مجلة الرسالة/العدد 819/القوة الحربية لمصر والشام في عصر الحروب
مجلة الرسالة/العدد 819/القوة الحربية لمصر والشام في عصر الحروب
الصليبية
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
- 6 -
وكان الجندي يمضي إلى القتال لابساً درعه، وعلى رأسه المبيضة أو المغفر، وفي يده ترسه أو درقته، ويتسلح بالسيف أو الرمح أو الحربة أو الدبوس، وهو عصا من خشب أوحديد، مضلعة ملبسة بالكيمخت الأحمر والأسود ذات رأس مدورة مضرسة، أو اللت وهو كالدبوس ولكنه ذو رأس مستطيل، أو المستوفيات وهي عمد من حديد طولها ذراعان مربعات الأشكال لها مقابض مدورة، أو الخنجر أو القسى والسهام والنبال والنشاب.
ويسير الجيش إلى الحرب وأهم ما معه من آلات القتال والحصار المجانيق، ومنها الكبار تحملها مائة عجلة، ومنها دون ذلك، ومن أنواعه ما يشد بلوالب وأقواس، أو يدار كالمفلاع. ويستخدم المنجنيق غالباً لهدم الحصون بالحجارة مضخمة أو لرمي الأعداء بالنبال أو العقارب ونحوها من آلات الأذى، أو لإحراق أماكن العدو بالنقط وغيره. فأن كانت المقذوفات خفيفة ثقلوها بالرصاص، وإن كانت من الشواعل كالنفط ونحوه صنعوا لها كفة علقوها بسلاسل.
والعرادات وترمى بالحجارة المرمى البعيد أيضاً، وهي أصغر من المجانيق.
ويتخذون الدبابات لتسلق أسوار العدو، وهي آلات من الخشب السميك. وقد تكون طباقاً، وتغلف بالجلود المنقعة في الخل لدفع النار، وتركب على عجل مستدير يدفعها الرجال ويصعد الجند في أعلاها ويستعلون على السور، وينزلون فوقه أو يحاربون المحاصرين من أعلى السور. وقد يستخدمون الدبابات لهدم الأسوار فيسيرونها ويحتمون بجدرانها، ويجعلون رأسها محدداً يصدمون به الأسوار حتى تهدم، أو يتخذون لهدم الأسوار الكباش، وهي كالدبابات ولكن رأسها في المقدمة مثل رأس الكبش، وهو متصل في داخل الدبابة بعمود غليظ معلق بحبال تجري على بكر معلقة بسقف الدبابة لسهولة جره، فيتحصن الرجال في الداخل، ويتعاونون من داخل الدبابة على ضرب السور حتى يمزقوهأو يتخذون الزحافات يدقون بها الحصون والأسوار. وبها أبراج للجند مجهزة بالقسى.
ويلقي الجند على أعدائهم بندقاً من الحديد يزن عشرة أرطال إلى مائة رطل، ورماة هذا النوع من أدوات القتال يسمون الجوخية، أو يقذفونهم بقوارير النفط والقطران يرمون بها الحصون والقلاع للإحراق، ويسمى القاذفون بالرازقين؛ لأنهم يستخدمون لذلك أنابيب تعرف بالرزاقات.
