مجلة الرسالة/العدد 814/مسابقة الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية:
مجلة الرسالة/العدد 814/مسابقة الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية:
(1) النفس عند ابن سينا
للأستاذ كمال دسوقي
إلى هنا أثبت لكم الشيخ الرئيس وجود النفس، ووجودها مفارقة للمجسمية والمادة. ويهمني أن أنبهكم - أيها المتسابقون البواسل - إلى أن ابن سينا هنا في إثبات وجود النفس على غير عادته - أعني أنه في رسالته في النفس التي قلت لكم إنه ألفها ولم يبلغ العشرين للأمير نوح بن منصور الساماني قد نحا النحو الأرسطي في التصدي لإثبات وجود النفس قبل الشروع في تعريفهما وتقسيمها إلى نباتية وحيوانية وناطقة، ثم في تصنيف قوى كل من هذه النفوس، فقد كان في ذلك الحين مقتنعاً اقتناع أر سطو بضرورة إثبات وجودها أولاً. وفي ذلك يقول في مطلع رسالته المذكورة: (من رام وصف شيء من الأشياء قبل أن يتقدم فيثبت أولاً أنسيته (يعني وجوده) فهو معدود عند الحكماء ممن زاغ عن محجة الإيضاح. فواجب علينا أن نتجرد أولاً لإثبات وجود القوى النفسانية قبل الشروع في تحديد كل واحدة منها وإيضاح القول فيه. . . الخ ص20 وما بعدها من نشرة فنديك للرسالة مصر 1325هـ
هذا ما يقول به ابن سينا حين يكتب في النفس كتاباً أو رسالة مستقلة، أما حين يكتب عنها في كتاب عام شامل كالنجاة فيرى أن يتناولها دائماً في موضعها من سلسلة الموجودات التي سبق أن أظهرتكم عليها، ويتحتم حينئذ ألا يعرض لإثبات وجودها إلا بعد أن يقسمها إلى أقسامها الثلاثة حتى ترتبط بما قبلها وما بعدها في سلسلة الموجودات، وهو بذلك لا يزيغ عن محجة الإيضاح - كما حكم على غيره ونفسه - لأنه هنا أكثر منطقية وأكثر تحرراً من أر سطو. وأياً كان موضع إثباته لوجود النفس؛ فإنه يذهب في هذا الإثبات مذهباً واحداً بعينه: هو التدليل على أن الحركة والإدراك - الذين هما من أخص خصائص القوى النفسية - هما من قوى زائدة عن الجسم، مفارقة للبدن (بدليل أن الأجسام لا تشترك كلها فيها) - ثم يتدرج إلى تقسيم النفوس إلى الأنواع الثلاثة المعروفة من الأعم إلى الأخص فتعريف كل منها وتفصيل قواه وملكاته على نحو ما تبين لكم من قبل.
وإذ أثبت وجود النفس، ينتقل إلى إثبات صفات أخرى تتعلق بهذا الموجود، كالوحدة، والحدوث، والخلود، وعدم التناسخ - فبعد تناول الذات يقرر الصفات، كما تفعل في قسم الإلهيات حين يورد البراهين لإثبات واجب الوجود (الله) ثم يتبع ذلك بإثبات صفاته. وأول ما يتناول من هذه الصفات حدوث النفس أي أنها ليست قديمة ولا أزلية، بل مخلوقة وحادثة ولم توجد قبل البدن بحال - لأنها إن وجدت قبل البدن كانت ذاتاً واحدة أو ذوات متعددة. فإن كانت الأنفس كثيرة ومتعددة قبل حلولها في الأبدان لزم عن ذلك محال؛ لأن تغايرها حينئذ كجواهر مجردة ذات صورة واحدة لن يكون من حيث الماهية أو العدد، بل من حيث القابل أو الحامل لها الذي هو البدن - فقد بطل إذن أن تكون مختلفة الذوات. وبمثل ذلك يبطل أن تكون النفس واحدة، لأنها إن كانت كذلك فكيف تنقسم في أجسام كثيرة أو تحل في أبدان عديدة؟ فالنفس إذن تحدث بحدوث البدن وتولد معه تدبر أمره وتديره. وتظل تعني به وتكمله إلى أن تفارقه.
