مجلة الرسالة/العدد 816/القوة الحربية لمصر والشام في عصر الحروب
مجلة الرسالة/العدد 816/القوة الحربية لمصر والشام في عصر الحروب
الصليبية
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
- 3 -
وكان للجيش ديوان من الناحية الإدارية والمالية. وكان الجندي في ذلك الحين موسعاً عليه الرزق، بل كان الخير يغدق عليه أحياناً من ناحية المتنافسين على تولي زمام السلطان، فعندما وزر شاور مثلا زاد الأجناد على ما كان لهم عشر مرات
وفي العصر الفاطمي كان الجنود يتقاضون مرتباتهم نقودا، ً ويظهر أنهم ما كانوا يأخذون مرتباتهم شهرياً، وإنما كان يعطي لهم في العام مرة، وأن هذه المرتبات تبلغ ثلث خراج الدولة، يفهم ذلك من قول المقريزي في خططه. وكانت العادة إذا مضى من السنة الخراجية أربعة أشهر ندب من الجند من فيه حماسة وشدة، ومن الكتاب العدول، وكاتب نصراني، فيخرجون إلى سائر الأعمال لاستخراج ثلث الخراج على ما تشهد به المكلفات المذكورة، فينفق في الأجناد، فإنه لم يكن حينئذ للأجناد إقطاعات.
ولكن نور الدين محموداً بالشام فضل أن يعطي جنده إقطاعات ينالون منها أجورهم. وكان الجندي إذا مات أعطي إقطاعه لولده فإن كان صغيراً رتب معه من يلي أمره حتى يكبر؛ فكان أجناده يقولون: الإقطاعيات أملاكنا، يرثها أولادنا الولد عن الوالد فنحن نقاتل عليها؛ وسارت الدولة الأيوبية والمملوكية على هذا النظام فكانت تمنح الأمير وأجناده الإقطاع، على أن يكون للأمير الثلث ولأجناده الثلثان، فلا يمكن الأمير ولا مباشروه أن يشاركوه أحداً من الأجناد فيما يخصهم ألا برضاهم , وكان الأمير لا يخرج أحداً من أجناده حتى يتبين للنائب موجب يقتضي إخراجه. فحينئذ يخرجه نائب السلطان، ويقيم الأمير عوضه وكانت إقطاعات جند الأمراء على ما يراه من زيادة بينهم ونقص، ومن مات من الأمراء والجند قبل استكمال مدة الخدمة حوسب ورثته على حكم الاستحقاق، فإما أن يرتجع منهم، وإما أن يطلق لهم على قدر حصول العناية بهم. وإقطاعيات الأمراء والجند، منها ما هو بلاد يستغلها مقطعها كيف شاء، ومنها ما هو نقد على جهات يتناولها منها. وكان لج الأمراء على السلطان الرواتب الجارية في كل يوم من اللحم وتوابله كلها والخبز والشعير للخيل والزيت؛ ولبعضهم الشمع والسكر والكسوة في كل سنة، وكذلك لجميع مماليك السلطان وذوي الوظائف من الجند. ولكل أمير من الخواص على السلطان مرتب من السكر والحلوى في شهر رمضان، ولسائرهم الأضحية في عيد الأضحى على مقادير رتبهم، وكانت الخيول السلطانية تفرق على الأمراء مرتين في كل سنة.
وفي الحملات الحربية الكبرى كان بعضها السلاطين يلجأ إلى فرض ضرائب جديدة على الشعب المصري كما حدث في عهد قطز فإنه عند ما أزمع حرب التتار أخذ من أهل مصر والقاهرة على كل رأس من الناس من ذكر وأنثى ديناراً واحداً، وأخذ من أجرة الأملاك والأوقاف شهراً واحداً وأخذ من الأغنياء الناس والتجار زكاة أموالهم معجلا، وأخذ من الترك الأهلية الثلث من المال وأخذ على الغيطان والسواقي أجرة شهر، فيبلغ جملة ما جمعه من الأموال في هذه الحركة ستمائة ألف دينار. وبهذه الأموال جند جيشاً هزم التتار لأول مرة تاريخ حياة التتار.
والقارئ لوصف المجلس الاستشاري الذي عقده قطز من علية القوم لفرض ضرائب جديدة للجيش يرى ما كان عليه هذا الجيش من سعة في الحياة. والحق أن سلاطين ذلك الحين لم يضنوا على جيوشهم، لعلمهم بأنهم الساعد والعضد في الدفاع عن أرض الوطن. ولم يكن الجند يخرجون إلى قتال إلا وهم مغمورون بالرزق والعطاء. أنفق الأشرف خليل ابن قلاوون في سني حكمه الثلاث نفقات: الأولى في أول جلوسه في السلطنة، والثانية عند توجهه إلى عكا، والثالثة عند توجهه إلى قلعة الروم.
