مجلة الرسالة/العدد 817/حول الفكر العربي

مجلة الرسالة/العدد 817/حول الفكر العربي

ملاحظات: بتاريخ: 28 - 02 - 1949



الغرض من دراسة الفكر العربي

للأستاذ عبد العزيز محمد الزكي

- 1 -

في الوقت الحاضر تبذل الدول العربية قصارى جهدها لتحظى بمكانة دولية مهيبة تساعدها على نيل مآربها السياسية والاستقلالية إلا أن الوصول إلى مثل هذه الغاية يحول دونه عقبات، من بينها عقبة ضعف الشخصية العربية وضآلتها، ثم عقبة جهل العرب بمقوماتهم العقلية الممتازة.

ويرجع ضعف الشخصية العربية إلى تهاون العرب في التمسك بأخلاق القرآن، وتفريطهم في إعطاء التعاليم الإسلامية صبغة عملية يظهر أثرها النافع في الحياة الخاصة والعامة، بينما يعود جهل العرب بمقوماتهم العقلية الراقية إلى أن الشعوب العربية لم تكلف نفسها مشقة الكشف عن كنه ميولها الفكرية، أو تهتم بشحذها حتى تنضج، أو تعتني بكشف الميادين التي تقدر أن تخوضها وتتفوق فيها، حتى تستطيع أن تدخل غمار النضال العالمي مزودة بأسلحة أخلاقية سامية وواقعية في نفس الوقت، وتنم عن شخصية قوية لها صفات مميزة، وممونة بمعدات عقلية تستعين بها في إثبات وجودها ككائن حي فعال في الحياة الدولية يختص بأداء عمل معين لا يضارعه فيه كائن آخر من الكائنات الدولية؛ فيحقق ذلك كله للعرب ما تصبو إليه نفوسهم من رقي، ويحتلون مكانة دولية تجبر المستعمر على احترام حقوقهم المسلوبة. أما من ناحية ضعف الشخصية العربية فإنها لن تتقوى ما لم تمهد السبل لبعث التعاليم الإسلامية في صورة حية واقعية، تطلقها من سجن أروقة المساجد وحجرات الدراسة، وتدفع بها في تيار الحياة اليومية الرحب المتنوع، حتى لا يشعر أي فرد بوجود انفصال بين الدين والحياة، ويحس بأن الدين من الحياة وأنه أنزل من السماء ليلبي أغراض الحياة سواء أكانت روحية أو مادية، ولا يعترض سيل تطورها، أو يعوق تقدمها؛ فإن انقطعت الصلة بين الدين والحياة كما هو الحال في البلاد العربية، عد ذلك تقصيراً من رجال الدين في البحث عن هذه الصلة. ولذلك يجب عليهم أن يوثق بين تعاليم الدين الإسلامي وحياتنا الحاضرة، وألا يحيطوا هذه التعاليم بهالة من السمو والرفعة بحيث تعلو عن حياة عامة الناس، فيصعب عليهم التمثل بها ويظنون أنها تنطوي على قيم عليا لا يقدر أن يصل إليها إلا خاصة الخاصة، مع أن الدين أراد أن يسلكها الجميع بدون تفرقة. فإذا اتصلت هذه التعاليم بحياة الناس العادية، وطبقت على شتى ظروفهم الاجتماعية، أدرك كل عربي جدوى التعلق الحق بالدين الإسلامي، وتلمس فائدته الروحية والمادية معاً، فيعتقد أن الدين قوة دينية كما هو طريق إلى الله.

إن غرض الفتوح العربية في صدر الإسلام كان نشر الدين فسلامي خارج حدود بلاد العرب. ولقد استبسل الكثير من العرب، واستشهدوا في سبيل الله، ففازوا بالجنة من ناحية، ونال أهله من ناحية أخرى قسطاً من الغنائم مثل بقية الجنود العائدين من الحروب.

فالقتال في سبيل الله وإن كان باعثه ديناً يخلد المستشهد في الجنة، وهذه غنيمة روحية، يضمن كذلك لعائلته من بعده العيش الرغد وهذه غنيمة مادية، أحس كل عربي بمدى فائدة الاستشهاد من أجل نشر الإسلام من الناحيتين الروحية والمادية، فأقبل على الجندية وخاض الوغى بشجاعة لا تقهر، فاستطاع على قلة عددهوعدده أن يزيل من الوجود الدولة الفارسية، ويزعزع أركان الدولية الرومانية.

وفي هذا الجو السماوي الأرضي عرف العرب قديماً كيف يثبتون دعائم الدين الإسلامي في النفوس. وفي هذا الجو كذلك يقدر العربي في الوقت الحاضر أن يقضي على ما تركته المدنية الغربية في نفسه من القلق الوجداني والاضطراب العقلي، لانقياده المطلق لمغرياتها المادية ومفاتنها الحسية، ولإهماله تهيئة الحياة الروحية التي تلائم مزاجه وتبعثه على طلب الكمال.

