مجلة الرسالة/العدد 822/الأدب والفن في أسبوع

مجلة الرسالة/العدد 822/الأدب والفن في أسبوع

مجلة الرسالة - العدد 822
الأدب والفن في أسبوع
ملاحظات: بتاريخ: 04 - 04 - 1949



للأستاذ عباس خضر

الأدب والمجتمع:

قامت مناظرة يوم الخميس الماضي في قاعة علي باشا مبارك بكلية دار العلوم، موضوعها (هل الأدب للأدب أو الأدب في خدمة المجتمع؟) ورأس المناظرة الأستاذ عبد الحميد حسن، وتناظر في الموضوع ستة من الطلبة، فأيد الرأي الأول عبد الخالق الشهاوي وأحمد عبد الله البهنساوي ومحمد محمود عبد النبي، وأيد الرأي الثاني محمد موسى طحان وأحمد غنيم وأحمد الزقم.

وسأعرض هنا بعض ما قاله المتناظرون، وأعلن أولاً أني لست محايداً، وإنما أقول بالرأي الثاني، ولهذا سأجعل من همي أن أفند ما لم يفند من أقوال أصحاب الرأي الأول، وأعرض صفحاً عما لا أراه ينفع من كلام أصحاب الرأي الثاني. . . ولا شك أن للقارئ حريته فيما يرى.

قال الشهاوي: إن الأديب ينتج وهو حالم ولا يتجه في إنتاجه إلا إلى الجمال، وليس من هدفه الحق والمنفعة والخير. وأقول: إن الأديب لا يحلم بالهواء وما هو حين يستسلم للغفوة الأدبية إلا يستوحي ما رسب في أعماقه من شئون الحياة وصور المجتمع؛ أما الجمال فلا تعارض بينه وبين الحق والمنفعة والخير، ولم الفصل بينه وبينها وكثيراً ما يكون داعياً إليها؟ وقال هل تريدون أيضاً أن تكون الأساطير الأدبية في خدمة المجتمع؟ ورد عليه غنيم بأن الخرافية في الأدب ليست مقصودة لذاتها وإنما هي تشيد بالمثل العالية.

وقال البهنساوي: إن الأديب يشعر بما شعر حراً فكيف تحملونه على أن يعبر كما يريد المجتمع؟ وقال: إنه قد يغضب من المجتمع فكيف يعبر عن غضبه بما يرضى المجتمع؟ وقال: إن الإنسانية هي نبع الأدب لا الاجتماعية. ورد غنيم بأن الأديب إنسان ممتاز يشعر بما في الحياة شعوراً ممتازاً ويترجم عنه لصالح المجتمع دون أن يملي عليه شيئاً، وإنه حين يغضب من المجتمع لا يعاديه وإنما يثور عليه لإصلاحه، وقال: إن الأديب لا يكون إنسانياً إلا إذا كان اجتماعياً.

وقال عبد النبي: إن الأخلاق اعتبارية تتغير والأدب خالد يعبر عن الحقائق الثابتة. وأقول: نحن لا نريد من الأديب أن يكتب في الأخلاق مباشرة، وإنه حين يثور على وضع من الأوضاع الأخلاقية إنما ينشد التطور ورقي المجتمع.

ورد طمان على أن الأدب فن من الفنون الرفيعة لا يقصد إلا إلى الجمال، فقال إنا لا نسلم بأن الفنون قاصر أمرها على الجمال، فأنت تمر بتمثال الحرية مقاماً في أحد الميادين فيوحي إليك معاني الوطنية ومشاعرها، ولم يقل أحد بأنه يجب عليك أن تشعر بجمال التمثال وتمضي دون أن تحس شيئاً من أهدافه القومية والاجتماعية. ومن ظريف ما قاله طمان: إن (الأدب للأدب) كالنحو للنحو. . أي أن الإنسان بناء على هذا يعرف النحو ويلحن كما يشاء، لأنه يعرفه لذاته لا ليقيم به الكلام. . . وتساءل غنيم: هل الأديب حشرة ائتلافية؟

وقال الزقم: إننا إذا نظرنا في الأدباء الخالدين لم نجد إلا من خلدته آثاره في خدمة المجتمع.

وقد أثار المتناظرون موضوع (التابعي وأسمهان) إذ قال أحد الفريق الأول: إن التابعي يكتب في (آخر ساعة) مذكراته عن أسمهان ليعبر عن أحاسيس هذه الفنانة، ولم يعبأ بمن ثاروا عليه. وقد كان ذلك مثار حملات من الفريق الثاني على شغل تلك الصفحات بمثل ذلك الكلام. والحق أن الفريقين ظلموا التابعي، فليست مذكراته عن أسمهان من (الأدب للأدب) وإنما هي تهدف إلى إغراض اجتماعية وسياسية يستشفها القارئ من خلال ما يعرض من حوادث.

