مجلة الرسالة/العدد 820/صور من الحياة:

مجلة الرسالة/العدد 820/صور من الحياة:

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 03 - 1949



فتى من الريف

للأستاذ كامل محمود حبيب

قال صاحبي: جئت إلى القاهرة - أول ما جئت - لألتحق بالأزهر، وكانت أمي قد نذرتني للقرآن، ونذرني أبي للعلم؛ فأنا وحيدهما، وأنا أمنيتهما على الله حين أحسا بالوحدة وقد خلت الدار من الحياة والحركة لأنها خلت من مرح الطفولة وجمالها، وحين شعرا بأن تاريخهما على الأرض يوشك أن ينبت فما لهما ولد، وحين عاشا زماناً يجدان لذع القحط والجفاف، جئت إلى القاهرة وأنا فتى ريفي لا أعرف المدينة إلا معنى يقع على أوتار أذني موقع النغم الموسيقي العذب، فينجذب له قلبي وتنبسط أساريري، ثم رأيتها فإذا هي نور يخطف البصر، وحركّة يتفزَّع لها القلب، وثورة يحار لها الفؤاد، وحياة دائمة مضطربة لا تنام ولا تخبو. وبدت عليَّ سمات الحيرة والارتباك، فإنه ليزعجني أن أسير في الشارع خفية المدنيّ أن يمكر بي وله أفانين شيطانية تسخر من بساطة الريفي وسذاجته، وخيفة السيارة أن تصفعني ومالي عهد بأساليب الحيطة والحذر، وخشية الترام أن يحطمني وبه نهم دائم إلى لحم البشر يتأرَّث ولا يشبع. ليتني كنت أستطيع أن أغدو وأروح في شوارع القاهرة أتهادى في مشيتي، وأختال في جبتي، وأفخر بعمامتي، وتحت إبطي محفظة بها وريقات صفر لا أعي مما فيها حرفاً!

وكان أبي - رحمه الله - قروياً، نشأ وتربى في الريف لا يبرحه إلا لماماً، أتسم بسماته وانطبع بطابعه، والريف ينفث في بنيه روح الكسل والتواكل، فهو يقضي ساعات الشتاء يستمتع بالدفء والفراغ، ويطوي عمر الصيف يستروح النسمات الهينة اللطيفة في ظل شجرة، يجلس إلى رفاقه على المصطبة يتجاذبون أخبار القرية، أو يتربعون على الثرى يلعبون السيجة، أو يعقدون المجالس الصاخبة يشربون الشاي الأسود. ولا همَّ له - من بعد - إلا أن ينظر - بين الفينة والفينة - إلى النبت وهو ينسرب من بين الثرى لينمو رويداً رويداً، وإلا أن يرقب البهائم وهي ترعى البرسيم في هدوء وعلى مهل. وسكن أبي إلى هذه الحياة وهي تنطوي على نسق واحد، فأصبح لا يطيق صخب المدينة ولا يصبر على ضجتها. ولكنه ما يستطيع أن يقذف بي إلى القاهرة وحيداً، وهو لا يطمئن إلى واحد شباب القرية وطلابها ممن تزخر بهم المدينة لأن فيهم الغفلة والطيش، ومرت الأيام وأبي لا يستقر على رأي.

ثم عهد بي أبي - بعد لأي - إلى الشيخ فهمي وهو شيخ كبير من شيوخ القرية، نيف على الخمسين ولما يبرح طالباً في الأزهر، يأتي إلى الجامع بين الحين والحين، يجلس إلى أستاذه ساعة أو بعض ساعة، ثم ينفلت إلى القرية في غير تمهل ولا تلبث. وهو حريص على أن يظل طالباً في الأزهر على رغم أنه لا يطمئن إلى حلقة الدرس، ولا يُعني بالقراءة والمطالعة، ولا يأخذ نفسه بالمذكراة والحفظ، وهو ضنين بمسكنه في القاهرة، وهو حجرة ضيقة قذرة، لا تتنسم هبّات الهواء النقي، ولا تغتسل بأشعة الشمس الدافئة، ولا ينفتح جفناها على نور، ولا ينتفض عن جنباتها الغبار، عُطَلُ من الأثاث إلا من حصيرة بالية لا تكاد تستر أرض الحجرة، وإلا من مخدة ولحاف مشت عليهما أحداث الزمن فتركتهما مزقاً لا تتماسك، وإلا من صندوق ضم أشتاتاً من حاجات الطالب العزب، مبعثرة متناثرة في غير عناية ولا ترتيب: ففيه الخبز والغموس، وفيه اللباس والمنشفة، وفيه الكوز والإبريق، وفيه. . . وفيه الكتاب والحذاء، وإلا من زير مهجور في ضاحية وإلى جانبه موقد. . . وعاش هذا الشيخ بين القرية والقاهرة، وانطوت السنون فما أفاد علماً ولا أصاب عقلاً ولا بلغ غاية، غير أنه عرف مسارب القاهرة ومنعطفاتها.