ومن أشد ما استخدمه المصريون للفتك بأعدائهم النار اليونانية، وقد كتب عنها الأستاذ عبد الله عنان في كتابه: (مواقف حاسمة) حديثاً طويلاً عن نشأتها وتطورها، فذكر في (ص102) أنها كانت تركب من زيت النفط والكبريت والجير والقار. فينتج من ذلك السائل الملتهب. وكانت تستعمل في حروب البر والبحر معاً، في أثناء التحام الصفوف، وفي أثناء الحصار. فتقذف من فوق الأبراج أو الأسوار في آنية كبيرة، أو تطلق في كرات مشتعلة من الحديد والحجارة، أوفي سهام ملتوية قد لفت بالقنب والوبر والشعر مشبعة بالسائل الملتهب. وأما في المعارك البحرية فكانت تحمل في سفن النار: الحراقات. وتطلق من أنابيب طويلة من النحاس ركبت على مضخات ضاغطة توضع في مقدمة السفينة، وتجعل على هيئة وحوش فاغرة أفواهها تقذف وابلاً من النيران السائلة المضطرمة) ويذكر الأستاذ ما كان لهذه النار من أثر في نفوس الفرنج في معركة المنصورة، وينقل لذلك قول مؤرخ شاهد عيان في تلك المعركة من الفرنج هو (دي جوانفيل) الذي يصف هذه النار بأنها تثب مستقيمة كأنها أسطوانة كبيرة، ولها ذيل من اللهب قدر الحربة، ودوياً يشبه الرعد، وكأنها جارح يشق الهواء، ولها نور ساطع جداً من جراء عظم انتشار اللهب الذي يحدث الضوء حتى إنك ترى كل ما في المعسكر، كما ترى في ضوء النهار، ويصف هذا المؤرخ ما أحدثته هذه النار من تدمير في معسكرهم ورعب في قلوبهم، ولم يستطع الصليبيون في ذلك الحين معرفة سر تركيب هذه النيران.
وكان المسلمون يتقون مقذوفات عدوهم بسنائر توضع على الأسوار والسفن لتستر المقاتلين، ويكافحون نيران عدوهم التي تقذف على مراكبهم بأن يعلقوا حول سفنهم الحربية من الخارج جلوداً مبلولة بالخل والماء والشب والنطرون لدفع أذى النفط، وكذلك كان يستعمل الأعداء في تحصين آلاتهم الحربية، ولكن بعض العرب قد اخترع من النيران ما لا يقف الخل في سبيله: صنع العدو في حصار عكا ثلاثة أبراج من خشب وحديد وألبسها الجلود المسقاة بالخل، بحيث لا تنفذ فيها النيران، وكانت هذه الأبراج كأنها الجبال عالية على سور البلد، ومركبة على عجل يسع الواحد منها من المقاتلة ما يزيد على خمسمائة نفر، ويتسع سطحها، لأن ينصب عليه منجنيق، وقد ملأ ذلك نفوس المسلمين خوفاً ورعباً، ويئس المحاصرون في المدينة، ورأوها وقد تم عملها ولم يبق إلا جرها قرب السور وأعمل صلاح الدين فكرة في إحراقها، وجمع الصناع من الزراقين والنفاطين وحثهم على الاجتهاد في إخراقها، ووعدهم على ذلك بالأموال الطائلة والعطايا الجزيلة، ولكن ضاقت حيلهم عن ذلك. وكان من جملة من حضر شاب نحاس دمشقي ذكر بين يديه أن له صناعة في إحرانها وأنه إن مكن من الدخول إلى عكا، وحصلت الأدوية التي يعرفها أحرقها؛ فحصل له جميع ما طلبه، ودخل إلى عكا وطبخ الأدوية مع النفط في قدور نحاس حتى صار الجميع كأنه جمرة نار، ثم ضرب واحداً بقدر، فلم يكن إلا أن وقعت فيه، فاشتعل من ساعته ووقته، وصار كالجبل العظيم من النار طالعة ذؤابته نحو السماء واستغاث المسلمون بالتهليل، وعلاهم الفرح حتى كادت عقولهم تذهب. وبينما الناس ينظرون ويتعجبون إذ رمى البرج الثاني بالقدر الثانية، فما كان إلا وصلت إليه واشتعل كالذي قبله فاشتد ضجيج الفئتين، وما كان إلا ساعة حتى ضرب الثالث فالتهب وغشي الناس من الفرح والسرور ما حرك ذوي الأحلام.
وهكذا تفوق المسلمين الحربى في تلك العصور.
واستخدم المسلمون في سفنهم الكلاليب يلقونها على مراكب أعدائهم. فيقفونها، ويشدونها إليهم، ثم يصنعون جسوراً من الألواح تصلهم بها، فيدخلون إليها ويقاتلون أصحابها.
ولخلق جو من الحماسة في صدور الجند استخدموا، والمعركة دائرة، دق الكئوس ونفير الأبواق، كما تصنع الآن الفرق الموسيقية.
