مجلة الرسالة/العدد 821/صور من الحياة:
مجلة الرسالة/العدد 821/صور من الحياة:
الشيخ علي
للأستاذ كامل محمود حبيب
يا لقسوة الحياة حين تستلب الطائر الغريد من حريته فترغمه على أن يعيش سجيناً يضطرب في قفص، يدف بجناحيه بين السياج فلا يستطيع أن ينشرهما. يرى الهواء والماء والشجر من وراء القضبان ولا يجد لذتها، ويحاول - في وحدته - أن يترنم بإلحان الغابة الشجية فلا تنبعث منه إلا صيحات الأسى والألم، ثم ينطوي على نفسه في يأس يستشعر الحزن والكمد، فالباب مغلق من دونه وماله طلقة بأن يظهره. ولكنه - وهو في سجنه - لا ينسى أن يسرِّي عن نفسه بعض ما يضنيها فيعبث بها ويعبث منها.
مازلت - يا صاحبي - أذكر يوم أن حدثني أبي حديث سفري إلى القاهرة لألتحق بالأزهر. فلقد كان لكلماته - إذ ذاك - نغم حلو يبعث في نفسي اللذة والطرب، ويشيع في قلبي السعادة والنشوة، ويملأ جوانحي مرحاً وسروراً وطافت برأسي أخيلة جميلة جذابة فتراءيت في عين نفسي شيخاً فيه المهابة والوقار، وفيه الهدوء والرزانة، على وجهه سيما العفة والطهر، يدخل الأزهر في صمت ويجلس إلى شيخه في خشوع، يتأنق في جبته، ويختال في عمامته فابتسمتُ. . . ابتسمت حين أحسست بالسمو والعظمة، فما في صاحبي من رأي القاهرة أو دخل الأزهر ولا مَن لبِس العمامة أو جلس إلى شيخ. ولكن أين أنا الآن مما كان في خيالي؟ لقد كان حلماً جميلاً يوشك الآن أن ينطفئألقه، فأنا أشعر كأنني أعيش وحدي في ناحية من الأرض لا أعرف عنها شيئاً لا أتفاعل معها ولا تجذبني هي إليها. وأنا أحس الضيق والملل حين أجدني بعيداًعن داري وأهلي لا أرى أبي ولا المس عطف أمي ولا استمتع بالحديث إلى رفاقي في القرية
ومرت الأيام وأنا في القاهرة أعيش مثلما يعيش الطائر الغريد سُجن في قفص، فلا أجد لذة الحياة ولا متعة المدينة ولا رفاهة العيش، أذوق لذع الغربة وغضاضة الحرمان، ولا أرى من دنيا القاهرة سوى الأزهر والحجرة وما بينهما فحسب. أعدو إلى الأزهر أستمع إلى شيخي فلا أفهم عنه شيئاً، وأحفظ كلماته فلا تطرب لها نفسي، وأستظهر عباراته فلا يهتز لها قلبي. ثم أروح إلى الحجرة التي أسكن لأندفع مع رفاقي في ثرثرة وهذر ما ينتهيان.
وضقت بالحياة هنا في القاهرة، وضاقت هي بي، فذهبت أتلمس لنفسي متنفستا ً بين صحابي في الأزهر، وبين رفاقي في الحجرة، فتفجرت حياتي عن لذاذات فيها البهجة والسرور. فنحن - أنا ورفاقي، حين نغدو إلى الأزهر لا نهفو إلى الشيخ ولا نسعى إلى الدرس، كدأب الطالب المنتسب لا يلصق بشيخ ولا يوثق إلى ميعاد ولا يقيد بدرس، ولكن ننطلق إلى حماقات الصبي وسفاهات الشباب، ولكثير من شباب الأزهر حماقات شيطانية تبدو عندما تهب أول نسمة من نسمات الصبححين يوشك الأزهر أن ينفض عنه سنات النوم، ومن بعد الظهيرة حين يثقل الكرى أجفان الطلبة من فرط الشبع والامتلاء، ومن بعد صلاة العشاء حين تنهد الأجسام من أثر الكلال والتعب. فما نبرح في هزل ومزاح حتى يضج صحن الأزهر، وحتى يضيق بنا من يتكلف الرزانة، وحتى يثور من يريد أن يفرغ إلى الدرس أو من يطمع في أن يهدأ إلى الفراش. فلا نخرج من هناك إلا حين ترتفع في وجوهنا عضا المشد أو توشك أن تصفعنا نعال الطلبة.
ونحن حين نروح إلى الحجرة نتحّلق حلقة واحدة نتفكه بما يفعل أساتذتنا ونتندر بما يقولون ونتهكم عليهم في عبث وإقذاع. وإن أعجزتنا فنون الحديث أخذ شاعرنا يقرأ طرفاً من قصص أبي زيد الهلالي أو الزناتي خليفة أودياب، يقرأ في غير تعثر وينطلق في غير توقف، وهو يترنم بما يقرأ في صوت رقيق جذاب يأخذ اللب ويأسر القلب. وقد نجلس إلى رجال ممن نزحوا عن قريتنا منذ زمان يبتغون سعة من الرزق هنا في القاهرة فنستمتع معاً بشرب الشاي الأسود، ويستمتعون هم بوقت جميل فيه المرح واللذة، ونستمتع نحن بما نسمع من أغانيهم الريفية وألحانهم الشجية، فتمتلئ الحجرة ضجيجاً تهتز له أرجاء المكان. فلا تهدأ العاصفة إلا حين يدخل الشيخ علي في وقاره المصنوع وهو ينادي بصوت أجش (الله، الله! هذا هو العلم يا مشايخ!) فينقض السامر في صمت. أما أنا فأنطلق إلى لحافي أتلفف فيه، أواري ابتسامة السخرية وقد تطلْق بها وجهي.
