مجلة الرسالة/العدد 817/الغزي الشاعر

مجلة الرسالة/العدد 817/الغزي الشاعر

ملاحظات: بتاريخ: 28 - 02 - 1949



لصاحب العزة الدكتور عبد الوهاب عزام بك

هو شاعر من كبار شعراء العرب عاش في القرنين الخامس والسادس بعد الهجرة ورحل إلى الشرق فأمضى معظم عمره في الأسفار. ونشر شعره بالعراق وخراسان. وكان أحد شعراء العربية الثلاثة الذين عرفتهم بلاد العجم في القرنين الخامس والسادس. وثانيهم أبو المظفر الأبيوردى الأموي شاعر العربية في القرن الخامس، والثالث الأرجاني الذي عاش من سنة 460 إلى سنة 544

ولد الغزي في غزة هاشم سنة إحدى وأربعين وأربعمائة. وفارق وطنه في سن الأربعين فدخل دمشق ورحل إلى بغداد وأقام في المدرسة النظامية سنين كثيرة. ومدح ورثي كثيراً من المدرسين بها. . . ثم رحل إلى خراسان ومات بها في طريقه من مرو إلى بلخ سنة 523. ونقل إلى بلخفدفن بها.

وقد تحدث المؤرخون عن كثرة أسفاره فقال ياقوت في معجم البلدان: سافر الدنيا. وقال صاحب الخريدة: جاب البلاد وتغرب وأكثر النقل والحركات، وتغلغل في أقطار خراسان وكرمان.

وقد ذكر هو أسفاره في مواضع من شعره. يقول:

كم بلدة فارقتها فوجدت في ... أخرى مُراداً مكثباً وَمرادا

وتركتها ربداء كالظلم التي ... يلبسن من فقد البدور، حدادا

إن كنت سرت عن العراق مؤنبا ... جيا فلست بشاكر بغدادا

فمتى أضام وهمتي فوق السها ... أو يستطيع لي الزمان عنادا

ويقول:

كم لبسنا أضفي السوابغ ذيلا ... وطرقنا أحمي القبائل جارا

فخلونا بالعامرية والخيل صـ ... يام والحي ما شب نارا

وانكفأنا والفجر يعطس والريـ ... ح تعفي بذيلها الآثار

وشهدنا الوغى وقد رتق النقـ ... ع فتوق الآفاق والأمصارا

ولقينا الملوك عربا وعجما ... وحصلنا على الجزيل م وسهونا عن قص أجنحة العمـ ... ر بما يصلح المعاد فطارا

وكأنه في هذه الأبيات يجمل سيرته، ويذكر خلاصة ماضيها وتجاربه.

ويقول في أبيات أخرى.

وطامعة ترى الخرِّيت فيها ... كأمي تناوله كتابا

لبست قتامها وخرجت منها ... خروج مهند سلب القرابا

بسير يحرق النار اشتعالا ... وعزم يسبق الماء انصبابا

ولما قل منتقدٌ وأمت ... بغاثة كل منتحل عقابا

وأصبح منسم الدنيا سناما ... وخر الرأس وارتفع الذنابى

شمخت بأنف فضلى عن مرام ... يضم أُسود بيشة والذئابا

وكم أرسلت من مثل شرود ... سري في ظهر قافية وغابا

مدح الغزي كثيراً من أمراء المشرق وملوكه، كبني نظام الملك، والسلطان سنجر بن ملكشاه.

وفي شعر الغزي، كالابيوري والأرجاني - وهم عرب خلص عاشوا في إيران وما يتصل بها في ذلك العصر وقد حيت اللغة الفارسية وازدهرت آدابها - في هذا الشعر مجال واسع لتأريخ الأدب العربي وقياسه بالآداب الأعجمية التي نشأت في حضانته وتحت سلطانه، وبيان مكانته في تلك الأقطار.

وفيه كذلك إبانة عن نزعات شعراء العرب في الأقطار الأعجمية واعتدادهم بأصولهم وتشوقهم إلى أوطانهم.

وقد سبق أبو الطيب المتنبي إلى الحنين إلى الشام، وافتقاده بني قومه حينما رحل إلى فارس أشهراً قليلة مدح فيها ابن العميد وعضد الدولة فقال:

أحب حمصا إلى خناصرة ... وكل نفس تحب محياها

وذكر مواطن لهوه في تلك الأصقاع. وقال أيضاً في وصف شعب بوان:

ولكن الفتى العربي فيها ... غريب الوجه واليد واللسان

ملاعب جنة لو سار فيها ... سليمان لسار بترجمان

وافتقد ما ألف في دمشق من ضيافة فقال: ولو كانت دمشق تني عناني ... ليبق الثرد صيني الجفان

وأما الأبيوردي الشاعر الأموي فكان لسان العرب في القرن الخامس. أشاد بمجدهم وتمدح بأخلاقهم وحن إلى أوطانهم وهو لم ينشأ بها، ولم يعش فيها إلا قليلا في العراق، حتى سمى قسماً من ديوانه النجديات.

