مجلة الرسالة/العدد 814/تعقيبات
مجلة الرسالة/العدد 814/تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
مقدمة (الملك أوديب) لتوفيق الحكيم:
بعد غيبة طويلة يعود توفيق الحكيم إلى قرائه. . . ولست أرمي من وراء هذه الكلمة إلى وضع كتابه الجديد فوق مشرحة النقد، فإن موعدي معه الأسبوع المقبل أو الأسبوع الذي يليه، وإنما أرمي إلى تناول هذه المقدمة بالنقد والتحليل، لأنها تستحق من الناقد أن يخصها بكثير من التأمل والعناية.
كتب توفيق الحكيم هذه المقدمة ليصل من ورائها إلى هدفين: أولهما أن يقدم للقارئ عرضاً موجزاً لنشأة المسرحية في الأدب العربي المعاصر ونشأتها في الأدب اليوناني القديم. . . وليقدم له أيضاً بعض العلل والأسباب التي حالت في رأيه بين الأدبين وبين التزاوج في مجال الأدب التمثيلي، على الرغم من هذا التزاوج الذي حدث بين الفلسفة اليونانية والفكر العربي. هذا هو الهدف الأول، أما الهدف الثاني حول هذا العمل الفني الذي أقامه على دعائم الأسطورة اليونانية عند سوفوكليس؛ أسطورة (أوديب الملك).
ولقد تساءل الأستاذ الحكيم وهو في رحاب الهدف الأول الذي أشرت إليه عن سر إحجام العرب عن ترجمه مآسي شعراء الإغريق مع أنهم نقلوا كتاب الشعر لأر سطو وفيه تعريف بالتراجيديا والكوميديا وما إليهما من فنون الشعر التمثيلي، ومع أنهم نقلوا إلى جانب هذا الكتاب بعض الآثار الأخرى في الفكر اليوناني!. . . هل يكون الإسلام هو الذي حال دون اقتباس هذا الفن الوثني؟
إن الإسلام في رأي الأستاذ الحكيم لم يحل بين الناقلين وبين ترجمة كثير مما أنتج الوثنيون. كما أن الإسلام لم ينكر خمريات أبي نواس، ولا نحت التماثيل في قصور الخلفاء، ولا براعة التصوير في (المنياتور) الفارسي!. . . أهي الصعوبة إذن في فهم هذا اللون من القصص الشعري وكله يدور حول أساطير؟ كلا، فإن كتاب (الجمهورية) لأفلاطون قد حفل بأفكار يدق فهمها على العقلية العربية، ومع ذلك فقد نقل إلى العربية وتناوله الفارابي بالبحث والمراجعة!
بعد هذين الفرضين يرد الأستاذ الحكيم علة الإحجام إلى أن التراجيديا الإغريقية في ذلك الحين لم تكن أدباً مهيأ للقراءة والاطلاع، ولكنها كانت أدباً معداً للتمثيل والمشاهدة. . . ومن هنا لم يجد المترجم العربي حين اطلع عليها كبير نفع ولا غناء، لأن الشروح والملاحظات التي كان يمكن أن تنير له الطريق، لا تتضح إلا أثناء التمثيل أمام جمهور من النظارة، وهذا أمر لم يقدر للعرب أن يروه من قريب أو من بعيد!
وأعقب على هذا كله فأقول: إن المسألة لا تحتاج في رأيي إلى كل هذه الفروض. . . فلو أن الأستاذ الحكيم قد حاول أن يختبر معدن العقلية العربية في ذلك الحين، لوجد أن هذا المعدن كان يستجيب لحرارة التفكير العلمي أكثر مما كان يستجيب لحرارة التفكير الفني؛ ومن طبيعة معدن هذا شأنه أن يسيغ كتاباً لأر سطو وأفلاطون، أكثر مما يسيغ تمثيلية ليوربيد أو سوفوكل!. . .