وتنازعتني عاطفتان متناقضتان نحو هذا الشيخ - رائدي - فأنا أطمئن إليه لأنه يكشف أمامي الطريق، وينير لي متاهات القاهرة ومضلاتها، وغداً يفتح أمامي باب الأزهر فأدخله لأول مرة وعلى شفتي ابتسامة وعلى هامتي كبرياء، أدخله طفلا يستشعر الرجولة الباكرة والشباب المتوثب والرزانة المتكلفة، وغداً يريني شيخي وهو في رأي عيني لا يبذني بشيء سوى لحيته البيضاء المرسلة التي تبعث في من حواليه المهابة والاحترام والخوف، وأنا - إلى ذلك - أمقته لأنني أحس فيه معنى من معاني جهلي، وعلامة من علامات ضعفي، فأنا لا أستطيع أن أتبين طريقي إلا حين يسير إلى جانبي. وأنا أحتقر عقله، فكيف يبلغ هذه السن وهو ما يزال طالباً لم يظفر بالشهادة ولا بلغ مبلغ العلماء! واكره رجولته وهي قد تضاءلت في ناظري حين دخلت الحجرة التي يسكن فوجدتها على تفاهتها وقذارتها تضطرب في غير نظام، وتموج بدو يبات الأرض. وأبغضه حين يتكلف العطف ويتصنع الحنان، وهو لا يحس شيئاً من هذه العاطفة، فهو رجل قفر ممحل، عزب لم يشهد معنى الأبوة، ولا ذاق لذة الابن!

وأراد رائدي أن يغريني بأن أتخذ من حجرته مسكناً فما رضيت، وكيف أفعل وأنا قد رأيت (السام الأبرص) يدرج على جدرانها فسرت الرعدة في مفاصلي، وإني لأخاف هذه الحشرة وأبغضها وأتفزَّع لرؤيتها. هذه الحجرة قد بعثت في الانقباض والضيق، واستشعرت لدى بابها أن خواطري الجميلة قد انهارت كلها، خواطري التي حاكها خيالي منذ أن غادرت القرية، ومنذ أن هبطت القاهرة لأرى الحياة والحركة والنور. أين النور المتدفق وهو يغمر الشوارع والمنعطفات ويسيل من المنافذ والأبواب؟ أين ضجة الحياة وهي تصاعد صيحات تهتز لها أرجاء السماء؟ أين النشاط والحركة؟ أين المرح والسعادة؟ لقد توارى كل أولئك خلف جدران هذه الحجرة. يا عجباً! كيف يعيش الظلام إلى جانب النور، ويطمئن الهدوء إلى جانب الضجة، ويحيا الصمت إلى جانب الضجيج، وتستقر الذلة إلى جانب الكبرياء؟ ويهدأ الصغار إلى جانب السمو، ويلصق الشقاء إلى جانب السعادة؟ وسيطرت علي الدهشة فسلبتني من خواطري اللذيذة، وتبين لي - لأول مرة - كيف يجتمع النقيضان في صعيد واحد!

وأصر رائدي وأصررت أنا، فما استطاع أن يثنيني عن عزمي، ولا رضي بأن أبيت في المنزل، وإن المنزل ليستنفذ من مالنا في ليلة واحدة ما يكفينا أياماً، وهو حريص على المال شحيح به، حتى علي أنا وهو مال أبي. ثم استحر النقاش بيني وبينه، فقلت: (أبيت في حجرة الشيخ علي)، ووافق هذا الرأي هوى في نفس رائدي، ولكن غاظه أن أفضل تلك على هذه!

والشيخ علي فتى من طلاب الأزهر قميء نحيف ضعيف يكاد يتهاوى من هزال، ويوشك أن ينقض من وهن، يخيل إلى من يراه - بادي الرأي - أنه بقية من إنسان أو أنه نفاية رجل. وإنه ليحس مكانه من الناس وقد تخلف عنهم، فهو ما يبرح يتهادى في مشيته، ويتأنق في حديثه، ويشمخ بأنفه، ويتطاول على رفاقه، ولكنه لا يبلغ أن يكون رجلا!

