مجلة الرسالة/العدد 813/تعقيبات

مجلة الرسالة/العدد 813/تعقيبات

ملاحظات: بتاريخ: 31 - 01 - 1949



للأستاذ أنور المعداوي

موكب الحرمان

كان لقلبه في محراب فنها صلوات. . وفي محراب فنها كم صلت قلوب، ولكني لا أعرف قلبا أطال السجود مثل قلبه! كان يقدسها وهي ترسل النغم فينصت الوجود، يوم كان في أنغامها أنين وحنين، وفي ألحانها تبريح وتسبيح. . . وكانت حين تغني له وتفني نفسها في غنائها، أشبه براهبة متعبدة، تندت من دموعها صفحات الكتاب المقدس! وأقام لها في معرض الفكر صورا فاتنات، وحشد لها الخيال يمدها بكل ما في إبداعه من ألوان وظلال

كانت إنسانة، وكانت فنانة، وخيل إليه يوما أنها سمت بفنها وإنسانيتها إلى الحد الذي تشعر عنده الكلمات بأنها في حاجة إلى عون الوحي والإلهام!. . . وكانت قصة هواهما أنشودة حلوة: بمثلها لم يحظ في الفن يوما وتر، ولم يشد يوما في اليم ملاح، كلا. ولم يسمع شراع. . . وأسطورة عذبة: بمثلها لم يحط في الوهم يوما خيال، ولم يصدح في البيد يوما رعاة، كلا. ولم يكتب يراع! وكان معبد القديسة يملأ النفوس رهبة وحمة وحنانا. . . كانالترتيل يهز جوانبه بين حين وحين فتهتز المشاعر وتتعلق الأنفاس وتهوم الأرواح. . . . وكانت أغانيها نشوة الشعور في موكب الأفراح، وفرحة القلوب في عرس الحياة!

وفي ومضة البرق لفها الليل، فقد كل شيء. . . معبد القديسة؟ لقد خيم في جنباته الصمت وشاع السكون! معرض فكره وصورة الفاتنات؟ لقد محت ريشة القدر كل ما فيها من ألوان وظلال!. . . وهاهو ذا النبع قد جف، والزهر قد ذبل، والمطر قد ذهب إلى غير معاد! لقد لقيت مصرعها في حادث لا يزال يذكره الناس، وذهبت بأحلامها وأحلامه إلى هناك، إلى وادي العدم. . . والنيل الحبيب الذي بارك أمسياتهما لا يزال يجري، والقمر الساحر الذي رعى حبهما لا يزال يبزغ، والليل الساكن الذي كتم سرهما لا يزال يقبل كلما ولى نهار!

أما هو في أسوء ما فعلت به بعدها الأيام! لقد طوى القلب على أحلامه، وعاش من بعده على أطلال الذكريات. . . ولقد سار وحده في موكب الحرمان: يهتف للأنة الحائرة، ويصفق للزفرة المحرقة، ويعود آخر الأمر وملء نفسه أشلاء آمال!. . . وأما حياته، فيا سوء ما أصبحت: لقد أصبحت أقباساً من وهج اللوعة، وفنوناً من عبقرية الألم، وخريفاً ل يعرف طعم الربيع إلا من أفواه الناس!

كتبت هذه الكلمة منذ عام في مجلة (الأديب) اللبنانية، ثم تلقيت عقب نشرها بضع رسائل من هنا وهناك، بعضها يدور حول كلمتين: (من هو؟) و (من هي؟). . . بينما يدور بعضها الآخر حول التوكيد بأن بطلة هذه القصة القصيرة هي فقيدة الفن (أسمهان)، ولكن من هو بطل القصة؟!. . .

وأنا اليوم أعيد نشر هذه الكلمة تعقيبا على ما يكتبه الأستاذ التابعي عن ذكرياته حول هذه الفنانة في (أخر ساعة)، ولأقول لمن كتبوا إلي مستفسرين أن (هي) التي أشرت إليها لم تكن إلا المطربة (أسمهان). . . أما (هو) فليس واحداً من أولئك الذين عرف الناس قصة صلاتهم بها، ولا أعتقد أن واحدا منهم يعلم شيئا عن هذا الغرام العاصف الذي جمع بين قلبها وقلبه، وغلف قصة القلبي بغلاف من الصمت والكتمان!

