مجلة الرسالة/العدد 813/القصص
مجلة الرسالة/العدد 813/القصص
الحلم
للكاتب الأيرلندي لورد دتساني
رأيت في المنام أني اقترفت جرما فظيعا رفضوا من جرائه أن يدفنوني في الأرض أو في البحر، بل لم يكن لي مكان حتى في الجحيم. عرفت ذلك وأنا في انتظار مصيري عندما أقبل أصدقائي وقتلوني سرا في احتفال ديني أضاءوا فيه الشموع، ثم حملوني بعيدا عن لندن، رحلوا في دجى الليل وساروا في طرق موحشة بين صفين من الديار الصغيرة حتى وصلوا إلى النهر، وكان في صراع مع مد البحر بين الضفاف الموحلة وفي ظلام الليل الدامس، فعرتهما دهشة فجائية من رؤيتهما أصدقائي وقد انعكست أنوار شموعهم على صفحة الماء. أدركت كل ذلك بينما كانوا يحملون جثتي المتيبسة، فقد كانت روحي لا تزال بين عظامي لأنه لم يكن لها مأوى في السماء.
ونزلوا درجا أخضرا موحلا، فدنوت شيئا فشيئا من الطمي المرعب. وهناك حفروا حفرة قليلة الغور وأرقدوني فيها بين المهملات. ثم ألقوا فجأة بشموعهم في النهر، فانطفأت شعلتها وانسابت تندفع معالمد صغيرة شاحبة. وجعلت أراقب شروع الفجر وأشاهد أصدقائي يتسللون خفية الواحد تلو الأخر وقد توشحوا معاطفهم.
وأقبل الطمي وغطى كل شيء عدا وجهي. ورقدت هناك بين المفقودات والأحجار المتداعية والمهملات وكل ما هو في طي النسيان، وقد تخلصت من احساساتي، لأني كنت ميتا - قتيلا ولم يبقى لروحي التعسة سوى الإدراك والتفكير. وبزغ الفجر فأبصرت الديار المهجورة تزخر بها حافة النهر، وقد أطلت على نوافذها الميتة تحدق في بأعين لا حياة فيها، نوافذ يجثم وراءها الشر وقد خلت من أرواح البشر، وازددت جهدا وأنا أتطلع إلى تلك المهملات فاشعر بالرغبة في البكاء دون أن أبكي لأني في عداد الأموات. ثم عرفت ما لم أكن أعرفه من قبل - أن هذه الديار المهجورة كانت تود أن تبكي مثلي طوال الأعوام التي مرت عليها. ولكنها بكماء لا حياة فيها. وكم كنت أود أن تبكي هذه الأشياء المتراكمة المهجورة فأشعر بالراحة لبكائها، ولكنها كانت أيضا ميتة كفيفة البصر، وكان حالي مثل حالها، فقد حاولت البكاء فلم يتساقط الدمع من عيني. وكنت أعرف أن النهر يستطيع لو أراد، أن يعتني بنا، ويحنو علينا، ويغني لنا. ولكنه كان يندفع جاريا دون أن يفكر في شئ سوى ما يحمله معه من سفن فاخرة.
وأخيراً فعل المد ما لم يفعله النهر، وأقبل وغطاني، فانتشت روحي بعد أن رقدت تحت الماء الخصر، وخالجها اعتقاد أنها مدفونة في البحر. وما انحسر الماء حتى رجعت إلى الطمي بين المهملات وعدت إلى مشاهدة الديار المهجورة وعادت إلي معرفتي بأننا جميعا أموات. ثم بدا لي نفق حالك وممرات سرية ضيقة تخترق ذلك الحائط الكئيب الواقع خلفي وقد غطته الأعشاب الخضر، فأقبلت منها الجرذان تتسلل لتقرضني، وابتهجت روحي عندئذ، واعتقدت أنها ستغدو حرة، فتخترق نطاق تلك العظام الملعونة التي رفض دفنها. ولكن سرعان ما ولت الجرذان هاربة مبتعدة عني، ثم جعلت تتشاور فيما بينها، ثم لم تعد إلى بعد ذلك. وهنا عرفت أني ملعون حتى بين الجرذان، وحاولت عندئذ البكاء دون جدوى. ثم أقبل المد وعاد يتأرجح حتى غطى الطمي المهول، وأخفى الديار المهجورة، وواسى الأشياء المهملة، وأراح روحي فترة وهي مدفونة في مياهه. وأخيرا هجرني وأبتعد.
وهكذا أصبح المد يقبل ثم يعود سنين عديدة، إلى أن وجدني بعضهم، فانتزعوني من الطمي ودفنوني دفنا لائقا. وما أن رقدت في أول رمس حتى عاد أصدقائي وأخرجوني منه وأعادوني إلى حفرتي في الطمي.
وكم من المرات تجد عظامي مدفنا لها على كر السنين، وفي كل مرة يكمن أحد هؤلاء الرجال المرعبين، حتى إذا ما أتى المساء يقبل فيحفر ثم يخرجني من رمسي ويحملني ويعود بي إلى حفرتي الأولى.
وفي ذات يوم مات رجل من هؤلاء الذين فعلوا بي هذا الفعل المروع. وسمعت روحه تتصاعد فوق النهر عند الغروب. وحينئذ أشرق في روحي الأمل.
ومرت الأسابيع عندما وجدوني مرة أخرى، فأخرجوني من ذلك المكان المتقلقل ودفنوني في أعماق الأرض المقدسة. وعاود روحي الأمل في أن تظل هناك أبدا. ولكن سرعان ما أقبل رجال متشحون بالمعاطف ويحملون الشموع، وأعادوني إلى الطمي، لقد أصبح ذلك الأمر لهم تراثا وتقليدا. وسخرت مني المهملات في قلوبها الصم عند عودتي، فقد كانت تغار مني لتركي الطمي. وكنت لا أزال أذكر أني لا أستطيع البكاء.
