مجلة الرسالة/العدد 82/الثقافة المذبذبة
مجلة الرسالة/العدد 82/الثقافة المذبذبة
كتب إلي صديقي الأستاذ م. ف. ا. يقول:
(أنا معلم كما تعلم؛ ولكني معلم لا أعتقد فيما يعتقده فيه الكثرة من المعلمين سواي! وذلك أنني لا أومن كثيراً بأوربا، ولا بما جاء من أوربا، إلا أن يكون ذلك شيئاً نجنيه من نفع مادي أو كشف علمي. أما فيما يتعلق بالآراء والنفس، وفيما يتصل بالعقل والقلب، فأنا شرقي ولا أحب إلا الشرق، ومصري ولا أحب إلا مصر. ولقد كان مما يؤلمني دائماً أن أرى الابن الناشئ قد عاد من إنجلترا أو من فرنسا، فلا يكاد يظهر للأعين إلا في هيئة نابية يزعم أنها دليل المدنية التي اكتسبها من الغرب، فيمتدح فرنسا أو إنجلترا وما فيها من مناهج ومناظر ومعاهد، وهو في الحق إنما يريد أن يقول إنه أثر من آثار تلك المدنية السامية التي يمتدحها، فهو يصل إلى الزهو من طريق غير مباشر، ولا يقصد إلا إلى الفخر والإعجاب بالنفس. دع ذلك، فلو كان هذا وحده هو الأثر لهان الأمر، أما أن يتعدى الأمر ما وراء ذلك فهو البلية والنكبة، ذلك بأن هؤلاء الأبناء قد وصلوا بتلك النعرة الجوفاء إلى أن يخدعوا بعض الشيوخ، أو بعض الجُوف من الشيوخ، بأنهم دعاة العلم والمدنية، فألقيت إليهم مقاليد الأمور في بعض النواحي، وكان من سوء حظ مصر أن بلغ هذا الخداع حده في مسائل التعليم. وإليك مثلاً من ذلك: إن برامج التعليم الأدبية - وهي أداة الثقافة والقومية - لا نرى فيها أثراً للشخصية المصرية: فواضع برامج التاريخ هو بعض الجُوف ممن تعلموا تاريخ أوربا، فنقلوا من هذا ما ظنوه خيراً وجعلوه منهاجاً لتلاميذ المدارس الثانوية المصرية، فكانت النتيجة أنك إذا في برامج القسم الأدبي في التاريخ خيل إليك أنك تنظر في بعض برامج فرنسا أو إنجلترا. أو خليطاً من هذا وذاك، وأما مصر فلا شأن لها في ذلك وا حسرتاه! وكذلك الحال في سائر المواد الأدبية، حتى لقد حسبت وأنا معلم أننا إنما نسعى لأعداد أبنائنا ليكونوا أجانب في عواطفهم وعقليتهم وثقافتهم
أليس هذا من العبث يا سيدي الأستاذ؟ أرجو أن تتناول هذا المعنى بقلمك القوي، ولك من أبناء البلاد الثناء الجميل)
وصديقي الأستاذ بخبرته الطويلة وعقيدته النبيلة أولى بمعالجة هذا الموضوع، ولكنه اختار له هذا الأسلوب الصحافي لتتناوله الأقلام المختلفة بالبحث والجدل، فيكون الرأي أجمع، والحكم أقطع، والبلاغ أع شكاة الأستاذ شكاة الشرق الإسلامي كله، فانه منذ غفا غفوته الثقيلة الطويلة فانقطع عن صدر الزمن لم يرد أن يبصر بعينه، ويسير على قدميه، ويعلم أن له تاريخاً ممتازاً، ووجوداً مستقلاً، وطابعاً خاصاً، ووحدة كاملة، ومدنية أصيلة؛ وإنما ذهب يتحسس من طريقه على نداء الصائد، ويتوكأ في سيره على عمود الشَّرَك، ويطمس على شخصه بالفناء في الغرب، كأن أهله لم يكفهم أن يكونوا عبيداً لأوربا بالجسم عن قوةٍ وقهر، فرضوا أن يكونوا عبيداً لها بالروح عن رضا وطواعية، فهم يتكلمون بلغتها، ويتأدبون بأدبها، ويتسمون بسمتها، ويتخلقون بخلقها، ويطبعون أذواقهم بالكره على غرار ذوقها، ويغالطون طباعهم في أصل الفطرة فيزعمون لعقولهم أن النفس المتمدنة لا يلائمها إلا ما يلائم الأوربي من أدبه ورقصه وغنائه وموسيقاه، كأن المسافة بين الشرق والغرب لا تحدث فرقاً، ولا تغير خَلْقاً، ولا تبدل طبيعة!
إن الاستعباد المادي دهمنا أمس على يد الآباء، والاستعباد الأدبي يدهمنا اليوم على يد الأبناء، وشتان بين استعباد كان عن إجبر وجهل، واستعباد يكون عن اختيار وعلم؛ والعبودية العقلية أشد خطراً وأسوأ أثراً من العبودية الجسمية، لأن هذه لا تعدى الأجسام والحطام والعَرض، ومثلها مثل الجسم يرجى شفاؤه متى عرف داؤه؛ أما تلك فحكها حكم العقل إذا ذهب، والروح إذا زهق، وهل يرجى لمخبول شفاء، أو ينتظر لمقتول رجعة؟
إن أكثر نَشْئِناَ الذين وردوا مناهل الثقافة العالية في أوربا إنما ذهبوا إليها وشخصياتهم هلاهل من تمزق الأسرة وتفكك البيئة وفساد التعليم وضعف التربية، فكونوا عقولهم على منطق الاعجاب، وميولهم على هوى التبعية، ثم عادوا وفي حوافظهم تاريخ غير تاريخ مصر، وعلى ألسنتهم أدب غير أدب العرب، وفوق غرائزهم خلق غير خلق الشرق، فتصرفوا تصرف المقلد، وتعسفوا تعسف الحائر، فلم يستطيعوا أن يكونوا غربيين لعصيان الطبيعة، وإباء الفطرة، ولم يريدوا أن يعودوا شرقيين لقوة الفتنة وضعف الإرادة
إن العلم لا وطن له، لأنه يتعلق باستخدام القوى واستثمار المادة في العالم كله لخير الناس كله؛ أما الآداب والفنون والأذواق والأخلاق والتقاليد فهي قِوَام الأمم، ولا تنزل أمة عنها ألا إذا نزلت عن ذاتها وزلت عن مستواها؛ فخضوع الثقافة القومية للإنجليزية في مصر وفلسطين، وللفرنسية في سورية والمغرب، وللأمريكية في العراق والمهجر، بلاء على هذه الأمم لا تسلم عليه وحدة، ولا يستقل معه وطن
أما عبث هذه الثقافة المذبذبة بالبرامج فَعِلته أن التعليم عندنا ليست له سياسة مرسومة ولا غاية معينة. قل لواضع البرنامج مهما يكن: أريد أن أصل بالتعليم إلى هذه الغاية، تجد الغاية نفسها هي التي تعيِّن السبيل وتحدد الوجهة؛ أما إذا كانت سياستنا في التعليم أن ننشئ المدارس ونهيئ المدرسين ونقيم الامتحانات، فان جماع الأمر في المعارف إذن أن تكون حقولاً للتجارب فيها لكل سياسة أثر، وكل ثقافة ثمر، ولكل أمة غير أمتها نصيب
أحمد حسن الزيات