وهذا أبو اسحق الغزي تعاوده ذكر غزة وباديتها، وبلاد العرب، فيعرب عن شوقه وحنينه.

وكما أشاد أبو الطيب بالبداوة حين قال:

ما أوجه الحضر المستحسنات به ... كأوجه البدويات الرعابيب

حسن الحضارة مجلوب بتطرية ... وفي البداوة حسن غير مجلوب

ابن المعيز من الآرام ناظرة ... وغير ناظرة في الحسن والطيب

أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها ... مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب

أولع الأبيوردي ببوادي العرب وكرر ذكرها والإشادة بالعيش فيها.

ومن قوله في هذا:

ويعجبني نفح العرار وربما ... شمخت بعرنيني وقد فاح عنبر

ويخدش عمدي بالحمى صفحتا الثرى ... إذا جر من أذياله المتحضر

وما العيش إلا الضب يحرشه الفتى ... وورد بمستن اليرابيع أكدر

بحيث يلف المرء إطناب بيته ... على العز والكوم المراسيل تنحر

ويغشى ذراه حين يأتم للقرى ... ويسري إليه الطارق المتنور

يفخر في هذه الأبيات بالبداوة، ويشيد بما يعبر به الأعراب من أكل الضباب فيقول:

وما العيش إلا الضب يحرشه الفتى ... في هذه البادية العزيزة الكريمة

حيث تستحكم الشجاعة والسخاء. وكذلك الغزي يحن إلى البادية بين الحين والحين. ويذكر قبائل العرب ويمدحها ولكنه أقل من الأبيوردي حماسة وحنيناً؛

يقول:

أين أيامنا بغزة والعيش ... نضير واللهو رحب المجال

ومزايا حسن البوادي بَواد ... بهلال في حلة من هلال

أي بإنسان كالهلال حسناً في حلة من بني هلال.

ويقول في تفضيل البدو على الحضر.

وغضة العين يحمي حسنها خفر ... ولا خفير فعين الحسن كالخفر

سجية في البوادي لا أخل بها ... والبدو أحسن أخلاقا من الحضر

قوم كأن ظهور الخيل تثنيهم ... وما سمعت بأنبات بلا مطر

لا يجسر الطيف يجري في منازلهم ... مهابة خيمت في مطرح الفكر

لما رضوا بشفار البيض معتصما ... عزوا فما احتاج جانيهم إلى وزر

ويقول:

وأبرح ما يكون هوى البوادي ... إذا رفعوا على العيس القبابا

تسير بكل جارحة حتما ... أسود يتخذن السمر غابا

ثم الغزي بعد وقور في شعره حكيم، يصوغ الحكم والمواعظ، ويضرب أمثالا من تجارب وما لقي من غير الزمان. وهو في هذا الفن يبلغ درجة عالية يمتاز فيها. وهو مهما يفتن في ضروب الشعر لا يستطيع إخفاء نزعته إلى الزهد، وابتئاسه بأحداث الدهر، وقد عاش الرجل أكثر من ثمانين عاماً، وطرف في البلاد كثيراً فرأى وسمع وجرب ملء الأزمنة التي عاش فيها والأمكنة التي أقام بها.

أنظر إلى قوله:

لا تعجبن لمن يهوى ويصعد في ... دنياه فالخلق في أرجوحة القدر

وقوله:

ما الدهر إلا ساعتان: تعجب ... مما مضى، وتفكر فيما بقي

ولكل شيء مدة فإذا انقضت ... ألفيته وكأنه لم يخلق

والمرء أتعب ما يكون إذا ابتغى ... سعة المعيشة في الزمان الضيق

وهنا يظهر الفرق بين الغزي القنوع والأبيوردي الذي لاتسع الدنيا همه ومطلبه.

ويقول الغزي.

هلا نكرت شبابي وهو أغربه ... للبين معربةٌ عن غربة السفر

ليت البياض الذي زال السواد به ... أبقى لنا منه في القلب والبصر

قد ضقت ذرعاً بعيش لا يسوغ ولا ... تمجه النفس حتى عيل مصطبري فلست حياً، ولا ميتا، ولا دنفا ... ولا صحيحاً، جميع الداء في الكبر

الغزي جدير بعناية أدباء العربية لبلاغة شعره وما فيه من معان قيمة وحكم عالية، ثم لما في سيرته من تبصرة بأحوال البلاد الإسلامية في ذلك العصر، وأحوال الأدب العربي في بلاد العرب والعجم. وديوانه جدير بالتصحيح والنشر. وقد أدرج كثير من شعره غلطاً في ديوان الأبيوردي. ولابد من نشر الديوانين قضاء لحق الشاعر بن، بالعناية بشعرهما وسيرتهما.

عبد الوهاب عزام