مجلة الرسالة/العدد 812/مسابقة الطلاب السنة التوجيهية

مجلة الرسالة/العدد 812/مسابقة الطلاب السنة التوجيهية

مجلة الرسالة - العدد 812
مسابقة الطلاب السنة التوجيهية
ملاحظات: بتاريخ: 24 - 01 - 1949



النفس عند ابن سينا

للأستاذ كمال دسوقي

كان ابن سينا في المقالة الخامسة بصدد الحديث عن المركبات وما تتركب منه من عناصر، وكيف يتم هذا التركيب؛ فتناول النار، فالأرض بطبقاتها من بر وبحر وطين؛ فالهواء ما كان منه بخاراً أو برداً أو دخاناً أو ريحاً. . . فكأن العناصر عنده هي العناصر الأربعة المعروفة لكم منذ الأيونيين: الماء والهواء والنار والتراب. لا توجد صرفاً خالصاً، بل باختلاط وتمازج. والجديد هنا أن هذه العناصر (طوع الأجرام العالية الفلكية)، وأن الكائنات الفاسدة (يعني الفانية المحسوسة) تتولد من تأثير تلك (يعني العناصر) وطاعة هذه (يعني الأفلاك)؛ لأن الفلك وإن لم يكن حاراً ولا بارداً فإنه قد ينبعث منه في الأجسام السفلية حرارة وبرودة بقوى تفيض منه عليها. . .). اربطوا قوله هذا (في صفحة 152 ومنتصف 153) بمطلع فصلكم السادس في النفس حيث يقول:) وقد يتكون من هذه العناصر أكوان أيضاً بسبب القوى الفلكية إذا امتزجت العناصر امتزاجاً أكثر اعتدالاً مما سبق ذكره من المركبات؛ كالنبات والحيوان والإنسان التي نفوسها موضع حديثه في هذا الفصل.

وعند ابن سينا أن الأفعال النباتية والحيوانية والإنسانية تكون من قوى زائدة على مجرد الجسمية وطبيعة المزاج، وأنه كلما حدث اعتدال أكثر في تركيب هذه العناصر وانسجامها كانت أكثر قبولاً لقوة نفسانية أرقى من الأولى. وتلمسون فكرة التدرج هذه في تقسيم النفوس النباتية والحيوانية والإنسانية وفقاً لدرجة كل منها في هذا الاعتدال من تعريفه لهذه النقوس. والنفس هي كمال أول الجسم طبيعي آلي - نفس التعريف الذي قال به أرسطو - فإن كانت نباتياً فهي كماله من حيث التوالد والنمو والغذاء؛ وإن كان حيوانياً فمن جهة إدراكه للجزئيات وتحركه بالإرادة؛ وإن كان إنسانياً فمن حيث هو يفعل الأفعال باختيار الفكر واستنباط الرأي. وتذكركم هذه التعريفات - فينا أرجو - بما بين لكم أساتذتكم من الاطراد العكسي في نقص الما صدق تبعاً لاتساع المفهوم؛ خصوصاً وأن هذه الصفات الواردة في التعريفات المذكورة كلها أساسية وجوهرية تنتقل من العام إلى الخاص؛ يترتب عليه أن تكون صفات الأعم، (النبات) موجودة في الأخص (الإنسان)، لا العكس

وهنا نقبل على أقسام كل من هذه النفوس الثلاثة: فقوة الغذاء وقوة النمو وقوة التوالد هي ما تنقسم إليه النفس النباتية، ولن يتعذر عليكم فهم تعريفها واستيعابها. أما النفس الحيوانية فلها فوق صفات النفس النباتية السابقة، وكما ترون من تعريفها قوتان: الحركة والإدراك الجزئي. والحركة إما ببعث الشوق والنزوع للحركة بقوة الشهوة (اللذة) أو بقوة الغضب (الألم)، وإما بفعل الأعصاب يقع عليها التأثير من خارج فيرنه إلى العضلات في حركة رد فعل أو استجابة وكلاهما نظرية علمية لا تزال قائمة في علم النفس إلى اليوم - الأول تستند إلى علم الأخلاق، ويأخذ بها أصحاب الدوافع أو مدرسة القصد في علم النفس والأخرى يؤيدها علم وظائف الأعضاء (الفزيولوجيا) وخصوصاً دورة الجهاز العصبي بطرقه الصاعدة التي توصل التأثير من الحواس إلى المخ والنخاع الشوكي ثم بطرقه الهابطة التي ترتد بالحركة إلى العضلات أو غيرها من مناطق الفعل الحركية مما لا يزال يفسر به كل فعل عصبي أو منعكس شرطي. فابن سينا في هذين القسمين الجزئيين يقدم لنا تفسيراً مزدوجاً للحركة الإرادية وغير الإرادية يسبق به علماء النفس المحدثين بقرون.

