مجلة الرسالة/العدد 812/عقيدة وحدة الوجود وأثرها في فكر طاغور

مجلة الرسالة/العدد 812/عقيدة وحدة الوجود وأثرها في فكر طاغور

مجلة الرسالة - العدد 812
عقيدة وحدة الوجود وأثرها في فكر طاغور
ملاحظات: بتاريخ: 24 - 01 - 1949



للأستاذ عبد العزيز محمد الزكي

إن حقيقة وحدة الوجود هي حجر الزاوية في الديانة الهندوكية مثلها في ذلك مثل التوحيد في الإسلام والتثليث في المسيحية. فلا عجب إذا استلهم طاغور الهندوكي هذه الحقيقة وجعلها محور تفكيره وينبوع مشاعره وانفعالاته. فلقد سبقه متصوفة الإسلام في التأثر بها بالرغم من تعارضها في جهات كثيرة مع تعاليم الدين الإسلامي، وادعى الحلاج أنه الحق أي الله، ووضع ابن عربي تصميم فلسفة تدور حول وحدة الوجود. فإن استقى طاغور أخيلة قصصه وإلهامات أشعاره من معين عقيدته الدينية وجد بفكره في إبرازها في صورة حية بسيطة تشعر بصدق صحتها وسهولة تحقيقها، فليس ذلك إلا لطغيان عاطفة دينية قوية على مشاعره رغبته في التعبير بمختلف الوسائل الفنية والفكرية التي تيسرت له عن عقيدة يؤمن في قرارة نفسه أنها حق، فأنتفع بشتى مقومات الحضارات الشرقية والغربية سواء أكانت قديمة أم حديثة، واتخذ منها أسساً ليدعم بها عقيدة وحدة الوجود، ويوضح ما يكتنفها من غموض، ويرغب الغير في تصديقها، ويحض الهنود على اختلاف مهنهم وأعمالهم على تحقيق اتحادهم بالله والخليقة.

وتقرر عقيدة وحدة الوجود الهندوكية أن الله يستقر في أعماق النفس الإنسانية، ويظهر في الحيوان، ويبرز في النبات ويتجلى في الماء والنار، وينتشر في سائر مكونات الكون. وأن الله حقيقة حية حاضرة في كل مكان، دائمة الاتحاد بالوجود، وتتخذ مظاهر متنوعة تبدو في صور محتويات الطبيعة المتعددة من إنسان وحيوان ونبات وجماد، وتشمل جميع هذه الأشياء وتضمها في وحدة مطلقة أبدية، وتمنحها حقائق روحية خلاف مظاهرها المادية.

ويعلل طاغور حلول الله في الخليقة بأن الله حينما امتلأ بالسرور فاضت عنه الخليقة، فالكون عند طاغور هو الصورة التي يتجلى فيها سرور الله، لأن طبيعة السرور أن لا يبقى على حالة مجردة، ويبحث على الدوام عن قالب مقيد بقانون يصب وجوده فيه فإن الفنان الذي تمتلئ نفسه بالسرور عند اكتمال فكرته الفنية يسرع عادة في استعراضها مثلاً في صورة الغناء الذي يخضع لقواعد الموسيقى، أو في قالب الشعر الذي يخضع لقانون تطور المعاني وقواعد العروض. وكذلك سرور الله يرتسم في صورة النفس الإنسانية الت تتقيد بالقوانين الأخلاقية، كما يبدو في صور مكونات الطبيعة التي ترتبط برباط القوانين الطبيعية.

وعلى الإنسان أن يسعى لمعرفة هذه القوانين لا على أنها غايته القصوى في الحياة، بل لأن معرفتها يبعث في النفس ذلك السرور الذي صدرت بسببه الخليقة عن الله، ومن ثم يعي الله الذي حل في كل شيء ويشعر بتلك الوحدة المتماسكة التي تضم أجزاء الكون

