مجلة الرسالة/العدد 81/محاورات أفلاطون

مجلة الرسالة/العدد 81/محاورات أفلاطون

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 01 - 1935



الحوار الثالث

فيدون أو خلود الروح

ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود

أشخاص الحوار

فيدون (وهو راوي الحوار إلى اشكراتس من أهالي فليوس)

سقراط. أبولودورس. سمياس. سيبيس. كريتون. حارس السجن

مكان الحوار: سجن سقراط

مكان الرواية: مدينة فليوس

اشكراتس - أي فيدون! هل كنت بنفسك في السجن مع سقراط يوم تجرع السم؟

فيدون - نعم كنت يا اشكراتس

اشكراتس - أود لو حدثتني عن موته، ماذا قال في ساعاته الأخيرة؟ لقد أنبئنا أنه مات باجتراعه السم، ثم لم يعلم أحد منا فوق ذلك شيئاً، فليس ثمة اليوم بين بني فليوس من يذهب إلى أثينا، كما أن أحداً من الأثينيين لم يجد سبيله إلى فليوس منذ عهد بعيد، ولذا لم يأتنا عنه نبأ صريح

فيدون - هل أتاك حديث المحاكمة وكيف سارت؟

اشكراتس - بلى، لقد حدثنا بعض الناس عن المحاكمة، فلم ندر لماذا نفذ فيه الإعدام بعد الإدانة بزمن طويل، كما رأينا، ولم ينفذ في حينه؟ فما علة ذلك؟

فيدون - علته حادث وقع في اليوم السابق لمحاكمته يا اشكراتس، وهو تكليل مؤخرة السفينة التي يبعثها الأثينيون إلى دلفي.

اشكراتس - وما تلك السفينة؟

فيدون - يروي الاثينيون أنها السفينة التي كان قد أبحر عليها تسيوس وصحبه الشبان الأربعة عشر إلى اقريطش، حيث نجا وإياهم، وكان قد قيل وقتئذ إنهم نذروا لأبولو أن لو سلموا ليحجن إلى دلفي مرة كل عام، وما تزال العادة متصلة إلى اليوم. فهذه الفترة كلها، التي تنفقها السفينة في رحلتها إلى دلفي، ذهاباً وإياباً، منذ الساعة التي يكلل فيها كاهن أبولو مؤخرة السفينة، فترة حرام، لا يجوز للمدينة خلالها أن تدنس أرضها بقتل أحد من الناس؛ وكثيراً ما اعترضت السفينة ريحٌ أخرتها، فأرجئ الإعدام أياماً طوالاً. فهذه السفينة كما سبق لي القول قد كللت في اليوم السابق لمحاكمة سقرط. فدعاه ذلك إلى أن يلبث في السجن ولم يعدم إلا بعد الإدانة بزمن طويل

اشكراتس - كيف كان موته يا فيدون؟ ماذا عُمل وماذا قيل؟ ومن ذا جاوره من أصدقائه؟ أم لم يأذن لهم ذوو السلطان بالحضور فمات وحيداً؟

فيدون - لا، بل رافقته من أصدقائه طائفة كبيرة

اشكراتس - إن لم يكن لديك ما يشغلك، فأرجو أن تقص على ما حدث، دقيقاً ما استطعت إلى الدقة سبيلاً

فيدون - لا شاغل عندي، وسأحاول أن أجيبك إلى ما رجوت، فليس كذلك أحب إلي من أن أكون ذاكراً لسقراط، سواء أكنت أنا محدثاً، أم كنت مستمعاً إلى من يتحدث عنه

اشكراتس - لن تجد من سامعيك إلا نفوساً ترغب فيما رغبتَ فيه وإني لآمل أن تكون دقيقاً ما وسعتك الدقة.

