مجلة الرسالة/العدد 818/عودة الأبطال

مجلة الرسالة/العدد 818/عودة الأبطال

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 03 - 1949


اليوم يعود أبطال الفلوجة إلى أحضان الوطن المنجب الحاني، فيلقاهم لقاء المعجب المزهو، وفي يمناه أكاليل الغار للجباه المرفوعة، وفي يسراه أوسمة الفخار للصدور الجريئة. ثم يقبل بلبه على حماة العز وأباة الذل وسقاة المنون ويقول لهم بألسنة الجموع الوافدة من كل إقليم، الحاشدة في كل طريق، الهاتفة في كل مكان: مرحى! مرحى! لله غرس زكا ونشأ كرم وشباب عز! لا تزال مصر كنانة الله مادام ثراها طيبا ينبت هذه الأجساد، ونيلها ظهورا ينشئ هذه الأرواح، وجوها صافيا يبدع هذه الشمائل!

كانت هذه البطولة المثلية النادرة لجيش الوادي مكظومة في نفوسه الكبيرة، لا تجدها متنفسا ولا مفِيضا من سوء الحال ومكر الاحتلال حتى ظنت به الظنون، وطارت حوله الريب، وقال المرجفون من ذئاب الاستعمار وأذناب المستعمر: إن مصر كالحسناء المشتهاة، جمالها يغرى بها ولا يدفع عنها. فلابد لها من زوج قادر يضمن لها المصير، ويذود عنها المغير. وأوهموا الناس أن جنودنا دمى للزينة، وأسلحتنا لعب اللهو. وساعدهم على هذا الإفك حكومات كنواطير الكرمة أقامها الثعلب ليخدع بها غيره. ثم أخذ يعبث في العنب ولا يخاف، ويجأر بالضباح ولا يبالي! حتى أراد الله للسر المكنون أن يذيع، وللكنز المدفون أن يظهر، فقيض لهما رجل الأمة النقراشي. وحانت محنة فلسطين، فألفى الرجل العظيم في وطيس الحرب بالجوهر الأصيل والمعدن الحر، فثبت على النار كما يثبت الذهب المصفى على المحك.

فلله يوم ذوَّب الغشَّ نارُه ... فلم يبق ألا صارم أو ضُبارم

تقطعَ مالا يقطع الدرع والقنا ... وفرَّ من الأبطال من لا يصادم

وبقي المعدن المصري وحده في البوتقة! وقال الغريب: إنها فرصة تبعث بيني وبين مصر المعاهدة المقبورة. وقال القريب: إنها محنة تكفكف قليلا من غلواء مصر المغرورة! وقال جيش الفاروق: لا هي فرصة، ولا هي محنة، وإنما هي نشيد جديد من ملحمة البطولة التي لا تزال تنظمها مصر. ووقف من قواد روسيا وجنود صهيون وأسلحة أوربا وممالأة أمريكا ومخادعة إنكلترا، موقفه الخالد، فيخيب آمال العدو، وكذب ظنون الصديق!

وكانت الفلوجة بؤرة النار وقطب المحنة: احتشدت لها جموع اليهودية وأوربا الشرقية مدربة مجهزة، وأحدقت بها قواها البرية والجوية مجمعة مركزة، وتفجرت عليها قذائف الجحيم من جهاتها الخمس أربعة أشهر وأثني عشر يوما لم يهادن فيها صهيون المحنق المغيظ ألا ليجدد ما دمر من عتاده، أو ليدفن ما قتل من أوغاد. وظاهر المحاصرين على المحاصرين اشتداد البرد ونفاد القوت ونقص الذخيرة وانقطاع المدد وإغواء العدو. فلو أن قائد الفلوجة سلم على هذه الحال لقواد الروس، لوسعه من العذر ما وسع قائد باريس حين سلم لقواد الألمان، وقائد برلين حين سلم لقواد الحلفاء.

ولكن أسد العرين كان أعرف بأشباله وأبصر بواجبه وأشعر بتبعاته؛ فوقف موقفه الذي قلت في تواريخ الأمم نظائره، ثم أخذ يطلق المنايا على قطعان المحاصرين كلما هاجموه فيجعلهم حصيدا يحجب وجه الثري، ويتخم بطن الأرض!

وهكذا اختار الله سيد طه وأركان حربه وسائر جنده ليكونوا حجة لمصر على أن صبرها لا ينفذ، وعزمها لا يخور، وجيشها لا يقهر!

لقد طلبوا الموت فوجدوا الحياة، وابتغوا الشهادة فظفروا بالمجد، وحاربوا جنودا فانتصروا أبطالا، ودخل الفلوجة وهي نكرة من نكرات فلسطين، ثم خرجوا منها وهي معرفة من معارف العالم!

أحمد حسن الزيات