إن العقليات معادن، والعقلية العربية في عصورها الأولى كانت عقلية جدل ومناقشة، يستهويها ويثير اهتمامها ما يحرك في طبيعتها نزعة الجدل والمناقشة. . . لماذا؟ لأنها كانت تسعى وراء الحقائق، تحاول جاهدة أن تكشف عنها على ضوء من نور العقل وحده دون سواه. . . ومن هنا كان هذا الإغراق في العقليات، الإغراق الذي كاد يستأثر بعناية العرب ويستغرق كل وقتهم وجهدهم وطاقتهم الفكرية. أما التمثلية التي تقوم على الأسطورة، فكان من الطبيعي ألا تستهوي عقلية جبلت على السعي وراء الحقيقة! إنها عقلية تريد أن تناقش وتبحث وتجادل وتقرع الحجة بالحجة وتقيم الدليل على أنقاض الدليل، فأين هذا كله من مجال يقوم العمل الفني فيه على صراع النزعات النفسية والعواطف الإنسانية، وأعني به مجال الأدب التمثيلي عند اليونان؟!
هذا التفسير يمكن أن نجيب به مرة أخرى على الأستاذ الحكيم حين يتساءل في موضع آخر: لماذا لم يوجد التمثيل في الحضارة العربية ولم يعرف؟
لقد أرجع الأستاذ هذا الأمر إلى طبيعة عدم الاستقرار في الوطن العربي إبان عصوره الأولى. . . إن التمثيل في حاجة إلى مسرح، والمسرح في حاجة إلى استقرار، والاستقرار أمر لم تهيئه البيئة للعربي الذي كان يسعى وراء قطرة ماء تلوح له هنا أوهناك!
وإذا كان العرب قد تهيأ لهم في العصرين الأموي والعباسي وما بعدهما أن يحيوا حياة مستقرة، فإن ابتعادهم عن التمثيل كان مرجعه إلى أنهم لا يعدلون بشعرهم العربي شعراً آخر، حتى ولا هذا الشعر اليوناني الذي أقيم على أركانه بناء التمثيلية اليونانية!
وفي موضع ثالث ينتقل الأستاذ الحكيم إلى مقدمة (كرومويل) لفكتور هوجو، وهي المقدمة التي يقسم فيها تاريخ البشرية إلى عهود ثلاثة: العهد الفطري وهو عهد الشعر الغنائي، والعهد القديم وهو عهد الملحمة، والعهد الحديث وهو عهد التمثيلية. . . هذه النظرية التي ينادي هوجو بإمكان تطبيقها على أدب كل أمة من الأمم، يرى الأستاذ الحكيم أنها تصلح للتطبيق على الأدب العربي (إذا ما تغاضينا عن (القوالب) واقتصرنا في بحثنا على (الأغراض)؛ ففي العصر العباسي وحده نجد البحتري قبل المتنبي، والمتنبي قبل أبي العلاء، ولو غرس هؤلاء الشعراء في أرض اليونان، لكان البحتري (صناجة العرب) هو (بندار)، ولكان المتنبي الذي دوي في آذاننا على مدى الأجيال بصليل السيوف هو (هومير)، ولكان أبو العلاء الذي صور لنا التفكير في الإنسان ومصيره والملأ الأعلى هو (إشيل). . . فالتطور إذن من حيث الموضوع قد تم).
يبدو لي أن الأستاذ الحكيم قد نسي أن هوجو يدعونا إلى تطبيق نظريته على أدب كل أمة من الأمم على مدار تاريخها كله، لا على مدار عصر بعينه كما فعل حين قصر التطبيق على العصر العباسي. . . إن هوجو ينسب الشعر الغنائي إلى العهد الفطري، فهل كان البحتري من العهد الفطري؟ وينسب الملحمة إلى العهد القديم، فهل كان المتنبي من العهد القديم؟ وينسب التمثيلية إلى العهد الحديث، فهل كان أبو العلاء من العهد الحديث؟!. . .
أما مسألة (القوالب والأغراض)، فأظن أنه لم يبق لها ما يبررها ما دام التطبيق قد بعد عما يهدف إليه هوجو من وراء نظريته. . .