إلا أن المرء لن يحظى بغايته الدينية ما لم يظهر أولاً الله الكائن في قرارة النفس، ويبرزه في عالم الشعور مثل ما تبرزه الشجرة من الحبة. ولن يحصل على كماله الروحي إلا عندما يتلاشى شعوره بذاتيته ويدمجه في كل ما حوله من كائنات، وبغير ذلك لن يدرك أحد حقيقة وحدة الوجود. ولكن إذا تمكن الإنسان من أن يحس بوجود الله في دفينة نفسه فكيف يمكنه أن يعي الله في كل شئ في العالم ويندمج فيه، لأن عدد ما يحتويه العالم من مخلوقات لا يدركه الحصر؟ ولكن يتفادى طاغور هذه الصعوبة على رغم أن الإنسان قبل أن يفنى روحه في الوجود عليه أن يصل إلى أغوار نفسه ويدرك الله الكامن بها. وعن طريق وعي حقيقة كمون الله في النفس الإنسانية واتحاده بها يكشف الإنسان عن تغلغل الله في سائر محتويات الوجود، ويتخذ من تلك الحقيقة مصباحاً يهتدي به في وعي اتحاد الله بمختلف نواحي الكون وإدراك الوحدة الكبرى التي تربط أجزاء الوجود. شأن الإنسان في هذا الإدراك شأن كشف العلم عن قوانين بسيطة عامة عن طريق بحثه مجموعة من الظواهر والحوادث يستعين بها بعدئذ في فهم الظواهر والحوادث المتشابهة التي لم يكن قد بحثها من قبل. فلا بد للإنسان إذن أن يدرك أولاً حقيقة عامة تنير له سبل معرفة كل ما يريد أن يعرفه عن وحدة الكون. فإن عرف مبدأ استقرار الله في أعماق النفس الإنسانية واتحاده بها يمكنه أن يسترشد به في الغوص في مجاهل الوجود تدريجياً إلى أن يتجلى له الله في صور الأشياء جميعاً في صورة بعد صورة، حتى يجد نفسه غارقاً في لا نهايته الفسيحة التي تضم كل محتويات الوجود وتوحدها فيعجز عن أن يميز بين حقيقته الفردية وحقيقة الله الكلية، لأن تدفقه المستمر نحو الله الذي يتوسم في الكون صيره الله وأصبح لا يحس بوجود خلاف وجوده الذي هو وجود الله.

فمفتاح وعي الله ووعي الوجود هو وعي الروح، وأول خطوة يجب أن تخطى نحو تحقيق الكمال الروحي هي أن المرء يعرف أنه روح في جوهره، ولا يستطيع أحد أن يعرف ذلك ما لم يكن لديه نور من ذات نفسه يحدس به صورة الله في النفوس الإنسانية؛ وذلك لا يتأنى إلا بعد خضوع النفس لسيادة قانونها الأخلاقي، وقيام الإنسان بعمل صالح مفيد، ثم أدائه فروض الدين، لأن سيطرة القوانين الأخلاقية على الحياة الإنسانية تحررها من نزوة الشهوة وتخلصها من إغراء مفاتن الدنيا، وتطهر النفس وتعدها لإدراك وحدة الوجود. بينما قيام المرء بعمل يعود على بني الإنسان بالخير، يعبر عما يختلج في نفسه من مشاعر إنكار الذات وقدرة على تعدي ذاته الفردية إلى شيء عام خارج عنها. أما أداء الشعائر الدينية اليومية من صلاة وصوم ودعاء بإخلاص صادق ينم عن إيمان قوي، فإنه يزيل كل ما يعوق اجتهاد النفس في سبيل كشف الله في داخلها، ويمد الوعي الروحي بالتقوى والصلاح والورع التي تفسح الطريق نحو اللانهاية.

وما أن يتم بالروح الطاهرة الخيرة النشيطة إدراك اتحاد الله بالنفس البشرية بالبداهة الروحية والحدس الفطري يجب أن تستنير بهذه الحقيقة في إدراك الله في الطبيعة عن طريق كشف القوانين الطبيعية التي يدخل تحت نطاقها كثير من الظواهر المتشابهة والحوادث المتكررة والأشياء المتماثلة التي أحل الله سروره في كل منها على صورة القانون الخاضعة له، ثم يستضئ بهذه القوانين العلمية في الإحساس بانسجام أجزاء الكون وتوافقها الذي يوحي بتذوق جمال وحدة الطبيعة واتحادها بالله.