فيدون: - وإني لأذكر ما اعتراني من إحساس عجيب، إذ كنت إلى جانبه، لقد كنت بازائه غليظ القلب، يا اشكراتس، لأني لم أكد أصدق أني إنما أشهد صديقاً يلفظ الروح. إن كلماته وقسماته ساعة الموت، كانت من النبل والجلد، بحيث بدا في ناظري كأنه رافل في نعيم، فأيقنت أنه لابد أن يكون بارتحاله إلى العالم الآخر ملبياً لدعوة من ربه، وأنه سيصيب السعادة إذا ما بلغ ذلك العالم، إن كان لأحد أن يعيش ثمت سعيداً، فكان طبيعياً، وتلك حاله، إلا تأخذني عليه الرحمة، ولكني مع ذلك لم أجد في الحوار الفلسفي (إذ كانت الفلسفة موضوع حديثنا) ما تعودت أن أجده فيه من متاع؛ لقد كنت مغتبطاً، ولكني أحسست إلى جانب الغبطة ألماً، أنْ علمت أنه لن يلبث طويلاً حتى يموت. لقد ساهمنا جميعاً في هذا المزيج العجيب من المشاعر، فكان يتناوبنا الضحك والبكاء، ولاسيما أبولودروس لأنه سريع التأثر - هل تعرف هذا الضرب من الرجال؟

اشكراتس - نعم فيدون - لقد غُلب على أمره وتخاذلت قواه. وأنا نفسي، بل وكلنا جميعاً، قد بلغ منا التأثر مبلغاً عظيماً

اشكراتس - من كان الحضور؟

فيدون - حضر سوى أبولودورس من بني أثينا، كريتوبويس، وأبوه كريتون، وهرموجينس وأبيجينس، وايشينس، وانتسين. كذلك أكتيسبس من أهل بيانيا، ومينكسينوس وغيرهم كثيرون. أما أفلاطون فقد كان مريضاً فيما أظن

اشكراتس - أكان ثمت أحد من الغرباء؟

فيدون - نعم، كان هناك سمياس الطيبي، وسيبيس، وفيدونديس، واقليدس، وتربيزون الذين جاءوا من ميفارا

اشكراتس - وهل كان أرسطبس وكليومبروتس حاضرين؟

فيدون - لا. فقد قيل إنهما كانا في أيجينا

اشكراتس - ومن غير هؤلاء؟

فيدون - هم فيما أحسب كل الحاضرين على وجه التقريب

اشكراتس - وأي حديث تناولتم بالحوار؟

فيدون - سأسوق الحديث من أوله، محاولاً أن تكون الرواية شاملة

ولعلك تعلم أنا قد كنا من قبل نجتمع مع الصباح الباكر في المحكمة التي جرت فيها المحاكمة، وهي على مقربة من السجن، فنظل نتجاذب أطراف الحديث حتى تفتح أبواب السجن (وقد كانوا لا يبادرون بفتحها) فندخله لننفق معظم النهار مع سقراط، فلما كان الصبح الأخير، بكرنا باللقاء عن الموعد المعهود إذ علمنا في الليلة السالفة أن السفينة المقدسة قد عادت من دلفي فتواعدنا على اللقاء في المكان المضروب جد مبكرين، فما كدنا نبلغ السجن حتى طلع السجان المسئول عن حراسة السجن، ولم يأذن لنا بالدخول، بل أمرنا أن ننتظر حتى يدعونا، (لأن الأحد عشر مع سقراط الآن، يرفعون عنه الأغلال، ويأمرون بأن يكون اليوم قضاؤه المحتوم) كما قال. ولم يلبث أن عاد يجيز لنا الدخول، وإذ فعلنا ألفينا سقراط قد خلص لتوه من الأصفاد، واكزانثيب، التي تعرفها جالسة إلى جانبه تحمل وليده بين ذراعيها، فلم تكد تبصرنا حتى صاحت قائلة ما ينتظر أن تقوله النساء: (أواه يا سقراط! لتلك آخر مرة يتاح لك فيها أن تتحدث إلى أصدقائك أو يتحدثون إليك) فنظر سقراط إلىكريتون، وقال: (مُرْ أحداً يا كريتون أن يذهب بها إلى الدار) فساقها بعض حاشيته صارخة لادمة، وما كادت تغيب عن النظر حتى انثنى سقراط، وكان جالساً على سريره، وأخذ يربت على ساقه قائلاً: (ما أعجب هذا الشيء الذي يسمونه اللذة، وما أغرب صلته بالألم، الذي قد يظن أنه واللذة نقيضان، لأنهما لا يجتمعان معاً في إنسان، مع أنه لابد لمن يلتمس أحدهم أن يحمل معه الآخر؛ إنهما اثنان، ولكنهما ينبتان معاً من أصل واحد، أو يتفرعان من أرومة واحدة، ولست أجد سبيلاً إلى الشك في أنه لو رآهما أيزوب لأنشأ عنهما قصة، يُصور فيها الله وهو يحاول أن يوفق بينهما في الخصومة القائمة، فان لم بوفق، سد رأسيهما إلى بعض في وثاق واحد، وذلك عله أن يجيء الواحد في أعقاب أخيه، كما شاهدت في نفسي، إذ أحسست لذة في ساقي جاءت في أثر الألم الذي أحدثه القيد فيها