وكما عني الفاطميون بإنشاء جيش يرى لجب يحفظ ملكهم، ويصون إمبراطوريتهم، لم يغفلوا عن أن بلادهم - ولها شواطئ مترامية الأطراف على بحرين عظيمين الأبيض والأحمر - تحتاج إلى أسطول ضخم يصون الحمى ويحمي الذمار، فأنشأ المعز لدين الله قوة بحرية مكونة من أكثر من ستمائة قطعة، وقد أعانته تلك القوة وأعانت خلفاءه على تثبيت سلطانهم وحفظ هيبتهم.
ولكي ينال الأسطول ما يستحقه من الرعاية أنشأت الدولة له ديواناً خاصاً يقال له ديوان العمائر، يعني به من الناحية الإدارية والمالية.
وزاد عدد جنده على خمسة آلاف مقاتل، لهم عشرة قواد بعين منهم واحد رئيس الأسطول، فإذا ساروا إلى الغزو وكان هو الذي يقلع بهم، وبه يقتدي الجميع، فيرسون بإرسائه ويقلعون بإقلاعه. وعلى الأسطول مقدم يكون أميراً كبيراً من أعيان أمراء الدولة وأقوالهم نفساً وللجند عشرون عريفاً يسمون النقباء هم الذين يفرقونهم ويجمعونهم إذا كان غزو.
ولقواد الأسطول مرتبات يصل أعلاها إلى عشرين ديناراً في الشهر، وبعضهم يأخذ خمسة عشر ديناراً، أو عشرة دنانير أو ثمانية أو دينارين، وذلك أقل مرتباتهم. وللجند الأجور والجرايات مدة سفرهم لكل واحد خمسة دنانير، أما بعد عودتهم فإنهم ينالون رزقهم بكدهم، ويكونون على استعداد للغزو إذا طلبهم العريف له.
وتتفق الدولة على الأسطول من إقطاعات خصصت به تعرف بأبواب الغزاة وفيها ما يرد إلى الخزانة من ثمن المطرون الذي احتكرته الحكومة.
فإذا أراد الأسطول الغزو جمع النقباء له الرجال من غير أن يكرهوا أحداً على السفر، ثم يعين الخليفة يوماًُ للنفقة يجلس فيه ومعه الوزير، كما يحضر صاحباً ديوان الجيش وهما المستوفي والكاتب وللمجلس أنطاع تصب عليها الدراهم ويحضر لذلك الوزانون لبيت المال فإذا تهيأ الانفاق أدخل الغزاة مائة مائة، وتكون أسمائهم قد رتبت في أوراق لاستدعائهم بين يدي الخليفة، فيستدعي مستوفي الجيش من تلك الأوراق واحداً واحداً فإذا كمل عددهم عشرة وزن الوزانون لهم: لكل واحد خمسة دنانير، ويستمر ذلك مدة أيام متوالية مرة ومتفرقة مرة، فإذا تكاملت النفقة وتهيأت السفن للسفر خرج الخليفة والوزير إلى ساحة النيل بالمقس خارج القاهرة، وكان هناك منظرة يجلس فيها الخليفة لوداع الأسطول ولقائه إذا عاد، فإذا جلس للوداع جاءت القواد بالمراكب من مصر إلى هناك، للقيام بمناورة بين يدي الخليفة وهي مستكملة عددها وأسلحتها وما فيها من المنجنيقات، فيرمي بها، وتنحدر المراكب وتقلع وتفعل سائر ما تفعله عند لقاء العدو، ثم يحضر المقدم والرئيس بين يدي الخليفة فيودعهما ويدعو للجماعة بالنصر والسلامة. ويعطي للمقدم مائة دينار وللرئيس عشرين دينار. وينحدر الأسطول إلى دمياط ومن هناك يخرج إلى البحر الأبيض للغزو والجهاد؛ فإذا أدى واجبه عاد وخرج الخليفة أيضاً للقائه. ومن ذلك يبدو مقدار اهتمام الخليفة بالقوة البحرية ومدى عنايته بأمرها. وكانت العادة أن ما غنمه الأسطول من المال والثياب ونحوهما يكون لغزاة الأسطول لا يشاركهم فيه أحد وليس للخليفة سوى الأسرى والسلاح.
ولم يزل أمر الأسطول معيناً به طول عصر الدولة الفاطمية؛ وإن كانت عدد سفنه قد قلت في عهد الحروب الصليبية، ولكنها لم تنقص عن قطعة في آخر عهد الدولة الفاطمية. فلما دخل الفرنج أرض مصر في عهد شاور خاف أن يقع الأسطول الفاطمي في يد ملكهم مري، فأحرق جزءاً كبيراًُ منه ونهبه العبيد فيما نهبوا، وهكذا فقدت مصر جزءاً كبيراً من قوتها البحرية بسبب هذا العراك الذميم على السيطرة والسلطان بين وزراء ذلك الزمان.
