مجلة الرسالة/العدد 812/أجنحة الجامعة العربية

مجلة الرسالة/العدد 812/أجنحة الجامعة العربية

مجلة الرسالة - العدد 812
أجنحة الجامعة العربية
ملاحظات: بتاريخ: 24 - 01 - 1949


للأستاذ عمر حليق

في شمالي أفريقيا - أو الجناح الغربي للجامعة العربية كما يحلو لسعادة عزام باشا أن يدعوه - بلبلة نفسانية سيئة إذا لم تعالج فإنها ستصيب النضال ضد الاستعمار في ذلك الجزء من الوطن العربي بنكسة خطيرة.

فقد اطلعت على تقرير وضعته دائرة الوصاية في هيئة الأمم في لايك سكسس عن حالة العرب في ظل السيطرة الفرنسية، فإذا به يذكر صراحة أن فرنسا كانت تنتظر غضبة نارية من عرب مراكش والجزائر وتونس لموقف فرنسا العدائي من قضية فلسطين تكون أشد وأعم من هذه الحماسة وهذا الجود بالمال والمتطوعين الذين بدوا من عرب المغرب منذ أن اتخذ هذا التحدي الصهيوني هذه الخطورة.

وليست هذه الكلمة محاولة للانتقاد، ولا هي كذلك محاولة للدفاع والتبرير، وإنما هي عرض لهذه البلبلة النفسانية التي تجتاح الوعي القومي هناك، والتي دفعت ضعاف النفوس من أمثال فرحات عباس إلى أن يقول في جريدة لامبسيون المغربية:

(إن الوحدة العربية مهزلة ليس فيها من عناصر الجد شيء. إننا جزء من الوحدة الفرنسية فمصلحتنا وكياننا وحتى اتجاهاتنا العاطفية تتطلب ذلك).

والواقع أن التطورات في مجرى الحملة الفلسطينية تركت أثراً لعيناً في مناطق السيطرة الفرنسية والأسبانية في شمالي أفريقيا في موقف السلطات الاستعمارية وفي نشاط حركات التحرر الوطنية.

والحقيقة التي قل أن تعالجها ألسنة الرأي العام العربي هي تشابك الصراع بين حركات التحرر الذي في شمالي أفريقيا وبين مثيلاتها في الشرق الأدنى وخطورة هذا التشابك في معالجة هذه الحركات جميعها. فهو مستمد من حيوية الموقع الاستراتيجي لشمالي أفريقيا العربية في خطط الانجلوسكسون العسكرية التي تعد الآن للفصل في هذه الحرب الباردة التي تدور رحاها بين الروس وحلفاء الغرب.

إن موقع شمالي أفريقيا الاستراتيجي للملاحة البحرية والجوية ومواضع القفز إلى القارة الأوربية، مضافة إلى الموراد الاقتصادية الوافرة من الفحم والأورانيوم والبترول أيضاً - كل ذلك يكاد يعادل أهمية آبار الزيت السعودية من حيث اتصاله بتطورات القضية الفلسطينية وموقف الأمريكان - وهم سادة حلفاء الغرب - منها هذا الموقف الهدام الذي أمعن في التحدي والاستهتار. إن مناطق العمليات السياسية في الشرق الأوسط - وهو في تعريف الجغرافية الحربية يشمل شمالي أفريقيا - موزعة جغرافياً - على ما يبدو - بين الإنجليز والأمريكان بينما ترك لفرنسا مركز ثانوي.

فمجال بريطانيا قلب الشرق الأدنى، ومجال أمريكا جناحاه. ولبريطانيا أوتاد يبدو أنها متينة في الآونة الحاضرة على الأقل في شرق الأردن وبرقة والسودان، ولأمريكا أوتاد كذلك في نجد ومنطقة النفوذ الفرنسية في شمالي أفريقيا ومنها القسم الذي يطل على المحيط الأطلنطي مجاوراً لجبل طارق.

ولذلك فإن إمعان أمريكا في تحدي شعور العرب في قضاياهم القومية الحيوية لن يتأثر إلا إذا شعرت بتزعزع جدي لأوتادها في المملكة السعودية والمغرب العربي.

ذلك لأن سياسة أمريكا الخارجية مشوبة بطابع الارتجال والتقلب ومراعاة الظروف الطارئة بسبب كونها (أي أمريكا) الآن في حرب اقتصادية وسيكولوجية مع اكبر خطر يهدد حاضرها ومستقبلها وهو الشيوعية السوفيتية.