وحين يموت البدن لا تموت النفس، لأن فساده لا يترتب عليه فسادها، فهي ليست متعلقة به أي نحو من التعلق: فلا هي مكافئة له في الوجود، ولا هي متأخرة عنه في الوجود، ولا هي قبله بالذات أو بالزمن كما سبق أن أوضح ذلك. أما علاقة التكافؤ فباطلة، لأن التكافؤ إن كان ذاتياً كان النفس والبدن جوهرين أحدهما مضاف إلى الآخر، وإن كان عرضياً بطل الذاتي منهما بفساد العرضي ولم يفسد مثله. ولن يكون ثمة تكافؤ على أي حال. وأما علاقة التأخر في الوجود بالنسبة إلى النفس فباطلة أيضاً، لأن الجسم حينئذ سيكون علة وجودها، ويمتنع أن يكون البدن علة فاعلة للنفس؛ لأن الجسم في ذاته غير فاعل، وصورة المادية لا تفعل إلا بالقوى الروحية التي فيها، كما يمتنع أن يكون البدن علة قابلة للنفس، لأن النفس ليست منطبعة في البدن، ولا هو مقصور بصورتها في كله أو في جزء جزء منه - كما بين ذلك في حديثه عن تجرد جوهرها - ويمتنع كذلك أن يكون البدن علة صورية أو مكملة للبدن، إذ العكس أدنى إلى الحق، فليست النفس معلولة بالبدن، وبالتالي لا علاقة لها به على أساس التأخر في الوجود. حقاً إن البدن علة بالعرض لوجود النفس؛ لأنه متى وجد محل وجودها ومملكتها أحدثتها العلة الفاعلة الإلهية (العقل الفعال) لتحل فيه، فالمادة سابقة بتهيئها واستعدادها لقبول النفس، ولكن النفس توافيها حالما يتم لها هذا التهيؤ والاستعداد حتى لا تبقي الآلة معطلة. والذي يعنينا هنا أن وجوب حدوث النفس بحدوث الجسم لا يستلزم وجوب فسادها بفساده؛ فهي من جوهر غير جوهره، وواهب هذه الصورة النفسية (العقل الفعال) غير جسمي كذلك: فهو العلة الفاعلة الحقيقية للنفس. وليس تقدم البدن على النفس في الوجود - إن صح - تقدم علة لمعلول بحال.
أما العلاقة الثالثة: تقدم النفس على الجسم في الوجود - فهو إما تقدم زمني - فلا يكون ثمة علاقة - أو تقدم ذاتي فليزم أن يحصل المتأخر كلما حصل المتقدم بحيث إذا انعدم المتأخر فلا بد أن يكون قد حصل للمتقدم في نفسه شيء أعدمه؛ يعني أن فساد البدن يرجع حينئذ إلى فساد في النفس ذاتها ترتب عليه فساد البدن، ولكن فساد البدن وتحلله - كما تعلم - هما من ذاته، فبطل إذن تعلق النفس بالبدن علاقة تقدم زمني أو ذاتي. ويطلب بذلك أنواع العلاقات الثلاث كلها، وثبت أن النفس لا تموت بموت البدن.
بل إن النفس لا تقبل الفساد أصلاً؛ يعني أنها أبدية خالدة وحجته في ذلك قوية رائعة، فالشيء الذي يقبل الفساد فيه البقاء بالفعل والفساد بالقوة ولا يجوز أن يجتمع هذان المعينان في الأشياء البسيطة المفارقة وبالجملة في أي شيء ذاته واحدة. فإن عرضاً لشيء فلا بد أن تكون ذاته مركبة من شيء إذا حصل كان باقياً بالفعل. وإذا امتنع كان فاسداً بالفعل (ولكي تصلوا إلى فهم ابن سينا هنا اذكروا ما درس لكم من أن أساس الملكة والعدم في المنطق الواحد. وابن سينا يعترض هنا على جعل أساس للملكة وأساس للعدم - أي للبقاء والفساد - هذا بالفعل وذلك بالقوة. وما دامت النفس بسيطة غير منقسمة أو مركبة، وباقية بالفعل؛ فهي لا تفسد، وليس لها قوة فساد. أما الذي يفسد فهو المادة المركبة التي لها قوة أن تقبل البقاء وتقبل الفساد.