ولكن إدراك الله في النفس وفي الطبيعة وإحساس وحدة الوجود أمر جزئي لا يكفي لتحقيق الكمال الروحي الذي لا يتوصل إليه إلا عن طريق الحب الذي يغمر النفس عند الإحساس بذلك السرور الذي يتولد من إدراك حقيقة وحدة الوجود، وذلك يحدث حين تصير فكرة وحدة الوجود حية في النفس واضحة للعقل، ويعيشها الإنسان في كل عمل يأتيه، وفي كل قول يصدر عنه، حتى يصبح إدراك هذه الوحدة أكثر من مجرد فكرة ذهنية، وينبعث من الإنسان وعي يشع نوره من معرفة الله المقيم في كل شيء، فيشمل هذا الوعي سرور مبهج ينجم عنه حب عميق لكل شيء يستقر فيه الله، وحب الغير أسمى ما يصل إليه الإنسانية من درجات الرقي الروحي، ففيه يتلاشى الشعور بالفردية ويختفي التباين بين الله والطبيعة والإنسانية، وتعرف الروح أن حقيقتها تتضمن أكثر من وجودها الشخصي، وتوقن أنها حرزت على وحدتها التامة مع الخليقة التي يتوسم سرور الله في كل وجه من وجوهها.

ولم يتورع طاغور من أن يسير مع الدين الهندوكي إلى آخر مداه، ويؤمن معه بأن الإنسان يجب أن يسعى ليتحد بالله حتى يصير هو والله حقيقة واحدة. إلا أنه حاول أن يخرج نفسه من هذا المأزق، وينفي عن الإنسان أصالة الربوبية بادعائه أن القول بأن الروح يجب أن تصبح الله، لا يقصد به أن روح الفرد هي الله بالفعل، إنما يقصد به أن الله هو المثل الأعلى اللانهائي الذي ينبغي أن يتحول إليه الروح. ومثل الروح في ذلك مثل ماء النهر المتدفق نحو البحر، فإنه يستطيع أن يقول (أنا البحر)، ولكنه لا يستطيع أن يزعم أن البحر جزء منه أو ترعة فيه، وتستطيع الروح كذلك أن تكون الله، كما يصير النهر بحراً، ولكنها لا تستطيع أن تدعي أن الله جزء منها، أو تنكر أن غايتها الأخيرة أن تغوص في لا نهائيته، ثم تنمو وتزداد فيه على الدوام حتى تشمله جميعه وتصير حركاتها متفقة مع أنغام هذه الحقيقة اللانهائية.

وإن استطاع طاغور أن يفلت من هذا المأزق، فلقد واجهته مشكلة أخرى مستعصية، وهي كيف يتحد الإنسان المحدود بالله الغير محدود، فإنهما متناقضان والجمع بينهما مستحيل؟ ولكن طاغور لم يجد صعوبة كبرى في دفع هذا الإشكال دفعاً سلبياً، وبين أن اجتماع اللانهائي لا يظهر ما فيه من تناقض إلا المنطق، أما في الحقيقة، فليس هناك مشكلة على الإطلاق. والمنطق بجدله لا ينفي فقط اتحاد الله بالإنسان والكون، بل يستطيع كذلك بعقد البديهيات ويدلل على أن البعد بين نقطتين مهما تقاربتا يصح أن يكون بعداً لا نهائياً لا يمكن اجتيازه، إذ من الممكن تقسيم هذه البعد إلى أبعاد صغرى لا متناهية العدد يستحيل عبرها إذا أخذت كل منها على حدة. هذا فضلاً عن أن العقل الذي يستعين بالمنطق في كسب معرفته ليس إلا آلة أو جزءاً من الإنسان، ولا يستطيع أن يحصل على معلومات إلا من الأشياء التي تقبل التقسيم والتحليل والترتيب، ففصل العقل بين الله والإنسان والأشياء، ولكنها في الحقيقة متحدة اتحاداً تاماً.