وختم المناظرة الأستاذ عبد الحميد مثنيا على المتناظرين وحسن نقاشهم وما بدا فيه من الروح الرياضية قائلاً بأنه إذا كان العمل الرياضي تمريناً للجسد فهذا تمرين للفكر، والثاني أحق بأن تسوده الروح الطيبة. وآثر الأستاذ ألا يجري الاستفتاء بين الحاضرين لأن المقصود ليس انتصار فريق على آخر وإنما هو بحث الموضوع وتبين جوانبه. وأبدى رأيه في الموضوع فقال أنه لا تعارض بين الرأيين، لأن الأدب ينبع من الفرد ومن المجتمع ومدار الأمر فيه على الصدق، والأديب الصادق التعبير يخدم الإنسانية فرداً أو مجتمعاً.

وقد كان أصحاب الرأي الأول يرددون أن الأديب ليس واعظاً ولا مرشداً ولا مقرر نظريات وعلوم. وكان الفريق الثاني يقول بأن الأديب لابد أن يعالج شؤون المجتمع ويكتب في مشكلاته. وهنا أمر يحسن الالتفات إليه، وهو أن الأديب لا يدعو إلى الأخلاق دعوة مباشرة ولا يعالج مشكلات المجتمع كما يعالجها الباحث الاجتماعي؛ وإنما هو يتناول كل ذلك بطريقته الفنية وصوره الأدبية ومن المسلم به أن تجارب الحياة أجدى من الوعظ إن كان فيه جداء، والأديب يعبر عن تجاربه الشعورية فينقل القارئ إلى عالمه ويؤثر فيه بحيث يجعله مشاركاً له في التجربة، والأديب حين يتجه إلى المسائل الاجتماعية إنما يأتيها من حيث آثارها في صوره وأشخاصه، لا من حيث هي مشاكل يقترح لحلها كذا وكذا.

والأدب الآن يتجه إلى الإنسانية وتحليل النفس، والأديب حين يتغلغل بقلمه إلى إبراز المشاعر الإنسانية وتحليلها إنما يهدف إلى الحق والخير والجمال.

الأدب المصري:

قال الأستاذ بدوي طبانة في كلمة له بالأهرام، إنه لاحظ وهو يحقق كتاب (جريدة القصر وجريدة أهل العصر) للعماد الأصفهاني - أن مصر أنجبت نحو مائة وثلاثين شاعراً في القرن السادس الهجري، جلهم إن لم يكن كلهم مغمورون لم يتناولهم علماؤنا وأدباؤنا بالدراسة كما تناولوا غيرهم من أعلام المشارقة والمغاربة.

وأذكر أن بعض الكتاب قد أثار هذه الموضوع منذ سنين، ونبه على إهمال مصر الأدب المصري مع جدارته بالإحياء والدراسة، وأنشأت الجامعة كرسياً بكلية الآداب للأدب المصري، شغله الأستاذ أمين الخولي، ووضع له منهجاً لم ينفذ، والأستاذ يدرس الآن في الكلية مواد ليس من بينها الأدب المصري وهو لا يزال أستاذ الأدب المصري!

ولا يزال أساتذة تاريخ الأدب في المدارس وكليات الآداب ودار العلوم واللغة العربية يمرون بالأدب المصري عابرين معجلين، وقلما يحظى هذا الأدب بالتفات الأدباء في غير المدارس والكليات.

ولعل من أسباب ذلك أن أكثر مراجع التاريخ والأدب في العصور المصرية المتأخرة مخطوط.

ولا شك أن أول ما يجب عمله في هذا السبيل، هو إحياء هذه الكتب بالتحقيق والطبع لتكون في متناول طلاب الأدب، وعندنا هيئات حكومية وأهلية تعمل في إحياء تراثنا الثقافي، كالقسم الأدبي بدار الكتب، وإدارة التراث العربي بوزارة المعارف، ودار المعارف، فلا وجهت عنايتها إلى هذه الناحية؟.

في معرض الفن الإيطالي:

هناك على شاطئ النيل في قصر الخديوي إسماعيل، أخذت معروضات الفن الإيطالي مكانها، وفي مدخلنا إلى هذا المعرض استغرقنا السرور بمرأى الجنود المصريين حيث تعودنا أن نور السحن الحمراء التي كانت تحتل هذا القصر، وشارك العلم المصر المرفوع قلوبنا في الخفقان. ألا ليت معرض الفن المقام هناك والذي نقصد إليه، كان مصرياً. . حقاً إن الفن لا وطن له كما يقولون، ولكن ظروف المكان تحتاج إلى استدراك. . .