والنفوس لا تتقمص ولا تتناسخ. فقد أوضح من قبل أن حدوث النفس إنما يكون نتيجة تهيؤ الأبدان لقبولها، هذا التهيؤ يقتضي وجود النفس أصلاً كعلة مفارقة جديدة لا متنقلة من بدن أخر - ولو كانت النفوس تتناسخ الأبدان واحداً بعد آخر لكان حلولها فيها من قبيل الصدفة العرضية البحت. ولكان التكثر في هذه النفوس يحدث من قبيل الاتفاق والبخت (فارسي معرب يراد به المصادفة بالفرنسية أو بالإنجليزية). بينما إثبات حدوث النفس بالطريقة التي تقدم ابن سينا يجعل علة طول الأجسام في الأبدان بعد تمام تهيئها في الإنجليزية والفرنسية هي ما نقصد هنا بالتهيؤ) علة ذاتية ضرورية لا مجال فيها للصدفة أو الاتفاق العرضي. ثم أن النفس التي تتناسخ جسماً تكون زائدة فيه عن نفسه التي وافته بعد تمام استعداده على النحو الذي ذكرنا - فيكون للجسم نفسان: أحدهما قطعاً لا شغل لها ولا عمل - ولا يشعر بها الجسم ولا تشعر هي بذاتها (لأن كل ذي نفس فهو وهذه النفس شيء واحد) فما عمل هذه النفس الثانية وما قيمتها (إذ أن علاقة النفس بالجسم - كما سبق أن بين - هي علاقة اشتغال وتدبير لا مجرد انطباع وحلول) - فضلاً عن أنه ليس جسم أولي من جسم بأن يكون لهذا نفسان، ولذلك نفس واحدة. فالتناسخ باطل وخلف.
والنفس - رغم كل هذه التعريفات والتقسيمات - ذات واحدة؛ واحدة وإن تعددت القوى وتشعبت الملكات. لأن هذه الملكات والقوى لو لم تكن تؤدي إلى مبدأ واحد لصدر عن كل منها أفعال مختلفة الأجناس. فمثلاً قوتا الإحساس والغضب لو كانتا شيئاً واحداً لكان منهما قوة واحدة يصدر عنها الإحساس والاستجابة بالغضب - مع اختلاف جنسهما كفعلين، وإن كانتا قوتين مستقلتين لكان يستحيل فعل أحدهما باستحالة فعل الآخر. ولما كان فعل كل قوة خاص بالشيء الذي هو قابل له ولا يصلح لغيره، وكانت هذه التأثيرات يرد بعضها لبعض، ويستجيب بعضها لبعض؛ لم يبق إلا أنها تؤدي جميعاً إلى مبدأ واحد.
ويتجرد ابن سينا بعد ذلك لرد شبهات على وحدة النفس، ويأتي في هذا الصدد بحجة يسبق بها الفلاسفة المحدثين في إثبات وجود النفس هي الحجة المعروفة بالأنا ومؤدي هذه الشبهة أن الانفعال بالغضب - في المثال السابق - ليس عن الصورة المحسوسة، وإن يكن نتيجة للحس، وابن سينا يصر على بطلان هذه الشبهة. ويؤكد حدوث الانفعال بالغضب عن تأثير الحس ما دام الإنسان حاساً. ويعمد بعد هذا تحليل قولنا: أنا أحس، فيرى أن هذا (الأنا) إما جسم الإنسان أو نفسه؛ فإن كان جسمه فهو إما جملة أعضائه - وهو محال، وإما بعض أعضائه - فيكون أحدها أحس والآخر غضب - وقد ظهر بطلان ذاك من قبل، وإما عضو واحد أحس فغضب - وهو مردود أيضاً أن أردنا العضو بمعناه الحقيقي - فإن كان ولا بد أن الحاس والغاضب شيء واحد، فهو هذه القوة التي قلنا إن الملكات ترتد كلها إليها - القوة الواحدة التي ليست جسماً ولا في جسم، بل هي النفس.
