مجلة الرسالة/العدد 820/شعراء معاصرون:

مجلة الرسالة/العدد 820/شعراء معاصرون:

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 03 - 1949



العاطفة الدينية في شعر محرم

للشيخ محمد رجب البيومي

(بقية ما نشر في العدد 818)

- 3 -

أما شعر محرم الاجتماعي فقد كان مضمخاً بعبير عاطر من التوجيه الديني والإرشاد الخلقي، فقد نظر الشاعر نظرات صائبة إلى الأوبئة الحلقية التي تفتك بالأمم الشرقية فتحصد المروءة، وتطيح بالشرف، حيث انسابت الأفاعي البشرية في ظلام الاحتلال تنفث سمومها في الأجسام الصحيحة، فإذا الإنسان الطاهر العف يتحول مارداً فاجراً يعب الخمر في نهم، وبريق الدم المصون في تهتك، ويلطخ وجه بآثام فاحشة يندى لها الجبين، وقد قام محرم بدور الطبيب الحكيم، ففحص الداء فحصاً دقيقاً ثم أخذ يشخص الدواء الناجع، وكان القرآن الكريم قبلته ووجهته، فنادى بالرجوع إلى آدابه، وشهر بمن يجترحون السيئات ويقترفون الفواحش، وقد اتخذ من الجرائم الخلقية التي يرتكبها الإباحيون، وتنشرها الجرائد اليومية مادة دسمة لإنتاجه. وفي الجزء الأول من ديوانه أقاصيص شعرية تجلي هذه الفضائح، وقد أحاطها الشاعر بسياج من النصح الأدبي، والتوجيه الخلقي. وأنك لتلمس لهفة محرم وأسفه حين يتحدث عن شرذمة غاوية ائتلفت على البغي فهوت إلى حمأة الرذيلة تلغ في أرجاسها الشائنة غافلة عن عتاب الله نابذة وراءها عهود محمد وزواجر التنزيل فهو يقول:

أسيت لمسرفين أعان كلاّ ... على إدمان لذته أبوه

إذا ما عاقر الفحشاء منهم ... أخو النشوات غناه أخوه

لهم فتكات أطلس ما يواري ... دم الهلاك مخلبه وفوه

عليهم من خزاياهم سمات ... وما أنفوا الفجار فيجحدوه

إذا ما عن في الظلماء صيْد ... تداعوا حوله فتصيدوه

تردي بينهم فتعاور وه ... إلى أن قال قائلهم دعوه قفا السمار واد لجوا إليه ... وأكبر همهم أن يبلغوه

أيأمرهم بتقوى الله قوم ... وما عرفوا الآله فيتقوه

شباب العار ما تركوا رجاء ... لنا في مصر إلا خيبوه

أناس ريعتِ الغبراء منهم ... وضج العرش مما أحدثوه

أنى التنزيل بالمثلات تترى ... وبالحق المبين فكذبوه

فوا أسفي لعهد الله فيهم ... وعهد محمد إذ ضيعوه!!

وفي ديوان الشاعر من هذا الطراز جذ وات مشبوبة تتقد باللوعة فليتْها وجدت من يسمع أو يجب!!

ومع أن محرما قد نادى في صيحاته الاجتماعية بضرورة التعليم كدعامة راسخة يرتكز عليها بناء النهضة، فقد وجد من الناس من ظن به رغبة عن تعليم الفتاة والنهوض بها إلى ذروة الرقي، رغم ما امتلأ به ديوانه - في الجزء الثاني خاصة - من حث على ثقافة المرأة وإيضاح لمركزها الدقيق الذي تحتله في المجتمع. ولعل هذا الظن الخاطئ قد أتى من مهاجمة الشاعر لدعوة التحرير التي رفع لواءها قاسم أمين، ونحن إذا نظرنا لهذه الدعوة نجد صاحبها يحث على تعليم المرأة وتهذيبها عن طريق السفور والتملل من الحجاب! والشاعر وإن كان من المنادين بضرورة تثقيف الفتاة لا يوافق على السفور مهما تكاثرت المبررات فاندفع إلى مهاجمة قاسم متأثراً بعاطفته الدينية التي تحرم التبرج تحريماً قاطعاً، وما كان له أن يحيد عن ذلك وهو يضع كتاب الله نصب عينه. ولعله كان ينظر من وراء الغيب إلى ما سيجره السفور من فتن فشدد عليه النكير. فمحرم إذن يكتفي بضرورة تعليم الفتاة دون ما عداه، فليس لها أن ترتع في الأسواق، وتزاحم الرجال فيما لم تهيأ له من الأعمال، واستمع حجته في ذلك إذ يقول:

هممنا بربات الحجال نريدها ... أقاطيع ترعي العيش وهي سوائم

وإن امرأ يلقي بليل نعاجه ... إلى حيث تستن الذئاب لظالم

وكل حياة تثلم العرض سبة ... ولا كحياة جللتها المآثم

أتأتي الثنايا الغر والطرر العلا ... بما عجزت عنه اللحى والعمائم

فلا ارتفعت سفن الجواء بصاعد ... إذا حلقت فوق النسور الحمائم سلام على الأخلاق في الشرق كله ... إذا ما استبيحت في الخدور الكرائم

أقاسم لا تقذف بنفسك تبتغي ... لقومك والإسلام ما الله عالم

ولولا اللواتي أنت تبكي مصابها ... لما قام للأخلاق في مصر قائم

نبذت إلينا بالكتاب كأنما ... صحائفه مما حملن ملاحمُ

أحاطت بنا الأسد المغيرة جهرة ... ودبت إلينا في الظلام الأراقم

ألا إن بالإسلام داء مخامرا ... وإن كتاب الله للداء حاسم

ولنقرن هذه الصيحة الناقمة على دعاة السفور بإحدى صيحات محرم في ضرورة تعليم الفتاة، لنعلم أن الشاعر لم يحارب تعليم المرأة في يوم من الأيام، وإنما احتاط لدينه ومروءته، وتمسك بكتاب ربه وهدى نبيه. وحسب الإسلام منه أن يذود عن مبادئه في قوة، ويتمسك بحدوده في إيمان، قال محرم:

ما أبعد الخير والمعروف عن أمم ... تعيش فوضى وترضى بالحياة سدى

وجاهل ظن أن العلم مفسدة ... للبنت فانتقص التعليم وانتقدا

مهلا قرب فتاة أهلكت أسرا ... بجهلها وعجوز أفسدت بلدا

الأم للشعب إما رحمة وهدى ... أو نكبة ما لها من دافع أبدا

لا يذهب الشعب في أخلاقه صببا ... والأم تذهب في أخلاقه صعدا

لا تيأسوا وأعدوا الأم صالحة ... في السبيل إلى إصلاح ما فسدا

على أن الشاعر لم يهاجم قاسماً وحده، بل كان يهاجم من المسلمين من يرى منه نزوعاً عن الشريعة، وكان يتأدب في هجومه بتوجيه الإسلام، ويسترشد بتعاليمه، فلا يميل إلى الإسفاف والمهاترة، أو يعمد إلى التشهير والتنديد، بل إن قصائده في أعداء الإسلام (كهانوتو وكروم) كانت تخضع إلى المنطق المعتدل وتتحاشى ما ينفر منه الأدب والذوق. ولله محرم، فطالما جادل بالتي هي أحسن، ودعا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، مع أن الشعراء يبيحون لأنفسهم من الإقذاع في الهجو ما ينأي عنه ذو الخلق الكامل والنبل الأصل!!

بقى أن نتحدث عن الناحية التاريخية في شعر محرم، وهي ناحية هامة شغلت جانباً كبيراً من اهتمامه، فلا تكاد تخلو قصيدة من قصائده من إشارة إلى موقف تاريخي طواه الزمن، فخلده الشاعر ولا جرم فقد كانت ثقافته تاريخية إسلامية، حيث استوعب ما قدر عليه من الصحائف المجيدة التي تجلو عظمة الفتح الإسلامي ويتحدث عن أبطاله المعلمين، فكان له من هذا الاستعياب مادة دسمة أكسبت انتاجه قوة ذاخرة، وأمدت سعره بأسباب متينة من الروعة والتفوق!! وإذا كان الشاعر قوي الإيمان بعظمة القادة المبرزين من أعلام الإسلام، فقد فتحت له عاطفته الدينية أبواب القول فصال وجال في ميدان التاريخ حتى لينفرد وحده بين شعراء العربية بتصوير البطولة الإسلامية تصويراً لا يتعلق بغباره متعلق، مهما حاول التقليد.

لقد نظر محرم إلى أعظم أبطال الإسلام محمد فبهرته عظمته الفائقة، وأخذته روعته الخارقة، فنظم إلياذة كبيرة تقع في عدة آلاف من الأبيات المختارة المنتقاة، يسجل بها تاريخ الرسول الأعظم من ميلاده إلى أن جاءه اليقين. وقد قرأتُ ما وقع لي من شعر الإلياذة فكدت أستظهره في نهم، وتأكدت أن بلاغة محمد قد نضحت عليه من بيانها الرائع، فتطامن له المعنى الجموح، ووقف يده على النادر اليتيم من الأساليب، وقد راعى أحمد منازع حديثه، فهو في بدر وأحد يجلجل ويهدر حتى ليسمعك الصليل والصهيل، وقد يعمد إلى القافية الشموس في موقفه الحماسي. فيخضعها لبيانه المشرق. وللقارئ أن يطالع قصيدته الفائية في فتح مكة فهي وحدها الحجة والدليل.

