مجلة الرسالة/العدد 82/بين القاهرة وطوس

مجلة الرسالة/العدد 82/بين القاهرة وطوس

ملاحظات: بتاريخ: 28 - 01 - 1935


8 - بين القاهرة وطوس

المشهد وطوس

للدكتور عبد الوهاب عزام

يرى الوافد على مدينة المشهد قبة عالية مغشاة بالذهب ومنارتين مذهبتين رفيعتين. فهذا أول ما يسر البصر من مسجد الإمام علي الرضا. فإذا ذهب إلى المسجد الذي يسمى الحرم الرضوي أو العتبة المقدسة (آستانة مقدس) رأى أبنية جميلة شامخة واسعة رائعة لا يستطيع المشاهد أن يعرف خططها ويدرك أقسامها إلا بعد تأمل طويل وزيارات كثيرة

إذا دخل القادم المدينة من غربيها فسار في الشارع الكبير تلقاء الشرق انتهى إلى أبواب ضخام رائعات وراءها طريق مبلط ينتهي إلى مدخل الحرم الرضوي فيلجه إلى الصحن القديم (صحن كهنه) وهو فناء واسع تجري في وسطه قناة ماء ويحيط به مساكن لطلاب العلم وغيرهم. وإني أشفق على القارئ من تفصيل الكلام في وصف هذا الحرم العظيم الذي توالت عليه الأيدي بالتشييد والتزيين قروناً كثيرة. فحسبي أن أقول إن في وسط الحرم قبة الإمام الرضا وأروقة متصلة بها ويمتد الصحن القديم شمالي هذه الأبنية، والصحن الجديد شرقيها، ومسجد جوهر شاد جنوبيها. ويحار الطرف في جمال القبة الشريفة وزينتها وفيما في المسجد كله من الكاشاني والبلور والذهب الخالص، والقبة تقوم على قبر الإمام الرضا. وهو في جانب منها، ويُظن أن قبر هرون الرشيد في وسط القبة ولكن لا يرى الزائر منه أثراً

أقدم ما في هذه البناية يرجع إلى سنة 512 وهو بناء السلطان سنجر السلجوقي. وقد توالى الملوك والكبراء من بعده على البناء والتنافس فيه، ومن هؤلاء السلطان ألجايتو، من الملوك الأيلخانية، وشاه رخ بن تيمورلنك وزوُجه جوهر شاد، ومشير علي نوائي وزير السلطان حسين بايقرا، ثم الملوك الصفويون ولا سيما طهماسب وعباس الكبير؛ ومن القاجاريين فتح علي شاه وناصر الدين شاه. كل هؤلاء بذلوا جهدهم في أن يؤثروا في المشهد الرضوي أثراً خالداً يكسف آثار من سبقهم فتركوا هذا البناء الجليل الذي يعجز القلم عن تصويره للقارئ

وقد وعدت في المقال السابق أن أصف مسجد جوهر شاد هذه الأميرة التقية الخيرة، ف مسجد يمتد جنوبي لمشهد الرضوي من الشمال إلى الجنوب (95 84 متراً) وأعظم أواوينه الإيوان الجنوبي، وهو عقد هائل ارتفاعه 25 متراً غشى كله بالكاشاني الجميل، وعلى دائرته آيات من القرآن بأحرف كبيرة جميلة كتبها بخطه الأمير بايسنقر بن شاه رخ بن تيمورلنك، وذلك إلى آثار أخرى دليل على عناية أمراء المسلمين بالفنون الجميلة ولاسيما الخط. وفي هذا الإيوان كرسي من الخشب يقال إن المهدي سيجلس عليه أول ما يظهر للناس؛ وفي وسط المسجد مصلى يسمى مسجد ييرزن (مسجد المرأة العجوز) وفيما يلي المشهد الرضوي بنية اسمها دار الحفاظ. وتصل المسجد بالمشهد الرضوي أبواب صغيرة

زرنا المسجد الرضوي صبيحة الجمعة ثالث رجب سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة وألف فرأينا أفواجاُ من الزائرين والزائرات متزاحمين بين مصل ومسبح وداع وباكٍ ومقبل للأعتاب ومطيف بالضريح المقدس، ولهذا الحشر دوي يملأ القلب خشوعاً ورهبة، وسار بنا الدليل إلى بناء في ناحية من الحرم أسمه حجرة التشريفات، فصعدنا إلى حجرة كبيرة بها جماعة من القوام على الحرم فأحسنوا لقاءنا وقدموا إلينا الشاي، وتحدثوا معنا بالعربية والفارسية معلنين سرورهم واغتباطهم، ومتحدثين بالاخوة الإسلامية التي تجمعنا وإياهم؛ ثم انصرفنا شاكرين أملين أن نعود إلى شرف الزيارة مرات حتى تقضي النفس لبانتها من مشاهدة هذا الجمال والجلال