فأنتم هنا بصدد سبق فلسفي رائع أتى به ابن سينا قبل أن يقول به ديكارت بقرون، وأعني به إثبات وجود الذات بالتجربة الداخلية والتأمل الباطني؛ فالشك يدل على الشاك، والفكر على المفكر، والحس على الحاس، وهو ما نسميه اليوم بالكوجيتو الديكارني (نسبة لعبارته المشهورة: أنا أفكر، فأنا إذن موجود , والفعل (يفكر) هو في اللاتينية التي كتب بها ديكارت وهو سر هذه التسمية). وابن سينا مدرك ما في هذا البرهان من جدة وطرافة، وهو يعلق عليه بقوله: فهذا برهان عظيم يفتح لنا باب الغيب. . . فمن تحقق عنده هذا البرهان وتصوره في نفسه تصوراً حقيقياً فقد أدرك ما غاب عن غيره؛ بمعنى أنه يستطيع أن يستبطن نفسه بحق. واستبطان المرء ذاته، والدخول في نفسه دون حواسه - التي يجب أن تكون مغلقة تماماً - ليس في مقدور كل شخص ولا في كل حين. . . الخ) كما يوضح هذا البرهان بقوله: والإنسان إذا كان متهماً في أمر من الأمور فإنه يستحضر ذاته حتى إنه يقول (إني فعلت كذا أو فعلت كذا) وفي مثل هذه الحال يكون غافلاً عن جميع أجزاء بدنه. . . فالمراد بالنفس هنا هو ما يشير إليه كل أحد بقوله (أنا). وليس المقصود بهذه الذاتية - كما ظن أكثر المتكلمين - الإشارة إلى البدن، فهذا ظن فاسد. (راجعوا رسالته في معرفة النفس الناطقة وأحوالها لأبن سينا، صفحات 6، 7، 8، 9).
وكان ابن سينا يريد أن يخالف أفلاطون في موضوع هذا المبدأ النفسي الواحد - فيجعله في القلب، ولكنه لم يلبث أن شكك في صحة ذلك لما رأى من مفارقة قوى النفس النباتية والحيوانية والناطقة وتدرجها في النبات والحيوان والإنسان بحيث لا تتعلق قوة منها بأخرى، وعاد ففسر هذا التباين في مظاهر الحياة التي تتمثل في كل من هذه النفوس بأن التضاد في مبادئ ما تحل فيه كل منها بالترتيب يزول شيئاً فشيئاً، وأنه كلما كان هذا التضاد بين هذه المبادئ أدعى إلى التوافق والانسجام كانت النفس أكثر قبولاً لمبدأ نفسي أرقى. يعني أن العقل الفعال يهب الإنسان نفساً ناطقة أرقى: لأن عناصر تركيبه أكثر توافقاً وانسجاماً على نحو ما تفيض الشمس على شيء بمجرد التسخين، وعلى آخر مجرد الإضاءة، وعلى ثالث بالاحتراق تبعاً لمادة كل من هذه الأشياء.
كذلك العقل الفعال مبدأ الفيض وواهب الوجود والصور به تخرج الأشياء من القوة إلى الفعل، كما تستفاد الصور المعقولة فهو بذاته عقل بالفعل، وما عداه من العقول التي ذكرنا فهي منفعلة به هو لذي تسيح منه قوة إلى أشياء الخيال والوهم والحس التي هي معقولة بالقوة لتصير معقولة بالفعل.
وبعد - فهل بقي شيء في النفس عند ابن سينا لم تعرفه أيها الطالب النجيب؟ هناك قصص رمزية كرسالة الطير وقصة سلامان وأبسال وغيرهما - وهناك قصائد وأشعار في النفس أهمها عينته المشهورة التي شرحها المناوي وغيره - وترجمها إلى الفرنسية وشرحها البارون كارادي فو (المجلة الأسيوية. يوليو وأغسطس 1899ص 160 وما بعدها) - ولكن هذه كلها لا تعنيك لما فيها من صوفية وخيال. وحسبك أن وقفت حتى الآن على كل شاردة من مذهب ابن سينا الفلسفي في النفس.
كمال دسوقي