ونعود إلى قوة الإدراك في النفس الحيوانية، فنجدها تنقسم إلى إدراك ظاهر وإدراك باطن، أما الإدراك الظاهر فأبوابه الحواس الخمس المعروفة (أبواب المعرفة الخمسة) كما نقلها جون ملتون وهي البصر والسمع والشم والذوق واللمس لأربعة الأزواج المتضادة بنفس ترتيبها حسب أهميتها لدى كوندياك وغيره من علماء النفس المحدثين، وبنفس تفسيرها تقريباً. فالمؤثر من الخارج يقع على عضو الحس فينبهه وينطبع في الذهن فيفسره المخ. وهنا جدل طويل حول الرأي القديم الذي كان يظن بحاسة البصر غير ذلك، وتأييد للرأي العلمي الصحيح. هذه هي الحواس الخمس التي تم بها الإدراك الظاهر، وكان ابن سينا قد قال: الخمسة أو الثمانية - ولكنه لم يذكر إلا هذه الخمسة، فهو إذن يريد بذلك الأربعة الأولى ثم يقسم اللمس إلى الأربعة الأزواج المذكورة: الحرارة والبرودة، واليبس والرطوبة، والصلابة والليونة، والخشونة ونعومة الملمس - بوصفها أربع قوى لجنس اللمس الواحد. وعلى أي حال فقد وجدنا من علماء النفس المحدثين من يقول بثماني حواس فعلاً من خمس، ولكنه يزيد حينئذ على الخمس آنفة الذكر: حاسة التعب، وحاسة الاتزان في الوضع، ثم حاسة الاتجاه. وليست هذه على أي حال ظاهرية.

أما الإدراك الباطن فهو إدراك صور أو إدراك معان: الصور هي التي تدركها الحواس أولاً، ثم تفسرها القوى الباطنة - كالتي ذكرنا، والمعنى تدركه القوى الباطنة وحدها، أي يتمثله الذهن وحده دون إهابه بالحواس. وهو إدراك سلبي بلا فعل ترتسم فيه صورة الشيء فحسب؛ أو إدراك إيجابي فعال فيه تركيب للصور والمعاني وتحليلها - وهو تقسيم فعلي إلى فاعل إيجابي، وقابل أو منفعل سلبي. ثم هو إدراك أول مباشر يقع للشخص من نفسه - أي إدراك ذاتي أو يؤديه إليه شيء آخر يأتي عليه من خارج - إدراك موضعي

تبينوا هذه التصنيفات الثلاثة للإدراك جيداً، وميزوها بوضوح، ثم انظروا إلى ابن سينا وهو يشرح المخ ليوزع فيه مناطقه المختلفة نفوذ هذه القوى الإدراكية. فالمخ ينقسم باعتبار المكان - في موضعه من تجويف الرأس - إلى مقدم ووسط ومؤخرة. في المقدم يوجد الحس المشترك (وهو ينقل كلمة فنطاسيا من اليونانية بمعنى الإبانة أو الإظهار ليدل بها على المخيلة أو المصورة للشيء بعد غيابه. وفي الوسط توجد المفكرة في الإنسان (والمتوهمة في الحيوان) التي تجمع وتفصل هذه الصور وفي المؤخرة توجد الحافظة أو الذاكرة التي تختزن فيها المعاني الذهنية كما يجمع الحس المشترك الصور الحسية.

وأخيراً تأتي النفس الناطقة وتنقسم عنده إلى نفس عاملة (عملية) وأخرى عالمة (نظرية)؛ الأولى تتعلق بالتدبير والتصرف؛ والثانية باكتساب العلوم والمعارف. الأولى مبدأ يحرك بدن الإنسان إلى تدبير أموره الجزئية الخاصة - أي إلى السلوك بحرية واختيار؛ وذلك بفعل قوتي النزوع والوهم. فالنزوع يبعث فيها الفعل والانفعال كالضحك والبكاء والخجل. . . الخ مما يتعلق بمواقف الإنسان ذاتها وكيف يخرج منها. والوهم يبعث على تدبير الأمور والعمل والاختراع. وهذا العقل العملي ذاته يولد - بالاشتراك مع العقل النظري - مبادئ الأخلاق والمعاملات والتصرف، وهي التي يجب أن تكون لها السيطرة على قوى البدن الأخرى حتى يكون سلوك الإنسان فاضلاً، فلو تغلبت القوى الأخرى كالشهوة والانفعال والغضب. . . الخ؛ لنشأن الأخلاق الرذيلة.

تلك هي النفس العملية التي تتعلق بسياسة البدن السفلي وقيادته إلى الفضيلة. فالنفس - وإن كانت جوهراً واحداً - تتجه إلى اسفل لتسوس البدن، فتكون عملية، وتتجه كذلك إلى أعلى لتتلقى العلم النظري وتستفيد به، فتكون حينئذ نظرية عالمة عالية لا صلة لها بالبدن ولا بمؤثراته بأي نوع من الصلات. إذ هي تنطبع بالصور الكلية المجردة عن المادة، وتجردها منها إن كانت غير مجردة ثم تنطبع بها.

