما بأن تضع تحت تصرف حليفتها كل مواردها العسكرية والمالية وغيرها متى طلبت إليها هذا العون لدرء الخطر عنها

واستطاع أحمد زوغو أن يهدئ الحالة في ألبانيا وأن يقبض على ناصية الأمور رغم هذه الاتفاقات التي تقضي على استقلال ألبانيا وتجعلها شبه مستعمرة إيطالية. واستغلت إيطاليا هذه الفرص لتوطيد نفوذها؛ وعقدت لألبانيا بواسطة عصبة الأمم قرضاً قدره خمسون مليون فرنك ذهباً، وقامت بإنشاء البنك الألباني الوطني، ووظفت أموال إيطالية كثيرة في المرافق الألبانية، ومكنت السياسة الفاشستية نفوذها من ألبانيا. واعتمد أحد زوغو على هذا النفوذ في تأييد مركزه وسلطانه؛ وفي سبتمبر سنة 1928 أعلن نفسه ملكاً على ألبانيا باسم الملك زوغو الأول، واستطاع أن يوطد مركزه وأن يقضي على كل معارضة؛ ولكنه شعر في نفس الوقت أن توغل النفوذ الإيطالي في ألبانيا، يثير الشعور الوطني، وقد ينقلب هذا الشعور ضده، ورأى من جهة أخرى انه ليس في كبير حاجة إلى معاونة إيطاليا بعد؛ فلم يقبل أن يجدد ميثاق تيرانا الذي انتهى أجله سنة 1931، وبقيت معاهدة سنة 1927 هي أساس العلائق بين إيطاليا وألبانيا؛ ولكنه اضطر أن يعقد اتفاقاً مالياً في صيف 1931، تتعهد إيطاليا بمقتضاه أن تقدم لألبانيا بشروط معينة قرضاً قدره مائة مليون فرنك ذهباً بلا فائدة، وتؤدي منها إليها كل عام عشرة ملايين.

واهتمام السياسة الإيطالية بألبانيا وتمكين نفوذها منها يرجع إلى عوامل جغرافية وعسكرية خطيرة، فألبانيا تقع في مواجهة إيطاليا الجنوبية على الضفة اليمنى من بحر الأدرياتيك، وليس بين ثغر باري الإيطالي وبين ثغر دورازو الألباني أكثر من بضع ساعات، ولا يفصل برنديزي وفالونا أكثر من مائة كيلو متر؛ ثم إن شواطئ ألبانيا تصلح بطبيعتها قواعد ومرافئ حصينة للأسطول الايطالي، على حين أن الشواطئ الإيطالية المواجهة ليست لها هذه الخاصة. ولألبانيا وقت السلم جيش نظامي يبلغ تسعة الآف، ويمكن وقت الحرب أن بغدو مائة ألف، وهو مدرب على الأساليب الإيطالية بحيث يغدو وقت الحرب بالنسبة لإيطاليا عوناً لا يستهان به. ومن جهة أخرى فان وقوع ألبانيا في جنوب يوجوسلافيا خصيمة إيطاليا ومنافستها القوية يجعلها إذا نشبت حرب بين الدولتين قنطرة سهلة للوصول إلى إيطاليا وتهديد شواطئها وثغورها الجنوبية بسرعة؛ وإيطاليا تحسب لهذا الخطر حسابه، خصوصاً بعد تحسن العلائق بين ألبانيا ويوجوسلافيا في الآونة الأخيرة

ولنحاول الآن أن نستعرض موقف ألبانيا الحاضر بعد الذي أذاعته الأنباء الأخيرة عن وقوع اضطرابات خطيرة فيها يوشك أن تتمخض عن انقلاب سياسي جديد. والظاهر أن هنالك مبالغة في هذه الأنباء قصدت إليها بعض المصادر التي تعمل على تشويه سمعة ألبانيا ولاسيما المصادر اليونانية نظراً لعدم رضى اليونان عن معاملة الأقلية اليونانية في ألبانيا؛ وهذه الأقلية يسكن معظمها في القسم الذي ضم إلى ألبانيا من مقاطعة أبيروس وهي مثار الخلاف بين البلدين. وتنفي المصادر الألبانية الرسمية هذه الأنباء، وتقول إن ما حدث كله يتلخص في أن زعيماَ ناقماً يدعى محرم بجرا كطاري قاوم السلطات في أولميشت حينما أرادت أن تقبض لديه على بعض المجرمين الفارين الذين آواهم، وإن السلطات استطاعت أخيراً أن تقمع حركاته وأنه اضطر إلى الفرار مع بعض أنصاره إلى ما وراء الحدود اليوجوسلافية؛ بيد أنه إذا لم تك ثمة ثورة عامة في ألبانيا، أو كانت ثمة محاولة إلى الثورة سحقت قبل استفحالها، فانه لا ريب أن شئون ألبانيا ليست على ما يرام، وأنها تجوز فترة من الاضطراب والقلق. فمنذ نحو عامين تضطرم الكتلة المعارضة لأحمد زوغو بنزعة قوية إلى الثورة وإلى إلغاء الملوكية، وإعادة النظام الجمهوري بعيداً عن الوصاية الأجنبية، وقد أسفرت هذه الحركة منذ نحو عام عن محاولة اتهم فيها عدة كبيرة من الشباب المتعلم بالتآمر على سلامة الدولة.

