مجلة الرسالة/العدد 811/الأدب والفن في أسبوع

مجلة الرسالة/العدد 811/الأدب والفن في أسبوع

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 01 - 1949



حرية الأدب:

أمن الأوفق للأدب أن تكون له خطة مرسومة، أم تترك الحرية للأديب في اختيار الخطة التي يجب أن يسلكها؟ هذا هو السؤال الذي أثار به الأستاذ عبد الوهاب خلاف بك نقاشاً حمى وطيسه في إحدى جلسات مؤتمر المجمع اللغوي، تعقيباً على محاضرة الأستاذ محمد رضا الشبيبي في (النهضة الأدبية في العراق) التي قال فيها: إن مما مني به الأدب أخيراً في العراق فقدان خطة عامة مرسومة للنهوض بالأدب وباللغة العربية في البلاد.

قال الدكتور طه حسين بك: أعتقد أن معالي الأستاذ المحاضر لم يرد التحدث عن خطة مرسومة للأدب بل عن خطة للنهوض بالثقافة في العراق، وهذه الخطة - من غير شك - تساعد على نهضة الأدب وتحول بينه وبين التورط في كثير من الأزمات الثقافية.

وقال الدكتور احمد أمين بك: أنا لا أوافق على أن يكون الأدب طليقاً كل الطلاقة، وأرى أن يوضع له منهج لا يصادر حرية الأديب، ولمجمعنا أن ينظر مثلاً أغاية الأدب أن يلتذ به كما يلتذ بلون الزهرة وطيبها، أم ترى غايته خدمة المجتمع والنهوض به؟ فقال الدكتور طه: أنا لا أعرف للأدب غاية إلا التعبير عما في نفس الأديب، والأديب الذي يحترم نفسه قد لا يكتب ليلذ القارئ بل ليغيظه ويحنقه، كما أنه لا يكتب ليخدم غرضاً اجتماعياً بعينه.

وقال الأستاذ الشبيبي: إني آسف لأني طويت صفحة كاملة من صحف هذه المحاضرة تتعلق بموضوع حرية الأدب، وأن الأدب لا ينبغي أن ترسم له خطط، وأنا أوافق على التفرقة بين الأدب والثقافة من حيث حرية الأول وتنظيم خطة للثانية.

ثم قال الدكتور أحمد أمين بك: إنما أريد للأديب توجيهات وللأدب غاية، فقيام النقد الأدبي على أساس صحيح معناه أن هناك عناصر وقواعد عامة يشير عليها النقاد، فالحرية المطلقة التي يدعون إليها هي هدم للنقد الأدبي، وأنا أريد من المجمع أن يضع توجيهات عامة في الأدب يسترشد بها الناقد والأديب، ويصح أن ندخل في حسابنا عند وضع هذه القواعد كون الأدب ذا فائدة اجتماعية أو أنه يطلب لذاته.

وشبه الأستاذ العقاد الأدب بالوردة، فلا يجب أن يخدم المجتمع.

وكان ختام المناقشة في الموضوع قول الدكتور طه: إن القوة التي ترسم خطة للأديب لم تخلق بعد، وأرجو إلا تخلق، فالأديب حر، والناقد حر، وليس هناك ما يصح أن نسميه خطة للأدب ولو كان نقداً.

تعقيب:

تفرعت المناقشة في حرية الأدب إلى المسألة الثانية وهي خدمته للمجتمع، والأمر في مسألة الحرية واضح، فلن يستطيع أحد أن يلزم الأديب بأن يسير على نهج معين أو يتجه إلى غاية مرسومة، وحقاً إن غاية الأدب التعبير عما في نفس الأديب كما قال الدكتور طه، ولكن ما هي نفس الأديب وماذا فيها إن لم يكن الشعور بما يضطرب في حياته التي هي جزء من حياة المجتمع؟ أليست نفس الأديب نفس الإنسان يحس بما يدور حوله ويتأثر به ويعيش مع الناس في بؤسهم ونعيمهم ويشعر نحوهم بتبعات وواجبات؟ أو ليس في نفس الأديب ذخيرة من هذا كله فيعبر عنها بأسلوبه الفني ويؤثر في النفوس بصوره الأدبية ويوجهها إلى مثل عليا؟ وهو في ذلك يتمتع بتمام حريته لم يقسر على شيء ولم يرسم له أحد طريقاً ولم يخرج عن نطاق التعبير عما في نفسه.

لاشك أن الأصل هو ما في النفس، والتعبير صورة له، فإذا كان الأدب لا يخدم المجتمع فمعنى ذلك تجريد النفس من الشعور الاجتماعي أو كبت هذا الشعور، والأول ينفي القيمة الإنسانية عن الأدب، والثاني لا يتفق والحرية في التعبير.