صحيح أن الأمريكان كرأسماليين أصليين شركاء للاستعمار الأوربي؛ وصحيح أن الكيان الاقتصادي للرأسمالية الأمريكية يتطلب توسعاً جغرافياً في أسواق الاستهلاك والمواد الخام؛ وصحيح أن السياسة الأمريكية في الداخل والخارج مشوشة تتأثر بمطامع الانتهازيين من الساسة المحترفين وعقليتهم المادية (البرجماتيزمية) وهي عقلية ترتكب الجرائم باسم الحريات الديمقراطية - كل هذه حقائق مسلم بها، ولكن الذي يجب إدراكه أن في الولايات المتحدة الأمريكية الآن اتجاهات عملية تضع البلاد على أسس المجهود الحربي، وقد وضعتها فعلاً في مجال الإنتاج والتدريب العسكري. هذا المجهود الحربي هو الذي يفرض على سياسة أمريكا في الخارج أن تتأثر بالاعتبارات المحلية (المعنوية والمادية) لمناطق نفوذها وعملياتها ضد الاتحاد السوفيتي. فمشروع مارشال مثلاً يتوخى عن طريق الإنعاش الاقتصادي، تقوية المناعة النفسية ضد مغريات الشيوعية المادية في أنظمة الحكم والعدالة الاجتماعية. والشرق الأوسط - بعد أوروبا الغربية - هو من أهم هذه المناطق في مجال التخطيط العسكري، ولعله أهمها في الاقتصاد الحربي.

وإن الظروف الدولية وما تسميه الصحافة الغربية بالحرب الباردة تفرض على طبيعة التأرجح والتقلب في سياسة أمريكا - هذا التأرجح المستمد من طفولة أمريكا في العلاقات الدولية - تفرض ارتجالاً يجعلها سريعة التأثر بالترمومتر السياسي والنفسي لمناطق عملياتها كما ذكرت. ولذلك فإن جناحي الجامعة العربية في شرقي جزيرة العرب وفي المغرب الأقصى هما أمضى سلاح تستطيع الجامعة أن تشهره في وجه الأمريكان وهم أسياد المعسكر الغربي. والجامعة العربية كمنظمة إقليمية لها خطورتها في السياسة الدولية، وكهيئة تمثل رغبة العرب ومصلحتهم في التكاتف والتعاون ورعاية الاستقرار والرفاهية في الوطن العربي الأكبر تستطيع بل هي ملزمة أن تضع سياسة إيجابية عملية لجناحيها الخطيرين. وللجامعة كذلك مساعدات هائلة متوفرة في ذينك الجناحين، ففورة الشعور القومي، والتعلق بالعروبة، والتطلع إلى الوحدة العربية، متأججة في المغرب العربي؛ وقادته في القاهرة يرتمون في أحضان الجامعة ويلحون في طلب المعونة العملية. وإذا كان من الإنصاف أن نعترف بأن اشتغال الجامعة بمشكلة فلسطين وهي كبرى المشكلات يجعل المعونة العملية المطلوبة صعبة، فإن من المهم أن نعترف بأن الصراع في شمالي أفريقيا وزعزعة الأوتاد الأمريكية من شبه الجزيرة العربية هو جزء رئيسي من الصراع في فلسطين بل هم حيوي له.

والمشاكل القومية حين تكون متحدة الأهداف لا تتبع في معالجتها سياسة إنصاف الحلول، ولعل أضعف نقطة في مسلك الجامعة هو فقدان توزيع العمل في سياستها.

