مجلة الرسالة/العدد 812/القصص

مجلة الرسالة/العدد 812/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 01 - 1949



أقصوصة تركية

ذات الثوب الأبيض

مترجمة عن التركية

وفقت أمام حديقة البيت سيدة في مقتبل العمر، ذات ثوب أبيض، ولبثت واقفه هناك، أمام البيت، تحدق إليه، وبصرت بها الخادم التي كانت تتنقل آنذاك بين شجيرات الورد تقطف أنضره فتلقيه في سلة صغيرة تدلت من مرفقها، فخالتها قد وقفت تحتلي انظر مما حفلت به الحديقة من الورد. على أن عيني السيدة الشابة الدعجاوين، ظلتا مثبتين بنوافذ البيت، تحدقان إليه، فثار فضول الخادم فأقبلت عليها تسألها:

- هل تريدين أحداً يا سيدتي؟. ولكنها لم تجب، بل راحت تطلع إليها ساهمة كأنها نشوي حلم عميق، ثم اختلجت شفتاها تتممان:

- كلا، لا أريد أحداً، كنت أنظر إلى البيت فقد أعجبت به.

وراحت الخادم هي الأخرى تحدق فيها، وأسرفت في النظر إليها حتى لكأنها تهم بالتهامها، ثم ندت عن شفتيها صرخة، وهوت السلة إلى الأرض، وتناثر ما فيها من الورد، وروعت السيدة، فارتدت خطوة إلى الوراء، وسألتها الخادم بصوت أجش: - ألك يا سيدتي، شقيقة تشبهك؟

- كلا - ولكن مستحيل أن يكون مثل هذا الشبه! فقالت السيدة الشابة ذات الثوب الأبيض والعينين الدعجاوين، وقد رفت على شفتيها ابتسامة باهته تكاد لا تبين:

- هل ترينني أشبه أحداً؟.

فقالت الخادم وهي تشير بيدها إلى الورد المنثور على الأرض.

- نعم، وهذا الورد الذي أقطفه لها هي. . .، ولاح على السيدة العجب فسألتها - حسن، وهذه السيدة، أين هي؟ هل كنت تنتظرينها؟.

فهمست الخادم، وهي تهز رأسها أسى - تلك السيدة. . . ماتت؟. .

- إذن، فأنت حاملة هذا الورد إلى قبرها.

وفتحت الخادم باب الحديقة وهي تقول: كلا ليس من يعرف قبرها سواه، سيدي يعرفه وحده. هل تتفضلين بالدخول؟ وترددت الشابة ذات الثوب الأبيض، والعينين الدعجاوين، فقالت الخادم كأنها كانت تتوقع هذا: - لا أحد في البيت، تفضلي، فسيدي في رحلة منذ أشهر.

ودخلت السيدة حديقة البيت، وأقبلت الخادم على وردها المنثور تلمه، وشرعتا تسيران معاً نحو البيت.

وعادت الخادم تسألها - هل تسكنين هنا يا سيدتي؟.

فهمست السيدة الشابة، ذات الثوب الأبيض والعينين الدعجاوين، وهي غريقة أفكار تتماوج في ذهنها - كلا، كنت أزور أصدقاء لي هنا.

- وهل كنت تسكنين هنا من قبل؟.

- قبل خمس سنوات. . .، وحينما ضمهما البيت كانت السيدة تتطلع إلى ما حولها باهتمام وتأمل. ووقفت الخادم في البهو النير، ذي البسط الوبرية ومقاعد الخيزران، وقالت:

- هل أريك البيت؟

- شكراً، أرجو أن لا أكلفك كثيراً، ولكن.

كلا. أنا أريد ذلك. . . ووضعت سلة الورد على منضدة، ثم فتحت الباب المقابل وقالت - هذا. . . هو مكتب سيدي.

وكان جو الحجرة معتماً، يوحي بالإحساس بالظلمة، برغم النور المنساب منم نوافذها، وكان كل ما فيها يوحي بالكآبة: النوافذ ذات السجف الزرقاء الداكنة اللون، والأرائك القاتمة اللون، والرفوف العالية، تحف بالحيطان وقد رصت عليها الكتب، وكانت السيدة تتطلع إلى ما حولها في سهوم واستغراق والخادم تصل حديثها - يبكر سيدي عادة في اليقظة من نومه، وما أن يغسل وجهه حتى يؤم مكتبه هذا، ويشرع في عمله، حتى انقضت من الصباح ثلاث ساعات أو أربع، ترك حجرته هذه فيستحم، ثم يتناول فطوره. . فإن كان الجو صحواً جلس في الحديقة أو خرج إلى الطريق، وبد تجوال ساعة يعود فيضطجع حتى يحين أو أن الغذاء. . وبعد أن ينهض.

راحت الخادم تحدثها بالتفصيل عن حياة سيدها وشؤونه، وهي تصغي لذلك كله. . . ثم سألتها - أو ليس للسيد عمل خارج البيت؟

- إن لديه عملاً ولكن ليس دائماً، يؤديه بين يوم وآخر أو بين كل ثلاثة أيام. . . وفي كل عام يسافر إلى الخارج للترويح عن نفسه شهرين من الزمن.

- كم مدة قضيتها هنا؟

- أربع سنوات.

- وهل سيدك مولع بالنساء.

