مجلة الرسالة/العدد 811/القصص
مجلة الرسالة/العدد 811/القصص
الأقدار
للكاتب الأمريكي ن. هاوتورن
أن معرفتنا الحوادث التي تؤثر على حياتنا ومصيرنا في الواقع معرفة طفيفة ضئيلة فهناك من هذه - الحوادث - إذا شئت أن تسميه حوادث - ما يدنو منا، ثم ينزح عنا، دون أن يكون له أي أثر على أنفسنا، أو يفشى قربه، أو يلقي ضوءاً أو ظلاً عن وجوده. وهذا ما حدث لدافيد سوان.
نحن لا يهمنا من حياة دافيد سوان سوى تلك التي تربطه بها منذ بلوغه العشرين من العمر عندما كان قادماً من مسقط رأسه في طريقه إلى مدينة بوسطون ليعمل في حانوت عمه. ويكفي أن نعرف أنه ولد في نيوها مشاير من أبوين محترمين، وأن ثقافته عادية تزيدها دراسة عام في أكاديمية جليمانتون. وكان يشعر بالجهد وعناء السير ووطأة القيظ بعد أن قطع شوطاً كبيراً من الطريق منذ شروق الشمس حتى ظهر يوم من أيام الصيف الحارة. فعزم على أن يستريح في أقرب مكان تكتنفه الظلال وينتظر قدوم مركبة السفر وكأنما تهيأ له هذا المكان، فسرعان ما بدت أشجار باسقة حول خلاء يتوسطه نبع من الماء العذب الدافق فطبع قبلة على صفحته من شفتيه الظمآنتين ثم استلقى على الأرض وقد توسد لفافة تحوي ملابسه الداخلية. كانت الشمس تجاهد في فتح ثغرة بين الأفنان حتى تصل إليه، وإنجاب ستر ذلك الغبار المتصاعد من الطريق بعد أن هطل المطر في الليلة الماضية. وارتاح الشاب لتلك الحشائش التي يرقد عليها وكأنه نائم على فراش وثير. وتمتم النبع يهمس بجواره، وتأرجحت الأفنان تحت السماء الزرقاء. ثم استولى عليه نوم عميق تتخلله أحلام عابرة لا يهمنا أمرها، فكل اهتمامنا موجه إلى ما يحدث بعيداً عن أحلامه.
كان الناس غادين رائحين على طول الطريق راكبين أو مترجلين فيمرون عليه وهو راقد تحت سلطان الكرى في خلوته وقد ألقت عليه الأشجار ظلالها. وكان منهم من لا يلتفت يمنة أو يسرة فلا يدري وجود دافيد، ومنهم من يرمقه وهو يبتعد عنه سارحاً في أفكاره، ومنهم من يضحك عندما يشاهده راقداً يغط في نومه، ومنهم أولئك الذين امتلأت قلوبهم بالبغضاء، فيبعثون إليه فيضاً من كلمات الضغينة والحقد.
وأطلت أرملة متوسطة العمر عليه، ثم حدثت نفسها قائلة: إنه يبدو فاتناً في نومه. ورآه مدرس وقور فعزم على أن يزج بالشاب المسكين في موضوع محاضرته التي سيلقيها ذلك المساء، فيشبه حاله بحال سكير أفرط في الشرب حتى نام بجوار الطريق. كانت كل هذه الخواطر بما فيها ذم ومدح، وسرور وغضب، وإعجاب واحتقار، لا تهم دافيد في شيء. فقد كان بمنأى عنها وهو غارق في نومه.
وأقبلت مركبة يجرها زوج من الجياد القوية سرعان ما وقف أمام ملجأ دافيد. كانت إحدى عجلاتها قد انزلقت بعيداً عنها، مما روع التاجر المسافر وزوجه قليلاً، فترجلا عن المركبة، إلى إن يتم استبدال عجلة بأخرى، وقصد إلى ملجأ دافيد تحت الأشجار التي تظلله. وتمتم النبع المتفجر يشكو تطفل الدخيلين، وتأثر الهدوء الشامل الذي كان يرين على المكان، فعادا أدراجهما في خفة وسكون، خشية أن يوقظا النائم. وهمس السيد الكهل قائلاً ما اعمق نومه! انظري كيف يتنفس في هدوء. وددت لو أنام مثل هذا النوم في مقابل تنازلي عن نصف ثروتي. أنه الصحة والسعادة وصفاء الضمير.
فقالت السيدة - ذلك بجانب الفتوة والشباب. إن الرجل الكهل وإن كان صحيح البدن لا ينام مثله.