ثم يقول الأستاذ الحكيم في موضع رابع إن فلاسفة العرب قد صبغوا آثار أفلاطون وأر سطو بلون تفكيرنا وطبعوها بطابع عقائدنا. . . في رأيي أن شيئاً من هذا لم يحدث، إن كل ما فعله فلاسفة العرب هو أنهم نظروا في الفلسفة اليونانية فنقلوا بعض ما فيها من آراء ومذاهب نقلاً يحفل بالخلط والتشويه؛ ذلك لأنهم حاولوا أن يوفقوا بين تعاليم الفلسفة اليونانية وبين تعاليم الدين الإسلامي، فكانت محاولة انتهت بأصحابها إلى الإخفاق، أما الإخفاق فمرجعه إلى بعد الشقة بين العقلية اليونانية والعقلية العربية من جهة، وبين منهج الفلسفة اليونانية ومنهج الديانة الإسلامية من جهة أخرى، ومن هنا كانت الفلسفة الإسلامية خليطاً عجيباً من أفكار مضطربة لا تقترب كثيراً من الدين ولا من الفلسعة، ونظرة متأنية إليها فيها الدليل كل الدليل!
أما الجزء الأخير من مقدمة (أوديب الملك)، وهو الذي عرض فيه الأستاذ الحكيم لمن تناولوا أسطورة سوفوكليس في آثارهم الفنية، من أمثال (بيتس) و (هوفمانستال) و (سان جورج دي بوهلييه) و (جان كوكتو) و (أدريه جيد)، هذا الجزء الأخير يحفل بكثير من اللمحات المشرقة، وكم أود أن يرجع إليه القارئ لأنه يعد في حقيقته مفتاحاً لتلك الأعمال الفنية التي أعقبت (أوديب) سوفوكل، ومنها هذا العمل الناضج الذي قام به توفيق الحكيم.
(قطرات ندى) لراجي الراعي:
كتاب نفيس عثرت عليه في سوق الوراقين، وما أكثر ما يجد المرء في سوق الوراقين من نفائس. . . ولقد عثرت عليه عارياً لا يتشح بغلاف يمكن أن يهديني إلى أسم صاحبه! وحين خلوت إليه أقلب صفحاته بين يدي رأيتني أمام كتاب ممتاز لأديب ممتاز، ولكن من هو هذا الأديب الذي هزني وأين مكانه؟ إنه يعرض في الصفحات الأولى من كتابه لبعض الأماكن في لبنان ولبعض رجال الصحافة والأدب في لبنان، ترى أيكون صاحب (قطرات ندى) هو جبران أو الريحاني أو نعيمه؟ لقد وقع في ظني أن يكون واحداً من هؤلاء الثلاثة، لأنه في رأيي لا يفترق عنهم في سعة أفقه وومضات فكره ووثبات خياله
هذا ما وقع في ظني، ولكنني حين رجعت إلى أحد أصدقائي من الأدباء اللبنانيين أسأله عن الكتاب وصاحبه، تلقيت منه رسالة يبلغني فيها أن صاحب (قطرات الندى) هو راجي الراعي. راجي الراعي؟ كيف يكون في لبنان مثل هذا الأديب الممتاز ثم لا أعرفه ولا يعرفه غيري ولم نسمع به من قبل؟! وإذا كان قد انقطع عن الكتابة فأي شأن من شئون الحياة قد شغله عن الأدب وحال بينه وبين ميدانه؟. . ومرة أخرى تلقيت رسالة من الأديب اللبناني الصديق، تحمل إلي الجواب عما أثرت من أسئلة حول صاحب (قطرات الندى). إن راجي الراعي كما يقول الصديق في رسالته أديب كبير من طراز ميخائيل نعيمه، ولكنه انصرف عن الأدب منذ أمد بعيد حيث شغل بالتفرغ لمهنة المحاماة ومنصب القضاء.
لا أدري كيف يستطيع بعض الأدباء الناضجين من أمثال راجي الراعي أن ينصرفوا عن ميدانهم الأصيل وهو ميدان الأدب!. . . إن (إدوار هريو) سياسي فرنسي له في رحاب السياسة شأن كبير ومكان ممتاز، ولكنه في رحاب الأدب أعظم شأناً وأرفع مكاناً عند الذين يقيمون الميزان لحقيقة هذا السياسي الأديب، ومع ذلك فلم تستطع السياسة أن تشغله عن ميدانه الذي أخرج فيه كتابين من أنفس وأعمق ما ظهر في الأدب الفرنسي المعاصر، وأعني بهما كتابيه عن (بتهوفن) و (مدام ريكامييه)!