إن حركات التحرر في شمال أفريقيا إذا لم تستطع الآن أن تتخذ شكل حرب ضد الاستعمار فلا أقل من أن تتخذ شكل قلاقل جدية، على النحو الذي شغل به الأمير عبد الكريم الخطابي الفرنسيس والأسبان سنوات طوالاً. ولعل في إثارة هذه القلاقل الآن عواقب جسيمة الأخطار، ولكن الذي يبرر الدعوة لها هي وحدة الصراع العربي الشامل وتشابك القوى الغربية التي تتحد مصلحتها في تفرقته. وقد كان كاتب هذه الأسطر يراقب عن كثب خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة مسلك دول الجامعة العربية في هيئة الأمم المتحدة في قضايا فلسطين والسودان. وكانت هذه الدول تميل إلى الأخذ برأي أثبتت الأيام خطأه، وهو أن الصراع الدبلوماسي في هيئة الأمم يتطلب أن لا تناصب فرنسا العداء مخافة تمضي في عدائها للقضايا العربية (الشرقية). وكذلك كان موقف بعض الدول العربية بادئ الأمر من هولندا في عدوانها على الجمهورية الأندنوسية. وكلنا عليم بأن مواقف كلتا الدولتين في داخل هيئة الأمم وفي خارجها من قضية فلسطين لم تراع مطلعاً هذه الكياسة العربية. وعلى ضوء هذا الجحود، يجب أن يحدد موقف الجامعة من فرنسا تحديداً حازماً. ففتور الجامعة الدبلوماسي على الأقل نحو مصير باي تونس المرحوم محمد المنصف، ونحو قانون الانتخابات للفرنسيين في تونس، وفي فضائح انتخابات الجزائر وفساد قانونها، وفي موقف المقيم العام الفرنسي من سلطان مراكش، هذه السلبية تركت ولا شك أثراً سيئاً في حركات الإخوان العرب في ذلك الجزء من الجسم العربي، كما ولدت فتوراً في حدة الاستنكار الذي كانت فرنسا تنتظرها من المراكشيين والجزائريين والتونسيين لموقف فرنسا من قضية فلسطين ولموقفها من نشاط اليهود في مجهودهم الحربي في فرنسا نفسها وفي المغربي العربي ذاته.

لقد استمدت الجامعة العربية كيانها التي ترعاه أفئدة الملايين من المصلحة العربية المشتركة بالإضافة إلى أسس الشعور الثقافي الشامل المشترك. وعلى ضوء هذه المصلحة الحيوية، وبفضل هذه الشعور الأصيل خطت وستخطو الجامعة قدماً والحق في جانبها، والعدالة رائدها ودستورها، والله والعروبة معها.

وعلى أساس هذه المصلحة وهذا الشعور يجب أن يعالج جناح الجامعة العربية الشرقي في نجد والكويت والبحرين. إن القائمين على الأمر في ذلك البحر من السائل الذهبي، لا يبدو أنهم يقدرون خطورة موقفهم في سياسة الجامعة العربية، فضلاً عن السياسة الدولية إجمالاً. ولعل العذر هو فجاجة الرأي وفقدان المشورة المجردة من الانتهازية الأنانية التي تستغل صفاء النفس البدوية وسذاجة وعيها السياسي في عالم معقد.

بل الواقع أن أمراء المملكة السعودية والكويت والبحرين لا يقدرون خطورة ارتمائهم في أحضان الأمريكان والبريطانيين وهم على مرمى القنابل الروسية في حوض من البترول يستهوي آلة الحرب النهمة.

وإذا كانت مصلحة الهدف الذي تعمل له الجامعة العربية يتطلب تركزاً وسياسة إيجابية لذلك القسم الهام من الجسم العربي فإن صميم الكيان لتلك المناطق العربية يتطلب تحديداً جديداً في علاقاتهم مع الأمريكان. ويتطلب تجرداً من التزامات ثقيلة وعواقب وخيمة. فهذه الالتزامات وحدها قد تكون مبرراً يتخذه الروس فيما يضمرونه من شر لآبار البترول التي يمتصها الأمريكان. هل قدر الأمراء الذين يلهون بحفنة من الدولارات الأمريكية مغبة وضعيتهم الخطيرة؟

إن المصلحة القومية، وحتى المصلحة الشخصية الأنانية لأولي الأمر وللشعب في شرقي جزيرة العرب تفرض الاندماج الكلي في سياسة التنظيم الإقليمي الذي تعمل له الجامعة العربية في صدق وإخلاص، فهذا الاندماج ضروري بل أساسي لتناسق المصلحة المشتركة.

ويبدو أن السعوديين والكويتيين وسكان البحرين وأمراءهم وشيوخهم يسلكون مسلك الذين يعتقدون أنهم الرابحون في إعطاء امتيازات البترول للأمريكان. ولعل السبب أنانية جماعة من المرتزقة العرب الذين يحيطون بأولي الأمر هناك؛ هذا بالإضافة إلى سذاجة الوعي وفقدان التوجيه الذي تستطيع الجامعة أن توليه.