على أن الأديب حينما يستجيب للمجتمع إنما يستجب لنفسه لأنه جزء منه، فإن لم يستجب له كان أدبه أدب عزلة وجمود.

حديث مستشرق عن الشعر العربي:

انتهزت كلية الآداب فرصة وجود مستشرق إنجليزي في رحلة بالشرق الأوسط، وهو الدكتور ألفرد جيوم أستاذ الأدب العربي بجامعة لندن، فدفعه إلى إلقاء محاضرة بالجمعية الجغرافية الملكية، فلبى الدعوة ألقى يوم السبت الماضي محاضرة موضوعها (الشعر العربي) بدأها بالإشارة إلى الصعوبات التي تعترض المستشرق عند قراءة الشعر العربي من حيث الوقوف على معانيه، وقال إنه كثيراً ما يغمض عليه معنى بيت فيبحث ويسأل عنه على غير طائل، فيتذكر قول شاعر إنجليزي سئل عن معنى بعض شعره: عندما قلت هذا الشعر كان هناك اثنان يعرفان معناه الله وأنا، أما الآن فالله وحده هو الذي يعرفه.

وقال إنه لا يقف عند القصائد التي تصور البيئة المحلية فإذا رأى قصيدة في وصف الناقة خطر له أن يسلك مع قائلها طريقة أبي العلاء المعري في رسالة الغفران، وذلك بإحياء الشاعر وأسماعه قصيدة في وصف السيارة تتضمن أسماء أجزائها، وما يتعلق بها من المصطلحات انتقاماً منه. . .

أما الذي ينال إعجابه فهو ما في الشعر العربي من التعبير عن العواطف الإنسانية، والمشاعر الروحية وتصوير جمال الطبيعة، فهذا يسر له كل إنسان يتمتع بالحاسة الفنية في كل أمة، وقال إن القصائد التي تعبر عن ذلك في شعر العرب تعد من روائع الآداب العالمية، وأتى بقطعة من شعر عمرو بن الفارض ووقف عند بعض أجزائها وقفة المتذوق الفطن، وعلق عليها قائلاً: إننا في هذا الوقت الذي يضطرب فيه العالم في خضم المنافع والماديات نستروح بروح الشعر وشعر الروح مما قاله منذ قرون ذلك الشاعر الصوفي العربي الذي يعد من اعظم شعراء الدنيا.

وأتى بقطع لمختلف الشعراء في مختلف العصور، ودل على مواطن الجمال فيها، وقد ذهب في اختياره بعض القطع، واستحسانه مذهب ابن قتيبة في قوله: ليس كل الشعر يختار لجودة اللفظ والمعنى بل لأسباب أخرى منها إصابة التشبيه.

وختم الدكتور جيوم محاضرته بأنه يعتبر نفسه سعيداً لأنه يدرس الأدب العربي لطائفة من شباب الإنجليز بجامعة لندن فيقرب إليهم موارد الشعر الذي يعبر عن روح الأمة العربية التي لا تقيم على ضيم.

وقد كان المحاضر - على التواء لهجته - دقيقاً في التعبير والإعراب، ومما استرعى التفاتي إليه انسجام إلقائه ونبراته مع ما يتحدث عنه، فكان يلقي ما أعده في الورق وكأنه يرتجل بلغته الأصيلة.

محاضرات مزعومة:

لا يزال بنفسي أثر من الروايات (البوليسية)، التي كنا نقرؤها في الصغر، فعلى رغم الزمن الذي مضى مذ (شب عمرو عن الطوق) فإن تلك القراءة لم تمنح آثارها وإن خدعنا الظاهر لأنها غائرة في الأعماق أو في العقل الباطن كما يعبر علماء النفس.

ذلك أني ارتبت في اسم من الأسماء، التي تنشر دائماً في (محاضرات اليوم) بالأهرام، فحلت بي روح المغفور له (أرسين لوبين) وجلست في الشرفة انظر إلى الأفق البعيد وأنفث دخان السيجار لترسم خطوطه المتموجة في الفضاء سطور الشك. . . كيف أوتي صاحبنا المقدرة على أن يلقي محاضرة كل يوم والمفروض أن المحاضرة فكرة تحتاج إلى وقت لتنضج في الذهن، وتختمر قبل أن ترتجل إن لم تحبر. . .؟ إلا يمكن أن يكون في الأمر دخل لروح العصر عصر السرعة، فيكتفي بعنوان المحاضرة ليجيز نشر الاسم الكريم ولا حاجة إلى العناء بالتفكير والإلقاء؟

ثم نفذت الخطة، وهي بطبيعة الحال تختلف عن خطط سلفي (أرسين لوبين) فلست احتاج إلى جرأته الخارقة وقدرته الفائقة على سرعة الانفلات من المسدس المصوب إليه. . . والتغلب على جميع أفراد العصابة بقبضة يده. . . كل ما في الأمر أن أذهب إلى المكان المعين لإلقاء المحاضرة، فألفيه مزعوماً، كدولة إسرائيل، حذو النعل بالنعل!