وهنا قال سيبيس: كم يسرني حقاً يا سقراط أن تذكر ايزوب، فقد ذكرني ذلك بمسألة طرحها بعض الناس واستجابني عنها افينوس الشاعر أمس الأول، ولا ريب في انه سيعود ثانية إلى السؤال، فحدثني بماذا أجيبه، إن كنت تحب أن يظفر بالجواب. أنه أراد أن يعرف لماذا، وأنت رهين السجن، ولم تكتب من قبل بيتاً واحداً من الشعر، تنظم قصص أيزوب وتنشئ تلك الأنشودة إجلالاً لابولو

فأجاب أن حدثه يا سيبيس بأنني لم أفكر في منافسته ومنافسة أشعاره، وحق ما أقول، لأنني كنت أعلم أن لا قبل لي بذلك، إنما أردت أن أرى هل أستطيع أن أمحو وهماً أحسسته عن بعض الرؤى، فلكم أشارت إلي هواتف الأحلام في أيام الحياة (بأنني سأنشئ الموسيقى) وقد كان يطوف بي هذا الحلم في صور متباينة، ولكنه لازم عبارة يعنيها ينطق بها أو بما يقرب منها دائماً: أنشئ الموسيقى وتعهدها بالنماء - هكذا كانت تهتف الرؤيا، وقد خيل إلى منذ ذلك الحين أنها لم تُرد بذلك إلا أن تحفزني وتبعثني على دراسة الفلسفة التي كانت دوما قصد الرمي من حياتي، والتي هي أسمى جوانب الموسيقى وأرفعها شأناً، فكما ترى النظارة في حلبة السباق يهيبون بالمتسابق المتحمس أن يجري مع أنه يجري فعلاً، كذلك كانت رؤياي تأمرني أن أؤدي ما كنت بالفعل قائماً بأداءه، ولكني لم أكن على يقين من هذا، فربما قصدت الرؤيا بالموسيقى معنى الكلمة المعروف، فرأيت أني أكون آمن، لو أرضيت هذا الشك، وأطعت الرؤيا فيما تأمر به، فأنشأت قبل رحيلي قليلاً من الشعر، فهذا قضاء الموت يرقبني، وقد أمهلني العيد قيلاً. فكتبت بادئ ذي بدء نشيداً في تمجيد آله هذا العيد، ثم لما رأيت أن الشاعر الذي يراد له أن يكون شاعراً مبدعاً حقاً، لا ينبغي أن يحشد ألفاظاً وكفى، بل لابد له أن ينشي قصصاً، ولما لم تكن لدي قوة الإنشاء؛ أخذت طائفة من قصص ايزوب، ونظمتها شعراً، فقد كانت ميسرة سهلة التناول، وإني بها لعليم. أنبئ أفينوس بهذا ولا تجعله يبتئس، قل له إني أود أن يتبعني، وإلا يتلكأ إن كان رجلاً حكيماً، فأغلب الظن أنب مرتحل عنكم اليوم، إذ قال الأثينيون أن ليس لي من ذلك بد

قال سمياس - يا له من نبأ يحمل لذلك الرجل! أني أقرر لكم وقد كنت رفيقاً له ملازماً، أنه - كما عهدته - لن يأخذ بنصحك إلا مجبراً

قال سقراط - ولماذ؟ أليس أفينوس فيلسوفاً؟

قال سمياس - أحسبه كذلك

إذن فسيكون راغباً في الموت، شأن كل رجل عنده روح الفلسفة، ولو أنه لن ينتزع روحه بيده، فقد أجمع الرأي على أن ليس ذلك صواباً

وهنا بدل في وضعه، فأنزل ساقيه من السرير إلى الأرض ولبث جالساً حتى ختم الحوار

يتبع

زكي نجيب محمود