ومرت السنين تجري كما يجري النهر صوب البحر حيث الزوارق ترحل وتعود السفن الهائلة الهائمة يبتلعها الموج، وما زلت راقدا بلا أمل، لأني لا أجرؤ أو آمل دون سبب، نتيجة حسد المهملات المروع وغضبها الشديد.
وفي ذات يوم هبت عاصفة هوجاء، أقبلت جنوبا من بعيد، قادمة من البحر، ثم عرجت على النهر تصاحبها الريح الشرقية العاتية، وتغلبت على الجزر وهي تسير في خطى واسعة فوق الطمي الغافل. وابتهجت المهملات واختلطت بغيرها من الأشياء المبتهجة، وانساقت السفن الفاخرة وهي تطفو من أعماق الماء، وأخذت العاصفة عظامي من مرقدي الموحش، فشعرت بأمل يترعرع في نفسي في أنه لن يعكر على الجزر صفو مرقدي بعد ذلك. وعندما أنحسر المد كانت العاصفة قد ولت تقتفي أثر النهر صوب الجنوب، ثم عادت إلى مقرها بعد أن تعثرت عظامي بين جزر كثيرة على طول السواحل. وكادت روحي أن تتحرر من أغلالها عندما أرتفع المد الدافق تحت ضوء القمر وعبث بما تركه الجزر، ولم عظامي من هذه الجزائر وعاد بها من هذه السواحل، ثم ذهب ينثني صوب الشمال حتى وصل إلى مصب التيمس، وهناك تحول غربا والتقى بالنهر وصعد معه حتى أقبل إلي الحفرة فألقى فيها عظامي. ثم أنحسر المد فشاهدت أعين الديار الميتة، وشعرت بغيرة المهملات التي لم تحملها العاصفة.
ومرت قرون على ذلك التنازع بين المد والجزر، ولا زلت تحت قبضة الطمي بين هذه المهملات الموحشة، وأنا عاجز عن التحرر من أغلاله. واشتقت إلى حنان الأرض الدافئة، وأحضان البحر الخصم.
وكان الناس بعض الأحيان يعثرون على عظامي فيدفنونها. ولما كانت التقاليد لا تزال على حالها من الوجود فقد أصبح خلفاء أصدقائي يقومون دائما بإعادتي إلى الطمي. وأخيرا أنقطع إبحار السفن، وخبا ضوء النهار، ولم يعد يطفو على الماء إلا جذوع الأشجار القديمة وقد اقتلعتها الريح من جذورها. وشعرت مع الزمن بنمو الأعشاب بجواري وأخذت الطحالب تنبت فوق الديار الميتة. جعلت أراقب هذه التطورات سنين عديدة إلى أن تأكدت تماما أن لندن في طريقها إلى الفناء. وحينئذ أشرق الأمل مرة أخرى، مع أني كنت أعرف أن كل من يجرأ على أن يأمل وسط الطمي يثير عليه غضب المهملات الملقاة علىضفتي النهر. وشيئا فشيئا تداعت الديار المخيفة، ووجدت لها مدفنا لائقا لين الأعشاب والطحالب. ثم تفتحت الأزهار البرية واستطالت النباتات المتسلقة، وأطلت فوق الأكمات. وحينئذ عرفت أن الطبيعة قد انتصرت وأن لندن قد أصبحت أطلالا. وأقبل آخر إنسان إلى الحائط بجوار النهر في معطف رث من تلك المعاطف التي كان يرتديها أصدقائي، وحدق ليرى إذا كنت لا أزال هناك ثم رحل ولم أشاهده بعد ذلك. لقد رحلوا جميعا كما رحلت لندن.
وبعد أيام، أقبلت الطيور الشادية، ونظر بعضها إلى بعض عندما شاهدتني، ثم طارت بعيدا عني وجعلت تتشاور فيما بينها، فقال أحدها (أنه لم يأثم في حقنا، وإنما أثم ضد الإنسانية) فقالت (إذن دعونا نحنو عليه).
ثم حطت بالقرب مني وأخذت تغرد. واستمعت إلى شدو المئات منها عند الشروق، على ضفاف النهر، وفي عنان السماء وخلال الغابات، وتعالى عناءها عندما سطع الضوء، وازدحمت فوق رأسي حتى أصبحت آلافاً مؤلفة، ثم ملايين، فلم أرى أخيرا إلا أجنحة تصطفق تحت قبة السماء وارتفعت روحي من عظامي الراقدة في الحفرة الموحلة، وأنا أستمع إلى هذه الأغاريد المشجية، وأخذت تتعالى في عنان السماء مع الألحان. وبدا لي وكأنما قد شق طريق بين الطيور، ارتفعت فيه روحي وظلت ترتفع حتى دلفت إلى الجنة من أحد أبوابها الصغيرة وقد فتح على مصراعيه في نهاية السماء. وعندئذ عرفت أني قد انتشلت من ذلك الوحل ولن أعود إليه مطلقا، فقد وجدت فجأة أني أستطيع البكاء.
وفي نفس اللحظة فتحت عيني فوجدتني في فراشي بلندن، وسمعت الطيور تغرد فوق شجرة في الخارج تحت أشعة الصباح الخلابة. وكانت عيني منداة بالدموع، فإن إرادة الإنسان أضعف ما تكون أثناء النوم. وهببت من فراشي وفتحت النافذة، وبسطت ذراعي فوق الحديقة الصغيرة، وباركت الطيور التي أنقذني شدوها من حلمي الطويل المخيف المزعج.
محمد فتحي عبد الوهاب