ودلت تحرياتي أيضاً - وأنا لا أزال متقمصاً روح أرسين لوبين - على أن بعضهم لديه بطاقات طبعها، متضمنة إنه سيلقي محاضرة، وقد ترك في الطبع بياضاً لعنوان المحاضرة، فما عليه إلا أن يسود هذا البياض، ويرسل البطاقة إلى الصحف، لتنشر النبأ.

لا شك أن (محاضرة اليوم) في الأهرام باب نافع من حيث ما قصد منه وهو أن يكون دليلاً لطلاب ثمرات العقول والقرائح إلى مجناها في القاعات والأندية، ولكن هذا القصد شيء والواقع شيء أخر، فالزميلة الغراء تخدع بما يرسل إليها فتنشره دون نظر فيما يشتمل عليه من الأعاجيب، ولست ادري - ما دامت مقتنعة بأن فلاناً وفلاناً وفلاناً يلقون محاضرات كل يوم - لم لا تصنع لأسمائهم (أكلشيهات) بدل أن يتعب عمال المطبعة في صف حروفها كل يوم.

ومن تلك المحاضرة التي يعلن عنها - ما عدا التي لا تلقى - نوع يلقيه في المساجد أئمتها، وفي الكنائس أحبارها، وهي دروس في الوعظ تؤدي بحكم الوظيفة، وهي في ذلك كخطب الجمع أو كالدروس المدرسية، فتصور كيف تكبر المهزلة أن نشر كل مدرس في مدرسة، وكل خطيب في جامع، أنباء الدروس والخطب. .!

وللباحث الاجتماعي أو النفسي أن ينظر كيف يتهافت بعض الناس على الشهرة ولو لم يملكوا أسبابها. . .

فتاة الشعر:

نشرت (المصري)، قطعتين من الشعر للأستاذ عبد الرحمن الخميسي، تحت صورة فتاة حسناء، لست ادري مكانها من الشعر، أهي صورة التي يقصدها بالغزل، أم هي صورة (عمومية) يبغي بها جذب الأنظار، على طريقة بعض المحال التجارية و (صالونات) الحلاقة. . .؟ على أن الأستاذ وشعره ليسا في حاجة إلى ذلك، فهو أديب معروف، وما أرى الصورة إلا جانية على القطعتين المنشورتين، وهما من الشعر النابض، فالقارئ أما عادي لا يقرأ الشعر، وما لهذا حساب؛ وأما مستنير مثقف فيرى في نشر الشعر مقترناً بالصورة لوناً من الإسفاف ونوعاً من التعويض، فيعرض عنه.

وليست هذه أول مرة ينشر فيها الأستاذ الخميسي شعراً مع صورة، وبعض شعراء الشباب يلجئون إلى هذا الصنيع دون أن تعبر الصورة عن معنى معين يقصده الشاعر، ومن هؤلاء الأستاذ عزت حماد منصور بجريدة (البلاغ) فهل هي فكرة جديدة كفكرة (فتاة الغلاف) و (فتاة الحائط) فهي إذن (فتاة الشعر)؟

من هو الشقي الحزين؟

الآنسة أماني فريد إحدى الفتيات اللائى ينشر لهن في الغزل. . . وهو تطور جديد في أدبنا بصرف النظر عن قيمة هذا الشعر ومكانه من الأدب، وهو شيء طبيعي في هذا العصر الذي نعيش فيه، عصر التحرر. . .

وقد أنكر محرر جريدة (الزمان) على فتاة متخرجة في كلية الآداب قصيدة غزلية نشرتها لها إحدى الصحف، ذاهباً إلى أن هذا ليس من موروث عاداتنا ولا من طبيعة مجتمعنا ولا من طبيعة المرأة من حيث ميلها إلى أن تكون هي المطلوبة. وختم كلمته بفتح الموضوع للاستفتاء العام.

وأي شيء بقي من عاداتنا وتقاليدنا؟ وهل وقفت المرأة عند طبيعتها تلك؟

أعود إلى الآنسة أماني، فقد نشرت (البلاغ) أبياتا بتوقيعها عنوانها (لوعة) جاء فيها هذا البيت: أراني شقياً حزيناً ... فيا نفس أين الرجاء

وسياق الأبيات أنها هي المتكلمة، فكيف تكون (شقياً حزيناً)؟ هلا راجعت الأبيات وتأملتها قبل أن تدفع بها إلى النشر لتعرف ماذا صنع الشقي الحزين. . .؟

عباس خضر