فلما جاء صلاح الدين رأى واجباً عليه لكي يتم رسالته أن يعني بأمر الأسطول به أساطيل الصليبية؛ ففي سنة 572 وهو مقيم بالإسكندرية رأى الأسطول وقد أخلقت سفنه وتغيرت آلاته فأمر بتعميره، وجمع له من الأخشاب شيئاً كثيراً ومن الصناع عدداً جماً حتى إذا تم صنع المراكب أمر فحمل إليها ما هي في حاجة إليه من السلاح والعدد وشحنه بالرجال، وولى فيه أحد أصحابه، وخصص له إقطاعاً خاصاً، وموارد ثابتة يجني منها مقدار ضخم ينفق عليه، وزاد في دينار الأسطول، فجعله يساوي نصف دينار وربعه بعد أن كان يساوي نصف دينار وثمنه، وأفراد للأسطول ديواناً خاصاً سلمه إلى أخيه الملك العادل، وأعطى صلاح الدين صاحب الأسطول سلطة كبرى في تخير رجاله وإعداد سلاحه فكتب إلى سائر البلاد يقول: القول قول صاحب الأسطول وألا يمنع من أخذ رجاله وما يحتاج إليه واشتهر من قواد البحر في عهد صلاح الدين القائد العظيم لؤلؤ. وبلغت عدة الأسطول سنة 575 ستين شينياً وعشرين طريدة ولابد أن يكون عدد قطع الأسطول قد زاد بعدئذ فإن صلاح الدين ما كان يضن هذه القوة البحرية بمال.
واستمرت العناية بأمر الأسطول قليلا بعد وفاة صلاح الدين ثم قل الاهتمام به صار لا يفكر إلا عند الحاجة إليه فإذا دعت الضرورة طلب له الرجال، وقبض عليهم من الطرقات وقيدوا في السلاسل نهاراً وسجنوا في الليل حتى لا يهربوا ولا يعطون إلا قليلا من الخبز ونحوه، وربما أقاموا الأيام بغير شيء كما يفعل بالأسرى من العدو فصارت خدمة الأسطول عاراً يسب به الرجال وإذا قيل لرجل في مصر يا أسطولي غضب غضباً شديداً بعد أن كان خدام الأسطول يقال لهم المجاهدون في سبيل الله والغزاة لأعداء الله، ويتبرك الناس بدعائهم.
ثم عادت العناية بأمره في عهد الصالح أيوب، وكان له أكبر الأثر في معركة المنصورة كما رأينا، وأهمل أمره بعد ذلك حتى أيام بيرس فاستدعى رجال الأسطول وأمر بصنع السفن وقطع الأخشاب لعمارتها، وكان يشرف على صنعها بنفسه ويجلس بين الأخشاب والعمال ويقتدي به الأمراء فيحملون بأنفسهم آلات الشواني ويساعدون في صنعها وبني أكثر من أربعين سفينة وعدة كثيرة من الحراريق والطرائد وذلك في شوال سنة669 ولما حطم هذا الأسطول عند قبرص أعيد بناء غيره وخرج بيرس لاستعراضه كما كان يركب مع الخليفة لمشاهدة مناوراته الحربية في النيل. وفي تقليد الخليفة لبيبرس يوصيه بالعناية بأمر الأسطول ويقول له: وكذلك أمر الأسطول الذي تزجى خيله كالأهلة وركائبه، سابقة بغير سائق مستقلة، وهو أخو الجيش السليماني، فإن ذاك غدت الرياح له حامله، وهكذا تكلفت بحمله المياه السائلة، وإذا لحظها جارية في البحر كانت كالأعلام وإذا شبهها قال هذه ليل تقلع بالأيام وهذا التشبيه يدل على أنها كانت تطلى باللون الأسود. فلما كان عهد قلاوون رأينا في الحملة التي وجهها إلى بلاد النوبة سنة 688 خمسمائة مركب، ما بين حراريق وغيرها.
وفي عهد خليل بن قلاوون زادت العناية بأمر الأسطول حتى كملت عدة الشواني نحو ستين شونة ملأها بالعدد وآلات الحرب. وعزم السلطان على الخروج لمشاهدته، فأقبل الناس من كل صوب يريدون أن يشهدوا تلك القوة البحرية الضخمة، واستعدوا لذلك قبل مقدم السلطان بثلاثة أيام، وصنعوا لهم أخصاصاً على شاطئ النيل وأكثروا الساحات التي قدام الدور بحيث لم يبق بيت بالقاهرة ومصر إلا خرج أهله أو بعضهم لرؤية ذلك ولما حضر السلطان برزت الشواني واحدة بعد واحدة، وقد عمل في كل شونة برج وقلعة تحاصر، والقتال عليها ملح، والنفط يرمي عليها وعدة من النقابين يعمل الحيلة في النقب، وما منهم إلا من أظهر في شونته عملاً معجباً وصناعة غريبة يفوق بها على صاحبه، ثم عاد السلطان وأقام الناس بقية يومهم وتلك الليلة على ما هم عليه من اللهو في اجتماعهم وكان شيئاً يجل وصفه، وأتفق فيه مال لا يعد بحيث بلغت أجرة المركب ستمائة درهم ولما بلغ خبر الشواني إلى بلاد الفرنجة بعثوا رسلهم بالهدايا يطلبون الصلح، وأقيمت مثل هذه المناورة وهذا الاحتفال سنة702 في عهد الناصر محمد ابن قلاوون.
(يتبع)
أحمد أحمد بدوي