هذه تحية أبعث بها إلى راجي الراعي على صفحات الرسالة. . ولعله يلبي دعاء الأدب يوماً فيعود إلى ميدانه، لأن مجاله هنا كما أعتقد وليس هناك! وفي العدد المقبل أقدم بعض كلماته وتحليقاته.
رسالة لطفي السيد إلى الشباب:
لطفي السيد أستاذ الأساتذة في هذا الجيل، وهو واحد من هذه القلة التي تزن القول حين تطلقه، وتزن الرأي حين تنادي به وما أجدر الشباب حين يتحدث هذا الرجل أن ينصتوا إليه، وأن يتدبروا كلماته، وأن يتخذوا من نصائحه وخبرته وتجاربه ما يشحذ هممهم، ويقوي عزائمهم، ويسدد خطاهم، في هذا الطريق الطويل الذي تتجإذبهم فيه عواطف الشباب ونزواته!
يقول لطفي السيد في رسالته التي حملتها (الأهرام) منذ أيام إلى ناشئة البلاد من طلاب الجامعة: إن التعليم الجامعي أساسه حرية الفكر، والتربية الجامعية قوامها حرية العمل، ورسالة الجامعة هي أعداد الطلاب لخدمة وطنهم في جميع نواحي الخدمة العامة من سياسية واجتماعية وفنية. ثم يقول لطفي السيد بعد أن تناول هذه الأهداف بالشرح والتفصيل (هذه هي رسالة الجامعة فيما أعتقد أنه المثل الأعلى للجامعات. فإن يكن انصراف عن الجادة المثلى وميل عن سواء السبيل، فمرجع هذه الحال في تقديري إلى اتصال الأحزاب السياسية بالطلبة وصرفهم عن واجبهم العلمي إلى الاشتغال بالسياسة العملية. أنا لا أكره أن يشتغل الشبان بالسياسة على اعتبار أنها موضوع نظري يدرس وتناقش مذاهبه المختلفة القديم منها والحديث. أما السياسة العملية فقد حذرت الشبان دائماً من الإسلاس لقيادة القائمين بها من الأحزاب والهيئات إذ كنت أرى ولا أفتأ أقول: إن السياسة إذا تدخلت في التعليم أفسدته، ولا علم على الوجه الصحيح إلا إذا تفرغ الطالب له وتجرد عن كل غرض سواه)! هذا هو حديث لطفي السيد إلى الشباب، وأنه لحديث يفضي به الرجل في أبانه. . . إننا ننظر اليوم فنجد بعض طلاب العلم وقد تحولوا إلى طلاب دماء، وبعض عشاق المعرفة وقد انقلبوا إلى عشاق هدم وتدمير، وبعض الإشراق الذي كان يشع من نفوسهم وقد انتهى إلى إحراق! ترى كيف تحول وهج العلم في أذهانهم إلى وهج رصاص في أيديهم حتى لقد أصبحنا نشفق على مستقبل الشباب من أزمتين: أزمة الضمير العلمي وأزمة الضمير الإنساني؟
القول ما قال لطفي السيد، وهو أن السياسة إذا تدخلت في التعليم أفسدته، ولا علم على الوجه الصحيح إلا إذا تفرغ الطالب له وتجرد عن كل غرض سواه!
حول تحية الأديب للرسالة:
وعدت القراء في عدد الأسبوع الماضي أن أتناول بالتعقيب خبر اختفاء (الرسالة) من الجناح المصري في معرض الكتاب الذي قامتهأقأأ
أقامته الحكومة اللبنانية بمدينة اليونسكو، وهو الخبر الذي نشرته زميلتنا (الأديب) اللبنانية وعلقت عليه بما شاء لها الأدب الجم والتقدير الكريم. . . ومرة أخرى اعتذر عن ضيق النطاق مرجئاً التعقيب إلى العدد القادم إن شاء الله.
أنور المعداوي