ويوم الأحد التالي زرت المكتبة الرضوية وهي في الصحن الجديد في الطبقة الثانية، وقد اطلعت فيها على مصاحف يحار الإنسان في مرآها ويعجز عن وصفها، وحدثني قيم المكتبة أن بها آلافاً عدة من المصاحف المخطوطة: رأيت قطعة من مصحف بخط كوفي في آخرها: (كتبه علي بن أبي طالب)، ومصحفاً كاملاً بخط كوفي في أخرها: (كتبه الحسن بن علي بن أبي طالب) ورأيت مصحفاً وقفه إبراهيم قطب شاه سنة 970 فيه 339 ورقة، وفي كل صفحة 12 سطراً محلاة بالذهب والمينا، وطول الصفحة 56 قيراطاً وعرضها 37، وفيه من بدائع الصناعة ما يجل عن الوصف، فما يزال الناظر فيه حائر القلب والطرف؛ ومصحف آخر وقفه السيد محمد جعفر خان سنة 1148 فيه 606 ورقات كل ورقة لها نقش خاص يخالف نقش الورقات الأخرى. وفي هذه المصاحف من عجائب النقش والوراقة والتجليد ما لا يدركه إلا ابرائي. وقد قيل لي إن بعض الأوربيين بذل في جلد مصحف منها مئات الجنيهات فلم يظفر به. ورأبت ورقة واحدة من مصحف في طول قامة الرجل الطوال. وبها سبعة أسطر بخط الأمير بايسُنقر

وقد شهدنا في مدينة المشهد افتتاح مستشفى الشاه رضا وهو مستشفى كبير بأجهزة حديثة، ومعرض صناعات خراسان، ورأينا ألعاباً رياضية كالتي رأيناها في ميدان سلطنت آباد بطهران وقد وصفها آنفاً. وكانت حفلات للغداء والعشاء دعا إليها رئيس الوزراء ومتولي الحرم الرضوي، ألقيت فيها خطب كثيرة. وزرنا مدفن نادر شاه، وهو البطل الكبير الذي رفعته همته من رعي الغنم إلى رعاية الأمم، والذي أخرج الأفغانيين من إيران، ودبر الأمور باسم الصفويين حيناً، ثم استبد بالأمر وتسمى نادر شاه، ثم فتح أفغانستان والبنجاب وغنم كنوزاً لا تحصى من دهلي، واضطر الدولة العثمانية إلى مصالحته على ما أراد لدولته، وتوفي سنة 1160 بعد أن سيطر على إيران عشرين سنة - دخلنا حديقة واسعة في وسطها بناء مرتفع قليلاً يشتمل على حجرات عدة، دخلنا واحدة منه فقيل هنا دفن نادر شاه وسيشاد له قبر هنا

طوس:

على خمسة وعشرين كيلاً إلى الشمال من مشهد، آثار المدينة الكبيرة التي كانت من أعظم مدن خراسان، والتي نشأت جماعة من كبار العلماء والأدباء: مدينة طوس: وطوس اسم إقليم في خراسان كان فيه مدينتان كبيرتان: طابران ونوقان. فأما طابران فقد اتسعت ونبهت حتى سميت طوساً باسم الإقليم كله، وبقي اسم طابران على إحدى محلاتها. وأما نوقان فكان على مقربة منها قرية سناباذ التي دفن فيها الرشيد العباسي والرضا العلوي فنمت حتى صارت مدينة المشهد الحاضرة واتصلت أبنيتها بنوقان ونسخت اسمها

وقد اشتبه أمر طوس ونوقان على بعض الجغرافيين فقالوا إن مدينة طوس مدينتان: طابران ونوقان. قال ياقوت، عن طوس: (وهي مدينة بخراسان بينهما وبين نيسابور عشرة فراسخ تشتمل على بلدتين يقال لإحداهما (طابران)، وللأخرى (نوقان)) والحق أن لإقليم طوس مدينتين كبيرتين هما طابران التي سميت طوس ونوقان التي اندمجت في مشهد كما قدمت. وكان لطوس شأن في التاريخ الإسلامي، وتقلبت بها الغير حتى خربها ميرانشاه ابن تيمورلنك سنة 791هـ وينسب إلى مدينة طوس الإمام الغزالي، ونصير الدين الطوسي وغيرهما من العلماء. وقد مات الغزالي بها ودفن بالطابران إحدى محلاتها، رابع عشر جمادي الآخرة سنة 505 ورثاه الابيوردي فقال:

بكى على حجة الإسلام حين ثوى ... من كل حي عظيم القدر أشرفُه

وما لمن يمتري في الله عبرته ... على أبي حامد لاح يعنفُه

تلك الرزيّة تستهوى قُوى جَلَدِي ... والطرف تسهره والدمع تنزفه

فماله خلّة في الزهد منكرة ... ولا له شبه في الخلق نعرفه

مضى، وأعظم مفقود فجعت به ... من لا نظير له في الخلق يخلفه

وينسب إلى طوس كذلك الشاعر الفارسي أبو القاسم الفردوسي صاحب الشاهنامة المتوفى سنة 411. وبها مات ودفن على مقربة من باب رزان أحد أبواب المدينة. في سورها الشمالي الشرقي

وقد زار نظامي العروض قبر الفردوسي سنة 510 وقال: (وكان داخل الباب بستان للفردوسي فدفُن فيه وهو اليوم هناك) وقال هو لتشاه السمرقندي سنة 893 (وقبره في طوس بجانب مزار العباسبة، ومرقده الشريف معروف اليوم، يزوره الناس) ويقول القاضي نور الله في أواخر القرن العاشر الهجري إنه زار قبر الفردوسي

وقد رآه بعض سياحي أوربا، أوائل القرن التاسع عشر الميلادي. وقال خانيكوف سنة 1858 إن البناء الصغير الذي كان يميز قبر القردوسي قد اندثر

وقد اجتهد أدباء إيران حتى عرفوا بالقرائن مكان القبر فشادت الدولة عليه بناء فخماً يرى القارئ صورته تحت هذا:

سرنا إلى طوس عشية يوم الجمعة ثالث شهر رجب (12 أكتوبر سنة 1935 - 20 مهرماه سنة 1313) فبلغناها بعد نصف ساعة فملنا إلى الشرق، واجتزنا نهر كشف في جادة واسعة تفضي إلى حديقة الفردوسي، فرأينا بستاناً كبيراً يتوسطه حوض واسع، وراءه بنية جميلة رائعة. وهي مصطبة واسعة مربعة يتوسطها بناء مربع القاعدة يرتفع زهاء أربعة أمتار، كتب على أربعة أوجهه أبيات من الشاهنامة. وزيد على الوجه الأول كتابة تبين عن عناية جلالة الشاه رضا بهلوي بالفردوسي، وأمره بتشييد البناء في التاريخ المبين به

وللبناء باب صغير على جانبيه نقوش تمثل حوادث في الشاهنامة. ويفضي الباب إلى حجرة وسطها قبر عليه صفيحة مربعة من المرمر نحت فيها كلمات معناها أن أدلة كثيرة تثبت أن هنا قبر الفردوسي وتاريخ مولد الشاعر ووفاته، وفي الجدار المقابل للباب كوّة. والبناء في جملته جميل رائع

جلسنا في سرادق ضرب هنالك، فلما اقترب مقدم جلالة الشاه، سرنا إلى النصب فوقفنا على سجاجيد فرشت بين الحوض والبناء، وقف الوفود وحدهم، وأعيان الإيرانيين وحدهم. ثم أقبل جلالة الشاه، فسلم على الوافدين واحداً واحداً، يعرفه بهم رئيس الوزراء ووزير المعارف. ثم ارتقى جلالة الشاه النصب، ووقف يقرأ كلمة افتتاح تذكار الفردوسي. ثم قطع بمقراض الشريط المحيط بالنصب ودخل فرأى قبر الشاعر، ثم دُعي الوفود فدخلوا. ثم وقف جلالة الشاه في ناحية من الحديقة يتحدث مع وزراءه، ثم ركب سيارته. وبقينا زمناً نمتع العين بما نرى، ونأخذ بأطراف الحديث

ورأيت على يسار الجادة المفضية إلى حديقة الفردوسي بناء له قبة وقد تهدمت أعاليه، فقال من كان معنا من أهل مشهد إنه قصر بناه الرشيد، وقال بعض المستشرقين إنه قبر الغزالي. وإنه بني على نسق مرقد السلطان سنجر في مرو، وعلى نسقه بني مرقد السلطان الجاينو في السلطانية. وإنما العلم عند الله

رجعنا إلى مشهد فبقينا إلى صبيحة الاثنين. ثم أخذنا طريقنا عوداً إلى طهران

عبد الوهاب عزام