هذا وكانت آلات القتال تصنع في مصر والشام وتباع فيهما في سوق السيوفيين وسوق السلاح.
وعنى في ذلك الحين بإنشاء القلاع في المدن، والأسوار حولها وكان صلاح الدين يتفقه في كيفية بناء الأسوار وحفر الخنادق وأحب أن يجعل لنفسه معقلاً بمصر كمعاقل الشام، فأمر بإنشاء قلعة بالقاهرة وسور يحيط بها وبالقلعة ومصر وأقام على عمارة ذلك بهاء الدين قراقوش الأسدي، فبدأ في بناء ذلك سنة 572 وهدم ما هنالك من المساجد، وأزال القبور، وهدم الأهرام الصغار التي كانت بالجيزة تجاه مصر وكانت كثيرة العدد، ونقل ما وجد بها من الحجارة، وبنى به السور والقلعة وقناطر الجيزة وتم قسم كبير من القلعة. وكان صلاح الدين يقيم بها أياماً، كما سكنها الملك العزيز عثمان، في أيام أبيه، ولكن السلطان مات قبل أن يتم العمل في السور والقلعة فأهمل العمل إلى أن كانت أيام الملك الكامل محمد، فإنه أتم بناء القلعة وأنشأ بها الآدر السلطانية ودواوين الدولة، وسكنها حتى مات، وظلت من بعده دار مملكة مصر إلى أن كان الملك الصالح نجم الدين أيوب، فإنه أنشأ قلعة بالروضة شرع في حفر أساسها يوم الأربعاء 5 شعبان سنة 638. وهدم لها ما كان في هذه الجزيرة من دور ومساجد وكنائس، وقطع ألف نخلة مثمرة، كان رطبها يهدى إلى ملوك مصر لحسن منظره وطيب طعمه، وأنفق في عمارة قلعته أموالاً جمة، وبنى فيها الدور والقصور، وعمل لها ستين برجاً، وبنى بها جامعاً وغرس فيها جميع الأشجار، ونقل إليها عمد الصوان من البرابي وعمد الرخام وشحنها بالأسلحة وآلات الحرب وما يحتاج إليه من الغلال والزاد والأقوات خشية محاصرة الفرنج، وبالغ في إتقانها مبالغة عظيمة. وكان الملك الصالح يقف بنفسه ويرتب ما يعمل حتى بلغت حداً يدهش؛ لكثرة زخرفها وحسن سقوفها وبديع رخامها. ولما كملت تحول إليها بأهله وحرمه واتخذها دار ملك، وأسكن فيها معه مماليكه البحرية، ولم تزل هذه القلعة عامرة حتى زالت دولة بني أيوب. فلما ملك المعز أيبك أمر بهدمها، وعمر منها مدرسة، وطمع في القلعة من له جاه، فأخذ ما يروقه من سقوفها، وأخشابها، وشبابيكها حتى بنى بعضهم منازل منها، فلما جاء بيبرس اهتم بعمارة قلعة الروضة، وأراد إعادتها كما كانت، فأصلح بعض ما تهدم فيها، ولكن هيئتها لم تدم فإن قلاوون لم يكد يشرع في بناء البيمارستان والقبة والمدرسة المنصورية، حتى أخذ من قلعة الروضة ما يحتاج إليه منها، كما أخذ الناصر محمد منها ما احتاج إليه في بناء أبواب بقلعة الجبل وجامع له. وهكذا ذهبت القلعة كأن لم تكن.
أما بلاد الشام فكانت مليئة بالقلاع والحصون كقلعة حلب وقلعة دمشق وحصن الكرك وكوكب، وشقيف أرنون وبصرى وهوتين وتينين وتل باشر وقلعة حماة وحمص وعكا والشوبك وصرخد وكثير غير ذلك. ومعظمها يناطح السحاب بعلوه ويشبه الجبال بمتانته وعنى بهذه القلاع والحصون؛ لأن المدينة إذا خلت من حصن يسهل على العدوأن يجتاحها كل حين. وأحياناً كان المسلمون يضطرون إلى هدم أسوار المدن وقلاعها، حتى لا يتحصن بها الأعداء إذا سقطت في أيديهم، وقد شاهدنا أمثلة لذلك فيما مضى.