ولا حاجة للإفاضة في شرح سذاجة هذا التفكير؛ فحصة المملكة السعودية مثلاً من أرباح شركات البترول الأمريكية التي تستغل آبارها الغنية تبلغ خمسة في المائة أي 18 مليون دولار حصة السعوديين من الضرائب وغيرها، بينما أرباح الشركة تزيد في 360 مليون دولار! هذا إذا أخذنا أرقام الشركات الأمريكية على أنها صادقة!

وطبيعي أن سياسة الجامعة العربية في جناحها الشرقي لن تتطلع أو تتوخى امتلاك آبار البترول أو حتى إدارتها؛ ولكن النصيحة الرشيدة و (إثبات الوجود) كفيلة بأن تعزز الهدف لرعاية المصالح العربية في هذا المجال الإقليمي. فهناك فائدة مزدوجة تعود بالربح المادي وغير المادي على الحكومات والشعوب على السواء في المملكة السعودية والكويت والبحرين حين تمتلك السلطات المحلية هناك آبار البترول. فهذا الامتلاك يتطلب تحديد الموقف إزاء الشركات المحتكرة، وهذه الخطوة لا تعني ترك البترول يعفن في طبقات الأرض. ففي أمريكا الجنوبية دول وشعوب تنقصها الخبرة الفنية والتقدم الحضري، ومع ذلك فقد أقصت الأمريكان عن منابع الذهب الأسود كما حدث في المكسيك، وابتاعت لاستخراج البترول في بلادها الخبرة الفنية الإدارية، وسلمت من الاستغلال الأجنبي ومن ذيوله والتزاماته الخطيرة، مع العلم بأن المكسيك ودول أمريكا اللاتينية ليست هدفاً مباشراً لقنابل الروس كما هو حال نجد والكويت والبحرين.

والبترول فوق ذلك مادة رائجة كأحسن ما يكون الرواج. والتنافس حتى بين الشركات الأمريكية نفسها على أشده في سبيل الحصول عليه. ألم يفز شيخ الكويت بشروط على إجحافها خير من شروط السعوديين في الامتياز الأخير على امتلاك آبار الكويت أوفر آبار البترول في العالم، وقد تنافس عليها فريقان من الشركات الأمريكية؟

ودول الجامعة العربية في السياسة الدولية، شأنها شأن كثير من الدول الآسيوية تتفادى مناصرة أي المعسكرين المتطاحنين الذين يستعدان لتقويض حضارة الغرب. وإن مصلحة الجامعة بالإضافة إلى مصلحة أولي الأمر في شرقي الجزيرة العربية تتطلب التعاون والتكاتف لتوطيد سياسة الحياد الاقتصادي، لتعزز المصلحة السياسية والقومية.

وعلى ضوء هذه المصالح المتشابكة المتضامنة المتماسكة يجب أن يتجه العرب منفردين وفي جامعتهم نحو امتيازات البترول الأمريكية وهذا يفرض على الجامعة توزيعاً في العمل. فسياسة البترول إذا أخذت مأخذ الجد احتاجت إلى خبرة فنية (تكنولوجية) وفي الإدارة والتوجيه. وهذه نواح على فداحة المجهود لتوفيرها هي في الواقع استثمار جم الفائدة في سياسة عملية فعالة مثمرة.

وسياسة الجامعة العربية إذا تطلبت في جناحها الغربي (شمالي أفريقيا) سياسة تحد فأن النشاط في الجناح الشرقي يحتاج إلى توجيه وتركز فني في خطوات عملية يكون الإخلاص والكفاءة والعلم روادها. وكلا المنهجين جزء من المصلحة الأساسية المشتركة، فهما متممان لعمليات الصراع في فلسطين، وهما متممان لتحرير الخمسة والعشرين مليوناً من المعذبين في ظل الاستعمار الفرنسي الشنيع، ولدفع الأذى عن الإنسانية البسيطة التي تلعب بالنار على مقربة من البارود الروسي.

وهما أساسيان لتدعيم التنظيم الإقليمي والتكتل الجغرافي الذي تعمل له الجامعة. وهما بعد هذا وذاك انتصار للحق والعدالة.

(نيويورك) عمر حليق

سكرتير معهد الشؤون العربية الأمريكية