وكنت أقع في دهشة عجيبة حين أجد الشاعر يتكلم في الموضوع الواحد مرات متعددة، وهو في كل فريدة من فرائدة يطالعك بمعان لم يجش بها خاطره قبل ذلك، وقد فرض على نفسه أن يحي رسول الله في كل عام بقصيدتين في مناسبتي الهجرة الشريفة والمولد السعيد. أضف إلى ذلك ما يعرض من المواسم الأخرى كذكرى غزوة بدر، وذكرى الفتح! ثم هو بعد هذا كله يشعر بأنه لم يقل شيئاً بجانب ما يليق بعظمة محمد فيقول في مخاطبته:

ما في النوابغ من لبيب حاذق ... إلا وأنت ألب منه وأحذق

والقول مستلب المحاسن عاطل ... حتى يقول العبقري المفلق

أنت المجال الرحب تعتصر القوى ... فيه وتمتحن الجياد السبق

حسان منبهر وكعب عاجز ... والنابغ الجمدي عان موثق

أطمعهّم فتجاوزوا فيك المدى ... وأبيت فانصرفوا وكل مخفق لي عذرهم ما أنت من عدة المنى ... إلا وراء مخيلة ما تصدق

والحق أنه - رحمه الله - كان يجد في الذكريات الدينية ظلاً وارفاً يتفيأه في هجير الحياة، فهي تتيح له الموازنة بين الحاضر والماضي مما تكلمنا عنه قبل ذلك، كما تمكنه من إسداء النصائح الصادقة لأبناء الدعوة المحمدية في مختلف البقاع وتلك رسالة الشاعر العامل، إذ يحمل بيده المشعل المضئ فينير السبيل.

وكنت أود أن أتكلم عن الإلياذة كوحدة مستقلة فأعرض لها ببعض التحليل والتسريح، ولكن القدر قد كتب لها أن تظل في مهملات وزارة المعارف مجفوة منسية في عصر مجحف ظالم رسبت الدرر الغالية في قاعة، وطفت الجيف المنتنة فوق سطحه، فطبعت دواوين المتشاعرين من الهتافين والمصفقين، وأهملت ملاحم النوابغ الملهمين. ولولا ما قرأته في المجالات الأدبية والعلمية كالرسالة والثقافة والأزهر من قصائد متناثرة تنتمي إلى إلياذة محرم لظنّها خرافة مختلق مريب!!.

وإذا تعدينا تاريخ محمد إلى غيره من المرسلين فإننا نجد محرماً قد اندفع أيضاً وراء عاطفته الدينية فنظم في قصص الأنبياء معلقة طويلة ألقاها في موسم الشعر وقد ابتدأها بقصة آدم وحواء، وخروجها من الجنة، ثم دلف إلى الأنبياء الذين ذكرهم القرآن فروى قصصهم الماضية مبيناً جهود كل نبي في دعوته، وما قابله به قومه من العناد والاستخفاف، ثم ما كان في النهاية من ظهور الحق وخذلان الباطل، وإن كان هناك فرق شاسع بين حديث الشاعر عن الأنبياء في ملحمته الجيدة، وحديثه عن محمد في إلياذته العامرة، حيث كان في الأولى مؤرخاً يسجل الحوادث كما حكاها القرآن، وتناقلها الرواة والمفسرون دون أن تقوم شاعريته بتوليد بارع أو ابتكار رائع؛ ولكنه في الإلياذة قد جمع بين التاريخ والفن، فهو يبدع في الفكرة والعرض معاً كما يرسم صورة للزمان والمكان. وقد يهتم بالجزئيات الصغيرة فيصوغها في لباقة تحمد للنائر المترسل فما ظنك بالمقيد بقافية ووزن!! ذلك توفيق كبير.

رحم الله محرماً فقد أسدى إلى العروبة والإسلام يداً بيضاء لم يسلفها شاعر عربي قبله، ومع ذلك فقد عاش حياته الطويلة في دمنهور كادحاً متعباً لا يجد الناشر الذي يظهر له ديوانه الرائع في ثوب لائق بمركزه المرموق، ثم وافاه الأجل المحتوم فسكت الأدباء عنه في قسوة، غافلين عن أدبه الحي وفنه الرفيع، وكأني له في حنادس القبر يردد متأوهاً نائحاً بيته الحزين.

ظمئت وفي فمي الأدب المصفى ... وضعت وفي يدي الكنز الثمين

(جزيرة الروضة)

محمد رجب البيومي