وكم كنت أود أن أذيع قصتها على الناس من رسائلها إليه، ذلك الإنسان الذي لا يعرفه أحد. ولكنه من أسرة. . . وفي بيته زوجة عزيزة عليه، وأبناء صغار أحباء إلى قلبه!

إيمان عظيم:

قرأت لصديقي الأستاذ علي أدهم كلمة قيمة في (الثقافة) عن الألم والأيمان في حياة الشاعر الألماني هنريك هايني، وقد استوقفني فيها ذلك الحوار الرائع بين هايني الشاعر وإمانويل فخت الفيلسوف، حول حقيقة الله بين الوجود والعدم، أو بين الإثبات والإنكار. . . قال هايني لفخت:

- (قل لي يا أستاذ بصراحة: هل تعتقد بالحياة الأخرى؟ وهل تؤمن بأن الروح خالدة؟ وأجاب فخت في تؤدة ووقار:

- أني أعتقد بوجود عالم الأفكار غير المنظور.

- ولكنك لا تصدق بوجود إله. . . إله حي قيوم؟

فأجاب الأستاذ في غير تردد وقد هز رأسه: لا أصدق به!

فأرخى هايني جفنه المشلول، وارتمى على وسادته، ولاذ بالصمت) ثم أستأنف الصديقان حديثهما مرة أخرى حول وجود الله وكانت دهشة الفيلسوف بالغة حين رأى الشاعر وقد تحول عن نزعة الإلحاد التي عصفت بعقيدته ردحا من الزمن، إلى نزعة إيمان عميق تغلغلت في فجاج روحه، تحت وطأة مرض طويل المزه الفراش وبحت به آلامه! وهنا قال هايني:

(إنني في حاجة إلى الله، ففي الليل حينما تأوي زوجتي إلى فراشها أشعر بالوحدة، وينفر مني النوم، وأظل أتقلب في الفراش وأتحول من جنب إلى جنب، ويغشى جسمي الألم ويدب به من الرأس إلى القدم، وفي كل لحظة أعتقد أن نهايتي قد دنت وحانت منيتي. . . وفي مثل تلك اللحظات يؤنس وحشتي أن أفكر في أن هناك في السماوات - أو في أي مكان آخر - من أستطيع أن ألجأ إليه في كربتي وضائقتي، ومن أتهمه أدينه وألقي عليه التبعة. . .) ولعل هذه الكلمات الأخيرة هي وحدها التي تركت أثرها العميق في نفسي وحسي. إن فيها دفقات هائلة من حرارة الشعور في القلب الإنساني؛ الشعور الذي تنبلج أمامه أنوار الحقيقة والأيمان في لحظات الشدة والضيق وحيرة الرجاء، هناك حيث يتجه الضعفاء بقلوبهم إلى رحاب الله ينشدون العون، حين يعز النصير على أرض البشر! إنها ليست كلمات، بل أنات. . . هتكت ستار الصبر والجلد، وتركت مكانها من حنايا الضلوع وشغاف القلب، وخرجت إلى الناس تروي لهم قصة الألم والأيمان!

إنه هايني الإنسان. . . هايني الذي هتف مرة في غمرة من غمرات عذابه: لن أنتسب بعد اليوم إلى الملحدين والجاحدين، لقد أصبحت أومن بأن أوائل الأشياء وأواخرها هي في الله!

مع الدكتور طه حسين:

كنت أتحدث منذ شهرين مع الدكتور طه حسين بك عن الكاتب والفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، وكان بدء الحديث سؤالاً مني للدكتور عما إذا كان قد لقي سارتر في خلال تلك الفترة التي تغيب فيها عن مصر ليقضيها في فرنسا، ثم تطرق الحديث بعد ذلك إلى شخصية سارتر الأدبية والفلسفية، وإلى حقيقة المكان الذي يشغله في الأدب الفرنسي المعاصر.

وسارتر - كما لابد أن يعرف المتتبعون لأخباره من القراء - فيلسوف وجودي ملحد، أصدر البابا أمرا بمنع دخول كتبه الفلسفية إلى مدينة الفاتيكان لما فيها من إنكار سافر لوجود الله! وهو بعد ذلك أديب ارتقى سلم المجد الأدبي في وثبة واحدة بدلا من ارتقائه في وثبات؛ ومن العجيب أنه إلى ما قبيل الحرب العالمية الثانية لم يكن شيئا مذكورا يلفت النظر ويثير الاهتمام، ولكنه الآن يحتل مكانة في الطليعة من كتاب فرنسا الأحياء، ويكاد مجده الأدبي يغطي على أمجادهم جميعا عن جدارة واستحقاق!