ولطالما أحسست السعادة بين صحابي في الأزهر ورفاقي في الحجرة فما يزعجني إلا هذا الشيخ القزم المعروق، وهو يثير في نفسي الكآبة والحزن، وإن حديثه ليبعث فيّ الملل والضيق، وإن حركاته لتحملني على النفور والبغض، وإن طباعه لتبذر فيّ غراس الكراهية له والاشمئزاز منه.
والشيخ علي فتى ضئيل مهزول تقتحمه العين وتزدريه النفس، يتعالى حين يحس الصغار، ويترفع حين يحس الضعة، ويتكبر حين يحس الذلة، في وجهه عبوس، وفي كلامه خشونة، يتصنع الرقة ويتكلف الظرف. وفي طبعه الشراهة والأنانية فهو يحرمني مال أبي، فما يحبوني بقرش أشبع به بعض رغبات نفسي، وإنها لتدفعني إلى أشياء أراها في الشارع، أهفو نحوها ولا أجد السبيل إليها. وهو يحرمني حاجات القرية، فأبي يرسل إلي الدجاج والأرز والفطير والعسل والسمن و. . . فأراه وأشتهيه ولكن يدي لا تستطيع أن تبلغه؛ وإن كبريائي لتترفع عن أن تتحدث بهذا لواحد من الناس. وهو فظ لا يَجلس إلى واحد منا ولا يتبسط معنا في الحديث، ولا يلقي إلينا بالتحية، صلفاً منه وتيهاً، فهو - في رأي نفسه - شيح يوشك أن يكون عالماً. ثم هو يتأنق في لباسه الرخيص ويحرص على أن يلبس نفسه - دائماً - ثوب الطاووس.
اشدّ ما غاظني ما أرى من طباع هذا الشيخ وفيها اللؤم والضعة، ولشد ما ضايقني أن أراه يحاول أم يضعني منه موضع الخادم وأنا شموس صعب، ولشد ما حزّ في نفسي أن يزعم لنفسه الرئاسة فيريد أن يبسط علينا سلطانه، وما هو في القرية بشيء.
وثارت شيطانيتي - ذات يوم - ودفعتني إلى أن أعبث بالشيخ فرحتُ أنشئ كلاماً موزوناً مقفى فيه الهجاء المقذع والتهكم المر، والسخرية اللاذعة، أخاطب به هذا الشيخ القميء، وأخذت اردده بين رفاقي كل مساء في الحجرة، وفي وقت الظهيرة في صحن الجامع الأزهر، فما تلبث رفاقي أن حفظوه وراحوا يترنمون به وجاءني الشيخ علي يفور غضباً ويتوثب غيظاً، يتكلف الوقار والهدوء ثم صاح في وجهي (أأنت قلت هذا الكلام؟) فقلت (نعم، وويلك إن أنت رفعت يدك أو حركت لسانك!) وذهل الشيخ لحديثي حين رأى فيه الجرأة والغلظة، فقام عني ليكتب إلى أبي يشكوني.
وجاء أبي ليسمع ويرى، فأغلظ لي في القول وعنف في الحديث، ولكنه حين أراد أن يعود إلى القرية أعطاني عشرة قروش. . . عشرة قروش كاملة! ورأت طفولتي في نظرات أبي وفي قروشه معاني خفيت على الشيخ نفسه. وسافر أبي إلى القرية ولكن (قصيدتي) مازالت تلاحق الشيخ في كل مكان ويترنم بها كل لسان.
وضاق صاحبنا بهذا الهجاء فانطلق إلى شيخي ينشر أمامه سفاهتي وقلة أدبي، وشيخي رجل فظ غليظ جافي اليد واللسان. وأراد شيخي أن يبطش بي ولكنه وجدني لين العود لين العظم ضئيل الجسم فنخشى إن هو ضربني أن أتحطم تحت يده أو تحت عصاه، فنهرني في شدة ثم جذبني من أذني جذبة خِلتُ معها أن رأسي قد انشطر لها شطرين. ورضي الشيخ علي ولكن (قصيدتي) مازالت تلاحقه في كل مكان ويترنم بها كل لسان.
ورضيت نفسي بما فعلتُ. ومرت الأيام والشيخ علي يزداد كراهية لي ومقتاً، وأنا أتمادى في إغاظته وإثارته، وهو لا يستطيع أن يثأر مني خشية لساني وجرأتي، وإبقاءً على ما يرسله أبي من مال وطعام.
وجاء ابن عمي من القرية - ذات مساء - يحمل معه الطعام والنقود، وأسررت له أمراً ووافق هو، فلم تمض ساعة حتى كنت أنا وابن عمي والطعام والنقود جميعاً في حجرة الشيخ حسن.
لقد انفلت الطائر الغرِّيد من قفصه ليذر صاحب القفص - الشيخ علي - يندب صحبتي حين فقد أطايب الطعام وهي تهطل عليّ من القرية فأتنسم ريحها ولا أتذوقها، وحين فقد مال أبي وهو كان يستمتع به وأنا أقاسي مرارة الحرمان.
فوداعاً، وداعاً، أيها الشيخ ألقمي، فما في شراهتك وأنانيتك وبخلك ما يدفعني إلى أن أقول لك: إلى اللقاء. . .
كامل محمود حبيب