المعرض فخم، والمكان فخم، تنقل بصرك بين اللوحات المعروضة وبين النقوش على السقوف والجدران، فتحار بين هذه وتلك، ومن الغريب أنهما يتشابهان في الفخامة. وقد جلنا بالمعرض، فاستدعى التفاتنا إتقان الأبعاد والألوان، ولكن قلما وقفنا مشاركين في إحساس وشعور. وطالما وقفت وقفات شاعرة أمام لوحات في معارض مصرية، أما في هذا المعرض الإيطالي فلم أحس بالمشاركة الوجدانية إلا في بضع صور منها صورة الحصان الميت وقد وقف بجانبه صاحبه العجوز البائس وملامحه تنطق بأنه لا يملك سواه، وصورة أم تنظر إلى ابنها نظرات كلها حنان، وفي مقابل هذه الصور صورة أخرى كبيرة بها امرأة تحمل طفلها وبقرة بجانبها رضيعها، والصورة الكبيرة فخمة جيدة التلوين، باهرة المنظر، ولكنها فقيرة في الإحساس والوجدان، ومن الصور التي أعجبتني أيضاً لوحة تهجم فيها عنزات على عربة حشيش، وبالقرب منها راعية تبدو فيها (الراعية) واضحة.

وقد وقفنا أمام صورة هناك فحدقت فيها لأرى ما هي، وأنا أقول لصاحبي: هذه الصورة لا بد أنها من (السريالزم) ثم أردفت: إنها تمثل ديكا، قال صاحبي - وهو الأستاذ أنور المعداوي - بما أننا تبنينا فيها ديكا فلا يمكن أن تكون من (السريالزم)!

نصف مليون جنيه يصدع رأس الدولة:

صرح دولة إبراهيم عبد الهادي باشا للصحفيين في أحد اجتماعاته بهم، بقوله (إن ميزانية وزارة المعارف قد تضاعفت عدة مرات حتى أصبحت الآن حوالي ثمانية عشر مليوناً من الجنيهات، تضاف إليها ثلاثة ملايين جنيه للتعليم الجامعي، أي أن واحداً وعشرين مليوناً من الجنيهات تنفق في العام الواحد في نشر نور العلم ومحاربة الجهل في مصر. وقد تدهشون إذا عرفتم أن إيرادات المصروفات المدرسية لا تواجه من هذا المبلغ الضخم غير ثمانمائة ألف جنيه. .).

ومعنى ذلك أن الدولة تنفق على التعليم نحو 26 % مثلا لما تحصله من التلاميذ، وأنت قد تريد الذهاب إلى حلوان مثلاً، فيقدم لك العامل في (شباك التذاكر) ورقة تبرع لإحدى الجمعيات الخيرية بقرش، وإذا ناقشته قال لك: من يدفع ستة قروش لا يكثر عليه قرش! فهل نقول للدولة كذلك: إن ثمانمائة ألف جنيه ليست شيئاً إلى جانب واحد وعشرين مليوناً من الجنيهات؟

والأمر أهون من ذلك، فإن وزارة المعارف تبذل جهوداً وتنفق أموالاً بسبب تنظيم المصروفات المدرسية، فهناك بحث حالات المجانية ونصف المجانية ومن لا يستحق المجانية، وتتفرع من ذلك أعمال كثيرة يقوم بها موظفون ينظرون في أعمار التلاميذ ونسب نجاحهم، وفي إحصاء أبناء المدرسين والصحفيين والضباط وفحص حالاتهم لتبين من يستحق نصف المجانية منهم، وفيمن لديه ولدان ينفق عليهما في إحدى المدارس الثانوية وما يعادها فيعفى بقية أولاده، ومن لديه ولد واحد إذا كان مدرساً وفيمن أخنى عليهم الدهر. . . إلى غير ذلك من التحصيل والرصد وكتابة (الاستمارات) وإعداد الميزانية، مما يخصص له موظفون يتناولون مرتبات ويطالبون بتطبيق (الكادرات).

ولا بد أن كل ذلك يستنفد بعض ثمانمائة ألف الجنيه؛ وما يبقى بعد ذلك، ولنفرض أنه نصف مليون جنيه، يصدع رأس الدولة بالشكاوي، ويشغل وقت الرؤساء والنواب والشيوخ وغيرهم من ذوي الجاه بالوساطات والشفاعات، ويشغل بال المعوزين من آباء التلاميذ ويربك حياتهم ويتحيف مستوى معيشتهم، وقد يحملهم على بذل ماء الوجوه في التوسل والرجاء، ولا يخفى أن الأولاد تنطبع في أذهانهم صور من ذلك تخل بمعيار النظر الصحيح إلى الأمور.

نصف مليون جنيه. . . استغنوا عنه وضموه إلى الواحد والعشرين. وأريحوا أنفسكم أريحوا الناس. . .

عباس خضر