- كلا - وهل يشرب الخمر؟

- قليلاً، وفي المناسبات. وخرجنا من حجرة المكتب إلى البهو، وكان أكثر نوراً منها، يحس المرء فيه برطوبة الزوايا التي لا ينفذ إليها شعاع الشمس على أن بسطه الوبرية، ومقاعده الحمراء اللون، والرسوم الزيتية المعلقة على الجدران، كل هذا يبعث إلى القلب بشعور الدفء والغبطة واللذة العميقة. ولم تتحدثا بشيء في البهو، فقد أطبق عليهما الصمت، وكانت الخادم تفكر في أمر هذه السيدة الشابة ذات الثوب الأبيض والعينين الدعجاوين. وأما السيدة فقد راحت في ذهول وحيرة تتأمل كل شئ، المقصف، والخوان الكبير، وجهاز الراديو، والرسوم المعلقة على الجدران؛ كانت تتطلع إلى هذا كله في صمت عميق، ثم اضطربت شفتاها، وقالت في تردد، وفي نبرات صوتها ما ينم عن أسى وحيرة يتلاطمان في أعماق نفسها: هل لي أن أرى الطابق الأعلى؟

- بالطبع. وحينما ارتقتا إلى الطابق الأعلى، قالت الخادم وهي تشير بيدها إلى باب غرفة على يسار البهو - يزور سيدي بين حين وآخر ضيوف، فيحلون هنا. لكل حجرة من هذه الحجرات خزانة ثياب، فيها منامات ومناشف، وفيها كل ما يحتاج الإنسان إليه من أسباب الراحة. أن كل ما ترينه يا سيدتي لينبئك بشغف سيدي بالحياة الرتيبة.

- وهل سيدك وحده هو الذي يفعل كل هذا؟.

- نعم، وهمست كأنها تحدث نفسها. . . يا للعجب! وقالت والخادم تفتح باب إحدى حجرات الضيوف، وقد خالج صوتها نغم عذب يفيض رخامة وعذوبة.

- هل أستطيع أن أرى غرفة نومه؟ - بالطبع.

وفتحت الخادم باباً كبيراً على يسار، وقالت - تفضلي.

ولكن الشابة ذات الثوب الأبيض والعينين الدعجاوين، تلكأت في الدخول، إذ لم تجد في نفسها القدرة على ذلك، فراحت تتطلع من الباب. وكانت الحجرة تسبح في نور أبيض، كل ما فيها كان يسطع به، حتى النوافذ، وآلة التلفون. . . وكان جوهاً يغمر القلب سكينة وغبطة، ثم دخلت الحجرة بخطى وثيدة وطفقت تتطلع كشأنها في كل شئ، ولكن عينها علقنا بصورة وضعت على منضدة بيضاء، بين ستارين أبيضين، وقد حفت بها وورد بيضاء، فسارت إليها غير واعية، والخادم واقفة كالصنم، ترقب حركتها، وتتابع خطاها، فقد كشف هذا كله من أمرها ما قوى الريبة في نفس الخادم، ثم دنت السيدة من المنضدة الصغيرة البيضاء، ومالت عليها، وراحت تتطلع إلى الرسم ثم امتدت إليه يدها. لكأنها تحلم، وتناولته، وأدنته من عينيها وكانت الخادم إلى جانبها تقول لها:

هذه زوج سيدي التي ماتت، وفي كل يوم لا بد من تغيير الورد، فليس من شئ يخرجه عن طوره ويحنقه على إلا أن أهمل تغيير هذا الورد الأبيض الذي يحف بصورتها.

وكانت إذ تقول هذا تنقل عينها بين الصورة والسيدة، لشد ما تشابهان! العينان الدعجاوان. . . الأسنان النضيدة كعقد من اللؤلؤ، والفم الصغير، والشفتان الغليظتان كأنها عناب يقطر خمراً وشهوة. . . والأنف الأقني والذقن المستدير! ما أشد ما تتشابهان في هذا كله. . . ولكن محيا السيدة الشابة ذات الثوب الأبيض والعينين الدعجاوين تظلله سحابة رقيقة من أعباء وخور، كان شاحباً قليلاً، كلا. . . هذا التشابه لا يمكن أن يكون بين شخصين إلى هذا الحد. . . وكان قلب الخادم يخفق وهي تحدث نفسها بهذا كله. . . وكان ثمة شعور مهم يعتصر قلبها في قلق وحيرة، ويهتف في أعماق نفسها أن ثمة أمراً يوشك أن يحدث، ولكنها لا تكاد لفرط اضطرابها أن تتبينه جلياً.

وكانت السيدة تتطلع إلى الصورة. . . وعلى حين فجأة صرخت، ولوحت بالصورة ثم ألقت بها في ركن الحجرة. وفزعت الخادم فصرخت هي أيضاً: ماذا؟ فعلت؟ لكن السيدة الشابة ذات الثوب الأبيض والعينين الدعجاوين والمحيا الشاحب الحزين، ألقت بنفسها على حافت السرير محطمة القصب منهوكة القوى، متعبة الحس. . . ثم دفنت رأسها بين يديها، وقالت بصوت أجش محموم.

كلا، سأبقى هنا، لن أخرج. وسأنتظره، والورد الأبيض لن يكون للصورة بعد الآن. . .

احمليه إلي.

أنقرة

فيصل عبد الله