ومن جهة أخرى فقد رأت إيطاليا أنها لم تحقق كل ما أرادت من تدخلها في الشئون الألبانية وقررت أن تقطع الإعانة المالية السنوية عن الملك زوغو حتى تجاب إلى مطالبها في السيطرة على التجارة الألبانية، وافتتاح المدارس الإيطالية المغلقة، وتعيين مستشارين إيطاليين في الإدارات الألبانية، وتعيين ضباط إيطاليين لتدريب الجيس الألباني وغيرها؛ وهذه مطالب لم يقبلها أحمد زوغو وحكومته. وقد أحدث قطع الإعانة المالية ارتباكاً خطيراً في الحكومة الألبانية، واضطربت المرافق والمشاريع العامة، ونضبت موارد القصر والإدارات الحكومية، وساد روح من القلق والتذمر حول الملك زوغو وحكومته، وتحركت المعارضة لتحاول فرصتها؛ والظاهر أن الحركة الأخيرة كانت أثراً من آثار هذا الارتباك العام، وأنها ليست إلا بداية قد تعقبها محاولات أخرى إذا لم تتح للملك زوغو وعصبته فرصة لتوطيد مركزهم بالتفاهم مع إيطاليا وتلقي معونتها أو آية معونة خارجية أخرى

والحقيقة أن تلك الدولة الصغيرة المسلمة تجد نفسها في مركز محزن؛ فهي لا تستطيع أن تعيش مستقلة بنفسها، ولا تستطيع رغم بسالتها أن تذود عن هذا الاستقلال الذي تجاهد في سبيله، وهي مطمح أنظار دولتين قويتين خصيمتين، وليس في مقدورها أن تفلت من نتائج هذا التجاذب السياسي الذي تتعرض له بموقعها الجغرافي وظروفها العسكرية، وإذا فلا بد لها أن تختار الخضوع لأحد النفوذين: النفوذ الإيطالي، أو النفوذ اليوجوسلافي، وقد استظل أحمد زوغو بنفوذ يوجوسلافيا حتى تمكن من إنشاء ألبانيا الجديدة ومن التربع على عرشها؛ ثم استظل بعد ذلك بالنفوذ الإيطالي ليوطد دولته الجديدة، وهاهو اليوم يتبرم بذل النفوذ ويحاول خلاصاً منه. فهل يكون ذلك نذير العود إلى سياسة التفاهم مع يوجوسلافيا؟ إن إيطاليا ترى في ألبانيا غنماً تحرص عليه كل الحرص وتعما بكل الوسائل لكي تستأثر به، وترى فيها مجازاً للتوسع في المشرق، والسياسة الفاشستية تنشط اليوم إلى التوسع والاستعمار حيثما استطاعت؛ ومن المحقق أنها ستنازع يوجوسلافيا أية محاولة تقوم بها في ألبانيا، لأنها ترى في مثل تلك المحاولة اعتداء على سلامتها وعلى أي حال فان مصير ألبانيا غامض كل الغموض. وخير ما يمكن أن تفوز به هذه الأمة الصغيرة الباسلة هو أن تعيش كدولة (فاصلة) في ظل نوع من الاستقلال، وأن تعمل للانتفاع بهذا التجاذب السياسي الذي تترواح بين شقيه بذكاء واعتدال. وشر ما يمكن أن يصيب ألبانيا هو أن تتفق الدولتان المتنافستان على اقتسامها بين سمع أوربا المتمدنة وبصرها، وتحقق كل بذلك أطماعها، وتذهب الأمة الباسلة، كما ذهبت كثيرات غيرها، ضحية الاستعمار الغربي

محمد عبد الله عنان المحامي