وهو يعيش بين خمسة من ذوي قرابته في حجرة واحدة، وهو رئيسهم، لأنه يكبرهم جميعاً في السن، ولأنه أعرفهم بالقاهرة، ولأنه ألصقهم بالأستاذة، يتقسمون أجر المسكن على سواء، يتعاونون على نفقات العيش، ويتآزرون على حوادث الحياة، يتكاتفون على قسوة الغربة، ويتظاهرون على مشقة الدرس

ودخلت حجرة الشيخ علي مثلما دخلت حجرة الشيخ فهمي من قبل، فهما على نمط واحد، لا تبذ واحدة واحدة. ولكن نفسي اطمأنت إلى هذه حين لمست فيها الإيناس بقدر ما نفرت عن تلك حين وجدت فيها الوحشة. أنست إلى هذه لأنني ألفيت هنا الصاحب والرفيق، ولأنني وجدت ومهرباً من الشيخ فهمي، فما لي به حاجة من بعد، وهو رجل ضيق العقل، راكد الذهن، شحيح النفس، جامد الكف؛ وهؤلاء رفاقي: نغدو معاً إلى الأزهر، ونروح سوياً إلى الدار. وهدأت هواجسي، فأنا الآن أستطيع أن أعبث مع صحابي كيف أشاء، وأستطيع أن أمكر بالشيخ علي حين تسوّل لي شيطانيتي أن أفعل، وهو الآن وليّ أمري وقائدي!

وصرفتني روح المرح واللعب والعبث - بادئ ذي بدئ - عن أن ألمس ما أعاني من شظف وشدة، وعن أن أحس ما أقاسي من حرمان وضيق. والشيخ علي ممسك لئيم مخادع، يراوغ الواحد منا عن قروشه، ويداوره عن مصروفه، وهو فظ لا يستشعر قلبه الحنان ولا الرحمة، ولا يبض كفه بدرهم أتنسم به روح الحياة الناعمة في القاهرة، فمشت زماناً لا أتذوق إلا الخبز والجبن والمالح، ثم جف حلقي وما لي طاقة بذلك!

وضاقت نفسي بما أجد فانطلقت إلى الشيخ في ثورة جامحة أسأله حقي، فرتب لي مليماً كل يوم لأشتري به متعة الحياة ولذة العيش!.

وادخرت - بعد أيام - مليمات، وإن نفسي لتهفو نحو الفاكهة وقد حرمتها منذ زمان وأنا أرى دكان الفاكهي في غدوي ورواحي فيجذبني إليه في شدة وعنف ولكني لا أجد الجرأة على أن أقف ببابه أساومه. ثم دفعني شيطاني إليه - بعد حين - فاشتريت ربع أقة عنب دفعت ثمنها ستة مليمات. ولكن حرارة القيظ تركت العنب يتلهب كأنما أوقد عليه بنار جهنم، ثم دفعني شيطاني مرة أخرى فاشتريت ثلجاً بمليم واحد. وهكذا أنفقت في واحدة كل ما أملك: سبعة مليمات ادخرتها في أيام وأيام.

وتسللت إلى حجرتنا في حذر وأنا أوقن بأنها خاوية، وأن أصحابي جميعاً في الأزهر ولن يحضروا إلا بعد ساعة؛ ودلفت إليها على مهل، ثم وضعت أمامي العنب وسويت عليه الثلج، وطفقت أنظر إليه في شوق وأتأمله في شغف، وأتناول الحبة إثر الحبة، أتذوقها في لذة وسعادة وطمأنينة.

وعلى حين فجأة انفتح الباب ودخل الشيخ عليَّ، واعتراني الارتباك والخجل، ونظر هو إلى الطبق أمامي وقد ملأَته الدهشة وسيطر على العجب واندفع يلومني: (عنب وثلج! عنب وثلج! هذه هي متعة الحياة ولذتها!) ثم انصرف وعلى وجهه سمات الغيظ والحرمان في وقت معاً.

وعجبت أنا لحديث الشيخ، ثم انطويت على نفسي أحدثها: (ما أتفه الحياة وولذ ائذها إن كانت تشتري بسبعة مليمات!)

ثم انطوت الأيام لتعلمني أن متع الحياة ولذ ائذها غالية غالية تكلف المرء الدم والعمر والمال جميعاً. . .

كامل محمود حبيب