ومما عنى به في ذلك الحين برجا دمياط، فقد كانت دمياط هدفاً للصليبيين في ذلك العصر، هاجموها في عصر الدولة الفاطمية والأيوبية. والمؤرخون مختلفون في وصف هذين البرجين، فأبو شامة يجعل البرج واحداً في وسط النيل، ودمياط بحذائه من شرقيه، والجزيرة بحذائه من غربيه، وفي ناحيتيه سلسلتان تمتد إحداهما على النيل إلى دمياط، والأخرى على النيل إلى الجزيرة، تمنعان عبور المراكب من البحر المالح، فهو قفل الديار المصرية إذا أوثقت السلسلتان امتنع على المراكب العبور إليها، ومتى لم تكونا عبرت المراكب، وبلغت إلى القاهرة ومصر وإلى قوص وأسوار.
والمقريزي في السلوك (ج2ص72وص188) والخطط (ج1ص347) يقول: (وكان إذ ذاك على النيل برج منيع في غاية القوة والامتناع فيه سلاسل من حديد عظام القدر والغلظ تمتنع في النيل لتمنع المراكب الواصلة في بحر الملح من عبور أرض مصر، وتمتد هذه السلاسل في برج آخر يقابله، ويعرف اليوم مكانهما في دمياط بين البرجين). وأبو شامة قد وصف ما رآه والظاهر أن البرج الثاني القريب من شاطئ دمياط لم تكن له أهمية حربية، كالبرج القريب من الشاطئ الثاني. ويرجع إنشاء هذا البرج غالباً إلى أيام المتوكل سنة237. فإن دمياط منذ العصور الأولى للإسلام كانت محط أنظار الغزاة.
وعنى صلاح الدين بهذين البرجين، فرتب المقاتلة عليهما، وأتقنت السلسلة التي بين البرجين وشدت إليها مراكب ليقاتل عليها ويدافع عن الدخول من بين البرجين، ورم شعث سور المدينة، وسدت ثلمه، فبلغت النفقة على ذلك ألف ألف دينار.
وهاجم الفرنج دمياط سنة 615 في آخر أيام العادل، وعملوا آلات ومرمات وأبراجاً متحركة يزحفون بها في المراكب إلى برج السلسلة ليملكوه، حتى يتمكنوا من المدينة، وألحوا في مقاتلة أهل البرج، فلم يظفروا منه بشيء مدة أربعة أشهر، ثم احتال الفرنج فأقاموا برجاً من الصواري على بطسة كبيرة وأقلعوا بها حتى أسندوها إليه، وقاتلوا من به حتى أخذوه. وكان ذلك ممهداً لأخذهم دمياط على ما ذكرنا. ولما علم العادل بأخذ الفرنج برج السلسلة تأوه تأوهاً شديداً، ودق بيده على صدره أسفاً وحزناً ومرض من ساعته، واشتد مرضه حتى مات. قال أبوشامة: وأذكر وأنا بدمشق حين بلغ الناس أخذ الفرنج برج السلسلة وقد شق ذلك على من يعرفه مشقة شديدة، ومنهم شيخنا أبو الحسن السخاوي، ورأيته يضرب يداً على يد ويعظم أمر ذلك. وسمعت الفقيه عز الدين بن عبد السلام يسأله عنه، فقال: هو قفل الديار المصرية، وصدق. ويظهر أن الفرنج خربوا هذا البرج كي لا يكون عقبة في سبيلهم ولا قوة في أيدي المصريين كرة أخرى، فأنا لم نسمع شيئاً عنه عندما غزا الفرنج دمياط في عهد الصالح نجم الدين أيوب، ثم عمره قطز، وهو البرج الذي اعتقل فيه أسرة المعز أيبك.
(النهاية في العدد القادم)
أحمد أحمد بدوي