وكان التاجر وزوجه كلما أطالا النظر إلى دافيد، ازداد اهتمامهما به، وهو نائم في ذلك المكان بجوار الطريق تحنو عليه تلك الأشجار، وكأنه يرقد في مسكن خاص لا ينازعه فيه منازع، وقد انسدلت فوقه ستائر فاخرة من الظلال، وأقبلت الشمس وقد وجدت أشعتها فرجة تنفذ منها خلال الأفنان، أقبلت تقبل وجهه. وشعرت السيدة بحنان الأمومة يطغي على قلبها، فأحنت فنناً تظلل به وجه الشاب، ثم همست تقول لزوجها.
- يبدو أن العناية الإلهية قد وضعته في طريقنا، وقادتنا إليه. أني أرى شبهاً بينه وبين ولدنا الراحل. إلا نوقظه؟
فتردد التاجر هنيهة ثم قال - لماذا؟ إننا لا ندري شيئاً عن أخلاقه.
فأجابت السيدة - إلا ترى هذه الملامح الطيبة؟! ألا تلاحظ هذا النوم البريء؟!
كانت همساتها تردد في المكان، ومع ذلك لم تسرع دقات قلب دافيد، ولم تبهر أنفاسه، ولم تشف ملامحه عن أي اهتمام لما يدور حوله، ولم يشعر (بالحظ) فوقه وعلى أهبة الاستعداد لأن يغمره بالذهب. لقد فقد ذلك التاجر وحيده، ولم يعد له وريث سوى قريب بعيد لا يميل إليه، ولا تعجبه أخلاقه. ولهذا كان دافيد على قاب قوسين أو أدنى من الثروة والغنى.
ورددت السيدة تحاول إقناع زوجها - إلا نوقظه؟
وهنا سمع صوت السائق وراءهما يقول - أن المركبة على أهبة الرحيل.
فجفل الزوجان، واحمر وجههما، ثم أسرعا يبتعدان عن النائم وهما يعجبان ويتساءلان كيف خطر لهما أن يحاولا إيقاظ هذا الشاب. وتهالك التاجر على مقعد المركبة ثم سرحت به أفكاره بعيداً عن دافيد، ودفعته إلى الاهتمام بمشروع ملجأ للعاطلين.
ولم تكد المركبة تبتعد حتى أقبلت فتاة حسناء في خطى رشيقة، تشف عن قلب صغير يرقص في صدرها. ولعل ابتهاجها ومرحها وحركاتها هي التي دعت (وهل هناك ضرر من قولي؟!) إلى تهدل جوربها الحرير (أن كان حريراً؟) فانتحت جانباً بجوار المكان الذي يرقد فيه الشاب، وانحنت تحاول تثبيت جوربها. وسرعان ما علا وجهها حمرة خجل كاحمرار الوردة عندما أبصرت ذلك النائم المستلقي بجوار النبع، وهمت بالهرب في هدوء عندما لاحظت خطراً يهدد الشاب. كانت تحوم فوق رأسه نحلة ضخمة، وتدور حول المكان في طنين عال، فتارة تطير بين الأفنان، وتارة تندفع مخترقة أشعة الشمس، ثم تختفي في الظلال، وأخيراً حطت على جفن الشاب. وكانت الفتاة تعرف ما تسببه لذعة النحلة من ضرر فهاجمتها بمنديلها ونحتها عنه. ثم وقفت تلهث، وقد بدت حمرة الخجل على وجنتيها، وجعلت تختلس النظر إلى ذلك الشاب الغريب، وتمتمت تحدث نفسها ولم تزل حمرة الخجل تعلو وجنتيها (كم هو جميل الطلعة!).
كيف لم يساوره أثناء نومه حلم سعيد، حلم يستطيع فيه أن يلاحظ هذه الفتاة بين أبطال حلمه؟ ولماذا لم تشرق ابتسامة ترحيب على وجهه؟ لقد قدمت إليه تلك العذراء التي وافقت روحها روحه، والتي كان يتوق إلى رؤيتها، ويصبو إلى لقائها. إنها هي الوحيدة التي يتمنى أن يحبها الحب الفريد الكامل، وهو الوحيد الذي يستطيع أن يتربع في أعماق قلبها. وهاهي ذي الآن قد انعكست صورتها على صفحة ماء النبع بجواره، تلك التي ستختفي عن أنظاره إلى الأبد إذا لم يستيقظ ويرها.
وتمتمت الفتاة قائلة ما اعمق نومه! ثم عادت أدراجها وقد ثقلت خطواتها. كان والدها تاجراً ريفياً ناجحاً، وكان يبحث في ذلك الوقت عن شاب يساعده في أعماله ويشاركه في تجارته. وهكذا اقترب (الحب) من دافيد كما اقترب منه (يلاحظ) دون إن يدري عنه شيئاً.