أما شخصيته الأدبية، فتتمثل في تعدد ملكاته ومواهبه. . إنه كاتب تراجم فذ لا يلحق به، وكتابه الذي أخرجه عن (بودلير) يعد في رأي الفن خير كتاب أخرج في موضوعه، منذ أن أحتل أدب التراجم مكانه إلى جانب الفنون الأدبية الأخرى. وله في ميدان النقد الأدبي نظرية جديدة لا أحسب أن أحداً قد سبقه إليها؛ وهي نظرية تنادي بأن الأدب صورة القارئ لا صورة البيئة كما يقول (تين). . . وهو بعد ذلك كاتب مسرحي يغذي المسرح الفرنسي من وقت إلى آخر بإنتاجه الفريد المتميز!

في هذه الأشياء كلها كنت أتحدث مع الدكتور طه حسين، ولقد قال الدكتور فيما قال: إنه يخشى على مجد سارتر الأدبي بسبب ميله إلى السهولة فيما يكتب في هذه الأيام، وإنه لم يرض عن مسرحيته الأخيرة (الأيدي القذرة) يوم أن شاهدها تمثل في أحد المسارح الباريسية.

وأعقب على هذه الفتة فأتساءل: ترى لو نظرنا إلى مجد سارتر الأدبي هذه النظرة بسبب ميله اليوم إلى السهولة فيما يكتب فكيف تكون نظرتنا إلى هؤلاء الذين يكتبون اليوم في مصر، ولا يهمهم ملء الفراغ الروحي الذي تحسه الجماهير بقدر ما يهمهم ملء الفراغ الذي تحسه أعمدة الصحف والمجلات؟!. . . إن أخطر الخطر على الكاتب أن يظن أنه قد بلغ أوج الشهرة وقمة المجد، وألا ضير عليه من الوقوف على السطوح دون التغلغل إلى الأعماق، وهذا هو ما يلقاه المتعطشون إلى المعرفة في هذه الأيام حين يقرءون لبعض كبار الكتاب فلا يخرجون بشيء!

إن المسألة ضرب من الميل إلى السهولة، ولكنها عندنا ضرب من الاستهانة بالقيم والأذواق!

حديث الدكتور طه حسين بك في (بيروت المساء):

في مكان أخر من (الرسالة) تقرأ الكلمة التي بعث بها إليها الدكتور طه حسين بك، والتي نفى فيها ذلك الحديث الذي نسبته إليه جريدة (بيروت المساء) اللبنانية حول الشاعرين: علي محمود طه، وعمر أبو ريشه؛ ويسرني كما يسر الذين ينشدون حقائق الأمور أن يبادر الدكتور الفاضل بتكذيب ما نشر منسوباً إليه، وأن يكون رأيه في الشاعر المصري منذ أيام هو رأيه فيه منذ سنين، دون أن يغض من قيمة هذا الرأي أخطاء نحوية أو لغوية يقع فيها الشاعر، وما أكثر ما يخطئ الشعراء والكتاب المعاصرون في العربية كما يقول الدكتور طه حسين!

أما حديث الدكتور عن الشاعر علي طه في الجزء الثالث من (حديث الأربعاء)، فقد أطلعت عليه منذ أمد بعيد، وما زلت اذكر كل ناحية من نواحيه في مجال الإشادة بحسنات الشاعر والإشارة إلى سيئاته، ولعل ما كبته الدكتور في (حديث الأربعاء) هو الذي أثار دهشتي عندما أوقعت على حديثه الذي نسبته إليه الصحيفة اللبنانية، لأن الفارق بين رأيه اليوم في الشاعر ورأيه بالأمس فارق بعيد!

وإذا كان أديبنا الكبير قد بادر فذكر في كلمته أن شيئاً مما نسب إليه لم يحدث أن أفضى به إلى (بيروت المساء)، فإنني أبادر بتوجيه الشكر إليه خالصا من الأعماق، وأشكره مرة أخرى على هذه التحية الكريمة التي تفضل فخصني بها في ثنايا كلمته؛ أما دفاعي عن الشاعر علي طه، فهو دفاع عما أعتقد أنه الحق. . . وليثق الدكتور طه أن له في نفسي مكاناً يستحقه رجل له في حساب الشعور أكرم الذكريات. . .