ولقد سبقنا الهنود في المضمار الديني الاجتماعي، وأخذ المفكرون الهنود من أمثال راما كريشنا وفيفكاناندا يستوحون تراثهم الديني القديم، ويعرضونه في أسلوب حديث يتفق وغايات الحضارة الحديثة بدون أن يخل بأصول الفكر الهندي الروحي. ثم جاء طاغور ووضع القواعد الثابتة للحياة الهندية الكاملة، وأبرزها في صورة واضحة في كتابه (سادهانا) استقاها من تعاليم الكتب الهندية المقدسة، ودعمها بروح الغرب العملية، فأعطى المبادئ المثالية قيما واقعية تنفع في الحياة. وبعد أن كان الهندي ينزع لاجتناب الحياة أصبح بفضل هؤلاء المفكرين لا يقدس الزاهد الهاجر للحياة، المعتزل للأهل والوطن، والغارق في نفسه، والهارب من مشاكل الأرض، وإنما يقدس الزعيم القومي الذي تمثل في شخصية غاندي، ذلك البطل الوطني الذي دفع بمقومات الهند الروحية في ساحة النضال السياسي، فنالت بلاده حريتها، فعرف الهنود من مفكرين وسياسيين كيف يتفادون عيوبهم القديمة، ويتغلبون على ميلهم إلى اعتزال الحياة، ويبرزون قدرتهم على احتمال الألم في سبيل الغايات القومية بعد أن كانت قاصرة على الغايات الدينية الصرفة.

وها هو نهرو خليفة غاندي يقتفي أثره، ويسير على هدى الطابع الهندي، فما كاد يطمئن على استقلال بلاده، ويضمن ود الباكستان، حتى بادر يخوض مجال دولي حيوي أراد أن تساهم فيه بلاده في خدمة الإنسانية، وتؤدي ما عليها من واجبات في سبيل رسالتها الروحية التي ترغب في أن تعم بلاد العالم أجمع. فدعا لعقد مؤتمر ينشد عن طريقه ضم شمل الدول التي تعتنق المثل العليا والمبادئ المعنوية، وتؤمن بقوتها في تدعيم السلام، كما يبغي توحيد صفوفها للتعاون على إنقاذ العالم مما هو فيه من تفكك وتنازع، وذلك بالقضاء على النزعات الاستعمارية، وبث روح المحبة والوئام في ربوع العالم.

وهكذا عرف نهرو كيف يختار المجال الوحيد الذي تقدر العبقرية الهندية أن تشترك فيه، وتظهر براعة لا تفوقها براعة، فنجح في استغلال استعدادات قومه الأصلية في إعلاء شأنهم، ورفع مكانتهم بين الدول.

فأمام العرب نموذج من الفكر الديني الخالق الذي استطاع أن يرفعن كاهل بلاده كابوس الاستعمار بفضل تعاليم غاندي في المقاومة السلبية، وأن يقتحم الميدان الدول متخذا من أساليبه الروحية وسيلة لتحقيق سلام العالم، وهي غاية هندوكية قبل أن تكون غاية سياسية إنسانية؛ فهيأ بذلك لمبادئه الدينية قوة إيجابية

أما كيف يعطي الفكر تعاليمه الإسلامية قيمة عملية فعالة ونافعة في حياتنا الخاصة والعامة، فذلك يكون بعد تطبيقها تطبيقاً جدياً واسع النطاق يشمل المجتمع العربي بأكمله. فكل ما تأمر به التعاليم الإسلامية من تشريعات لا ينبغي أن تهمل ويستعاض عنها بغيرها من تشريع الغرب، وبحجة أنها أكثر إنسانية. فنرفض قطع يد السارق وجلد الزاني ورجم الزانية، فإن ذلك يضعف من قوة دينا، ويقلل من قدرته على مواجهة مشاكل الإنسان، وذلك يورث في نفوسنا نوعاً من المهانة، فتستكين لتشريعات الغير، بينما يجب أن نتمسك بتشريعات الإسلام، لا بدافع من نعرة دينيةرجعية، ولكن بدافع من المحافظة على روح الأمة العربية، وصيانة كيان حياتهم الاجتماعية وكل ما في القرآن الكريم والحديث الشريف من مثل عالية يجب أن تؤسس عليها الأخلاق العربية. وكل ما يتضمنه هذا الكلام المقدس من حكم يجب أن تقوم بها أهواءنا ورغباتنا، حتى تصفو نفوسنا مما علق بها من شوائب المدنية الحاضرة، وتعيش في كنف حياة روحية ترتاح إليها عقولنا العربية، فتقدر أن تستوحيها، وتنهج سبل التطور إلى أن تكيف التعاليم الإسلامية بظروف الحضارة المعاصرة بدون أن تفقد شيئاً من أصالتها.

فإخراج هذه التعاليم من منابر لجوامع إلى ساحة الحياة الاجتماعية يعد أمرا ًضرورياً لنهضتنا الحضارية. إن غاندي عندما علم الهنود المقاومة السلبية قد أضاف إلى مبدأ عدم العنف الهندوكي من القوة ما ألهب مشاعر قومه الدينية، وأرهب الإنجليز وهزا إمبراطوريتهم، فكان عمله هذا أعظم عمل ديني أداه هندي لوطنه. فنحن نريد أن نشعر بقوة مفعول تعاليمنا الدينية في أعمالنا وتصرفاتنا حتى يزداد إيماننا بها قوة، ولا نفكر في أن نتخلى عنها، ونبذل جهد الطاقة لكي نبثها في جميع صور الحياة الدنيوية، فيكون ذلك باعثاً رفيعاً على طلب الرقي، ودافعاً عظيما ًإلى تشييد حضارة عربية تستمد مقوماتها من صلب التعاليم الإسلامية، وتجاري المدنية الغربية في نفس الوقت.

عبد العزيز محمد الزكي

مدرس الآداب بمدرسة صلاح الدين الأميرية بكفر الزيات