وابتعدت الفتاة عن المكان عندما أقبل رجلان واقتحما الخلوة. بوجهين قاتمين وملابس رثة قذرة. كانا من أولئك المتشردين الذين يتعيشون على ما يرسله لهم الشيطان. وهاهما قد أقبلا لاقتسام ما ربحاه من المقامرة. وإذ بهما يشاهدان الشاب وهو نائم فهمس أحدهما إلى الأخر قائلا - إلا ترى تلك اللفافة التي تحت رأسه؟.
فأومأ الآخر بإيجاب، وغمز بعينه، ثم نظر شزراً. فقال الأول - أراهن على قدح من الخمر أن لم يكن هذا الشخص يملك محفظة عامرة بالأوراق المالية أو يخفي نقوده الفضية في مخبأ داخل هذه اللفافة، ذلك إذا لم نجدها في جيوب سراويله.
فقال الآخر - وإذا ما استيقظ؟.
فأشار زميله إلى مقبض خنجره المثبت داخل سترته، فتمتم الشقي الثاني قائلا - هذا يكفي!.
واقترب من النائم، وسدد أحدهما الخنجر صوب قلبه، فجعل الآخر يبحث في ثنايا اللفافة التي كان يتوسدها. وكانت ملامحهما تنطق بالشر والجريمة والخوف وهما منحنيان فوق ضحيتهما. حتى ليكاد أن يخيل إلى الشاب - إذا ما استيقظ ورآهما - انهما من الشياطين. ولو كانا قد القيا نظرة إلى صورتيهما المنعكستين على صفحة ماء النبع، لما عرفا نفسيهما وهما في هاتين الصورتين البشعتين. ولكن الشاب كان نائماً في هدوء لم يعهده من قبل.
وهمس أحدهما قائلا - يجب أن أحرك هذه اللفافة.
وتمتم الآخر - إذا ما تحرك سأقضي عليه.
وأقبل فجأة كلب يشم الأرض تحت الأشجار ثم القي نظرة فاحصة على الشقيين، وأخيراً عاد أدراجه.
فقال أحدهما - لن نستطيع عمل شيء بعد ذلك. إن صاحب الكلب بالقرب منه.
فقال الآخر إذاً دعنا نشرب ثم نرحل.
وأعاد الرجل خنجره إلى طيات ثيابه، ثم أخرج قارورة من الشراب، وجعل ينهل منها هو وزميله وأخيراً نزحا عن المكان وهما يضحكان. وبعد ساعات كانا نسيا ذلك الشاب غير مدركين أن الملك الذي يدون ما جرى من حوادث قد سطر في صفحتيها إثماً ضد روحيهما، إثماً دائماً بدوام الخلود. أما دافيد فكان لا يزال غارقاً في سبات هادئ فلم يشعر بشبح الموت وهو يجثم فوقه، ولا بضياء الحياة الجديدة التي منحت له عندما أنسحب ذلك الشبح. ونام ملء جفونه نوماً أبعد عنه الجهد والتعب. وأخيراً أخذ يتململ وتحركت شفتاه ثم تمتم وكأنه يتحدث مع أطياف أحلامه النهارية. وسرعان ما استيقظ عندما سمع صليل عجلات مركبة السفر وهي تنهب الطريق مقبلة نحوه. فنظر إليها ثم صاح - أيها السائق. أتأخذ معك مسافرا؟.
فأجاب السائق - أصعد - فهناك مكان في أعلى المركبة. وصعد الشاب مغتبطاً وسارت المركبة صوب بوسطون. ولم يلق دافيد نظرة على ذلك الببع بما جلبه له من أحلام متقلبة. ولم يعرف أن شبح (الثروة) قد ألقى ظله الذهبي على مياهه، ولم يدرك أن ملك (الحب) قد تنهد في هدوء واختلط صوته بصوت أمواجه، ولم يشعر أن شبح الموت كان على وشك أن يصبغ تلك المياه بدمه. حدث كل هذا في ذلك الظرف الوجيز من الزمان الذي كان فيه نائماً؛ فنحن في نومنا لا نشعر ولا نسمع وقع خطوات الحوادث وهي تمر علينا مراً. أليس في استطاعة قوة إلهية مهيمنة أن تجعلنا قادرين على التنبؤ - ولو بقدر بسيط - بتلك الحوادث الخفية الفجائية التي تلقى بنفسها في طريقنا؟
محمد فتحي عبد الوهاب