وإن ما يبدو في هذه الوحدة من تناقض لا يحل بهذه الوحدة؛ لأن تناقض الوجود في حد ذاته لا يتعارض مع وحدته، فأن ما يشاهده الإنسان في الطبيعة من تضاد بين الحرارة والبرودة والحركة والسكون يثبت أن في الكون مجموعة من القوة المزدوجة المتضادة تعمل في اتحاد كامل مثل اتحاد اليد اليمنى واليد اليسرى وإن كلاً تعملان في ناحيتين مختلفتين، فإن هذا الاختلاف ألم يسبب أي تنافر في نظام الكون، بل قامت فيه وحدة ناتجة عن ملاءمة قوى الطبيعة بعضها لبعض والتناقض بين اللانهائي والنهائي من هذا النوع، ولا يمنع من اتحادهما، بل لا غنى لأحدهما عن الأخر، فإن الله في حاجة في حاجة لعودة الإنسان إلى اللا نهايته التي انبعث منها حتى تتحقق وحدة الوجود، بينما الإنسان في حاجة إلى الله، لأن كماله لا يتم إلا إذا أفنى ذاته لمحدودة في ذات الله الغير محدودة، وإن ما يوجد بينهما من تناقض ظاهر يزول بالسرور والحب المتبادلين واللذين يوفقان بين لانهاية الله وبين نهاية الإنسان، ويجمعان بين أغراضهما بحيث يصبح هدف الله وهدف الإنسان هدفاً واحداً ألا وهو بلوغ أعلى درجات وحدة الوجود التي لا تتحقق بالإنسان من دون الله، ولا بالله من دون الإنسان، ولكن باتحادها جميعاً.

وبالرغم من أن طاغور ساير الدين الهندوكي في تصويره حقيقة وحدة الوجود، وحاول إزالة ما يكتشف هذه الحقيقة من غموض، إلا أنه في الوقت نفسه لم يساير الهندوكيين مسايرة الأعمى وعمد على ألا تكون حقيقة وحدة الوجود عقيدة جامدة بعيدة عن متناول العامة، وتبلغ من السمو والرفعة بحيث لا يستطيع الوصول إليها إلا خاصة الخاصة، ويتطلب الشعور بها جهوداً شاقة فوق قدرة الإنسان العادي، فأخرج هذه العقيدة من كهف الزاهد النائي إلى حياة عامة الناس، وأعطى لها من الحيوية ولشيوع بحيث مكن الرجل التقي الصالح العالم والفنان ورجل السياسة والمصلح الاجتماعي وأرباب الأعمال الاقتصادية والصانع والزارع من تحقيق هذه الوحدة بعد أن كان تحقيقها قاصراً في العصور القديمة على هؤلاء الزهاد الهاجرين الحياة المعذبين لأنفسهم وأجسادهم.

ويبدو أن طاغور أحس بأن ما كان يبتعه زهاد قدماء الهند من أساليب، أو ما كان يسلكه متصوفة الإسلام من طرق، أو ما كان بحياة المتعبدون المسيحيون من رهبنة، اصبح لا يلائم الحياة العصرية التي تجد وراء الرقي المعنوي والكمال المادي كما يحرم المواطنين من القيام بواجباتهم الاجتماعية، فلو فرضت هذه الاجتهادات الدينية والرياضيات النفسية على الإنسان المعاصر لحمل أكثر مما يطيق، وما ثابر على ممارستها، وقد يدب فيه نوع من اليأس يثنيه عن تحقيق غايته الدينية، وإن قدر أن يحاكي الزهاد القدماء لقصر في مسئولياته العائلية وفي واجباته الوطنية، وما استطاع أن يساهم بأي نصيب في تقدم المجتمع الإنساني.

فسهل طاغور سبل تحقيق الذات بحيث جعل الاتحاد بالله عن طريق الشعور بالسرور الذي يشمل الروح عند خضوع النفس للقوانين الأخلاقية وأدائها الشعائر الدينية وقيامها بعمل نافع خير يدل على صدق استسلام النفس التام لسيطرة القانون الخلقي، ثم ملاحظة أن سرور الله يمتد في الكون في صورة القوانين الطبيعية وإن معرفة هذه القوانين وإحساس ما تنطوي عليه الطبيعة من توافق رائع وانسجام خلاب يتم للإنسان تحقيق وحدته بالوجود الذي حل فيه سرور الله.

وبذلك جعل طاغور الاتحاد بالله على أساس متين من الأخلاق والدين، ويتوصل إليه عن طريق مسوغات الحياة الراقية الحديثة من عمل وعلم وفن، وبين للهندي أن عقيدة وحدة الوجود ليست دين الخاصة، إنما هي دين الجميع.

عبد العزيز محمد الزكي

مدرس الآداب بمدرسة صلاح الدين الأميرية بكفر الزيات