وهذا الفعل النظري بطبيعته قابل لهذه الصور - قابل لها بالقوة لها بالفعل

(1) يقبلها بالقوة قبولاً مطلقاً من حيث أنه محل قبول هذه الصور، وأن لديه الاستعداد لقبولها متى شاء أو صحت الظروف، فيسمى حينئذ عقلاً هيولانياً، لأنه يشترك فيه أفراد النوع باستعداد فطري.

(2) ويقبلها بالقوة قبولاً ممكناً بعد أن يكون قد تهيأ للاستعداد الهيولاني السابق تحصيل هذه الصور والكمالات العقلية، فأصبح مهيأ لفعلها متى أراد بلا واسطة، فيسمى حينئذ عقلاً ممكناً (أو ملكة

(3) ويقبلها بالقوة قبولاً ممكناً كذلك، بأن يكون العقل الممكن في المرحلة الثانية قد تم له تحصيل هذه الصور والكمالات وأصبحت له ملكة كاملة يستطيع بها أن يفعل متى أرد ولو لم يكن فاعلاً في لحظة ما. وتسمى هذه ملكة أو كمال قوة أو قوة كمالية (نسبة إلى الكمال لا الكمالي)

والأولى من هذه القوى النظرية هي التي يمكن أن يقال إنها بالقوة بحق، فإذا ما بدأت تحصل المعقولات الكلية والمقدمات العقلية والبديهيات في المرحلة الثانية (القوة الممكنة) وصارت عقلاً بالملكة؛ ثم إذا تم لها كمال التحصيل والتخزين لهذه الصور المعقولة المدخرة التي تطالعها وترجع إليها في نفسها متى أرادت فتعقلها وتعقل أنها تعقلها - بلا عسر أو تكلف - في المرحلة الثالثة (كمال القوة)، فهنا في هذين العقلين يكون العقل بالفعل لا بالقوة. ومسالة القوة والفعل في هذه العقول الثلاثة نسبية عند ابن سينا، فكل واحد منها يكون بالفعل لما قبله وبالقوة لما بعده. ذلكم أن صفة (الفعل) إنما يكتسبها الواحد من هذه العقول لا من ذاته، بل باستفادته من عقل هو أبداً بالفعل لا بالقوة (هو العقل الفعال الذي سبقت الإشارة إليه) ولذا يسمى ابن سينا العقل في أوج تعقله وإدراكه وكماله العقل المستفاد بل إن ابن سينا يذهب إلى ما هو ابعد من ذلك فيحدثنا عما يسميه العقل القدسي، فيمن كمل استعدادهم من الناس وهم قلة لأن يتصلوا بالعقل الفعال دون عناء، ولأن يحصلوا على هذه المعقولات وكأنها من عند أنفسهم وحاضرة قيهم، وذلك بما لديهم من الحدس والعيان والمكاشفة أرقى وسائل المعرفة الفيضية هذه التي تدرج بك فيها. وحجته هنا مقنعة وبليغة، وهي أنه يتصور أن أية معرفة عقلية تقوم على القياس والمنطق فهي استنباط نتيجة من حد أوسط مشترك بين مقدمتين، كما تعرفون في منطق الأستدلال؛ بينما توجد معرفة أخرى أرقى يقوم فيها الحدس والذكاء المفرط ذاتهما باختصار هذا الحد الأوسط والوصول مباشرة إلى النتيجة. وهذه النظرية في المعرفة هي أصح ما في مذهب ابن سينا في العقل الإنساني بعد تقسيمه إياه إلى نظري وعملي، لا يزال يقول بها من بعده الغزالي والصوفية وبرجسون في هذا العصر الحديث، حين يجعلون الحدس والعيان قوة إدراك مباشرة تنعدم فيها الواسطة. وغاية ما يؤخذ عليه فيها عدم تحديد مصطلحاته واشتراكها في تسمية شيء واحد. فنحن الآن نفهم بالذكاء القدرة على إدراك المواقف خلال الحدود الوسطى، وبالعيان والحدس الوصول إليها عفواً وتجربة وبلا وساطة.

لقد تدرجنا بك مع ابن سينا حتى الآن في سلسلة من الكائنات النفسية عجيبة الترتيب والتصنيف؛ من أقلها شأناً حتى أعظمها قدراً؛ من قوة التوالد في النفس النباتية حتى العقل القدسي في النفس الإنسانية. وعليك بعد هذا أن تقلب هذه السلسلة التصاعدية رأساً على عقب، وتنظر إليها نظرة تتبين منها أن كل قوة من كل نفس من هذه النفوس تقوم على خدمة الأعلى منها، لا يقتصر الأمر على مملكة النفوس هذه، بل إن القوى الطبيعية تقوم في خدمتها جميعاً. والله المسئول أن يعينكم على أن تتسع عقولكم لتدخل فيها عقلية ابن سينا هذه الكبيرة.

كمال دسوقي