عبقرية محمد الإنسانية:

تحت هذا العنوان كتبت في عدد (الرسالة الهجري) مقالا خالفت فيه الأستاذ العقاد في طبيعة نظرته إلى شخصية محمد الإنسانية؛ وأعتقد أنني أوضحت جوهر الخلاف إيضاحاً لا يحتاج مني إلى أكثر مما أوردت من تفصيل، كما لا يحتاج من غيري إلى تعقيب. . . ولكن الأستاذ محمد محمود عماد يعقب على ما كتبت في عدد (الرسالة) الماضي بكلمة عجيبة تبعد كل البعد عن الأفق الذي أدرت فيه حديثي عن محمد الإنسان!

إن جوهر الخلاف بيني وبين الأستاذ العقاد هو أنه يزن إنسانية محمد بميزان العظمة النفسية، بينما أزنها أنا بميزان اللحظة النادرة من لحظات (الضعف الإنساني). . . فموقف الرسول من عبد الله بن أبي، أو من هبار بن الأسود، هذا الموقف الذي يعز مثيله على الأقران والنظراء، ينظر إليه العقاد من زاوية تنطيق - كما قلت - على الرجل العظيم، لا على الإنسان العظيم، لأن محمداً في أمثال هذه المواقف - كما يرى العقاد - أكبر من أن يلقى الأمور لقاء الأنداد، وأعذر من أن يلقاها لقاء القضاة!

هل كان الرسول حين شمل عبد الله بن أبي بالصفح والرحمة والمغفرة، ينظر إليه على أنه أهون من أن يعامله معاملة الند للند، أو معاملة النظير للنظير؟ إن هذا المنظار الذي ينظر العقاد من خلاله إلى معدن النفوس وجوهر القلوب، يجعل من الرحمة المحمدية ضربا من التعاظم والكبرياء، وهذا ما ننزه عنه كمال الإنسانية في هذا الإنسان العظيم!

أما تعليق على قول الأستاذ العقاد بأن النبي لا يكون رجلاً عظيماً وكفى، بل لا بد أن يكون إنساناً عظيماً، فلم أقصد من ورائه إلى أن العقاد قد نفى الإنسانية عن محمد قبل أن يكون نبياً كما فهم الأستاذ عماد. . . وإنما قصدت إلى أن اشتراط الإنسانية لنبوة محمد أمر لا داعي لإثباته، لأن محمد كان إنسانا بأدق معاني الكلمة قبل أن يبعث رسولا إلى الناس! ولم يحدث أنني قصرت إنسانية محمد على الرحمة كما يغالط الأستاذ عماد، ولكنني قصرتها على لحظات (الضعف الإنساني). . . وتحت هذه اللحظات يمكن أن تندرج الرحمة وما يماثلها من شتى الفضائل والصفات.

وإذن فلا مبرر لقوله بأن حديث العقاد عن إنسانية محمد كان أشمل وأعم!

تحية الأدب للرسالة:

كتبت مجلة (الأديب) اللبنانية في عددها الأخير ما يلي:

(لاحظنا كما لاحظ معنا كثيرون - والملاحظة تؤلم - غيبة مجلة (الرسالة) عن معرض الكتاب في مدينة اليونسكو في الوقت الذي رأينا فيه عشرات المجلات التي لا ترتفع إلى مكانة (الرسالة) فكرا وقدرا تحتل صدر الجناح المصري، عرضة لأنظار مفكري العالم!. . . حرام أن يغمط حق مجلة قادت ولا تزال تقود الرأي والفكر في العالم العربي ست عشرة سنة؛ بينما يفسح لغيرها ممن لا يعرف لها في التوجيه أو الأدب أي سبيل يذكر! نحن نفهم أن يمنع عرض مجلة (الأديب) في الجناح اللبناني - بينما تعرض الوريقات الصفراء - لأن الأديب كانت وما تزال تقاوم في هذا البلد لرسالتها التوجيهية السامية، وقد عرف هذا البلد (السعيد) بأنه مقبرة لأبنائه المخلصين النابهين. . . ولكن أن يهمل عرض (الرسالة) في الجناح المصري، فهذا موضع دهشتنا!).

هذه اللفتة الكريمة من الزميلة اللبنانية، وهذه التحية الصادقة، تستحقان من أسرة (الرسالة) كل ثناء وتقدير. أما التعقيب على هذا الأمر الذي يثير الدهشة والعجب، فسنفرد له مكاناً خاصاً في العدد المقبل إن شاء الله.

أنور المعداوي