مجلة الرسالة/العدد 822/رسالة العلم
مجلة الرسالة/العدد 822/رسالة العلم
الأرقام الفلكية
للأستاذ نقولا الحداد
في هذا الزمان متى كان عدد شيء يتجاوز المألوف قيل إنه يعد بالأرقام الفلكية. في حرب روسيا مع اليابان في أوائل هذا القرن كان ربع مليون ياباني مقابل ربع مليون روسي، فقيل هذا عدد من الجيوش لم يسبق له مثيل، حتى إذا زاد عدد الجيوش على هذا القدر قالوا هي أرقام فلكية.
وصار عدد الجيوش في الحرب الأخيرة يعد بالملايين فلا بدع أن يوصف بالأرقام الفلكية. ولما كانت أمريكا تنفق فيها كل يوم 64 مليون ريال، وإنجلترا تنفق 14 مليون جنيه، قالوا هذه أرقام فلكية، وكذلك قيل لما خسرت روسيا في الحرب عشرين مليون جندي ذلك لأن في علم الفلك أرقاماً لا يكاد يتصورها العقل ولا سيما أرقام الأبعاد والمسافات بين النجوم والكوكبات فلم يعودوا يحسبون هذه الأبعاد بالكيلومترات أو بالأميال، بل صاروا يحسبونها بمقدار سرعة النور. فما يقطعه النور في ساعة أو يوم أو سنة صاروا يحسبونه مقياساً على اعتبار أن النور يقطع في الثانية مسافة 300 ألف كيلومتر أو 186 ألف ميل. فالأرض تبعد عن الشمس 8 دقائق بهذا المقياس. فلنر ما هي أبعاد الأجرام الفلكية وكيف تحسب. ولنبتدئ بأقربها للأرض، ثم نتقدم صعداً إلى أن يحار العقل في الأرقام والأبعاد.
القمر أقرب جرم إلى الأرض وهو مولودها، يبعد عنها نحو 239 ألف ميل. ولما كان محيط الأرض نحو 25 ألف ميل كان أنه إذا تدحرجت الأرض نحو القمر فقبل أن تتم العشر قلبات تصل إلى القمر. ولو أمكننا أن نقطع الأرض قطعاً كل قطعة بقدر القمر لأمكننا أن نفصل من الأرض 49 قمراً.
والشمس تبعد عن الأرض 93 مليون مليون، فلو تدحرجت الأرض نحو الشمس لقلبت على نفسها نحو 365 قلبة تقريباً قبل أن تصل إليها. ولكن يجب أن نخرج نحن منها قبل أن تشرع تتدحرج، لأن حرارة الشمس تحرقنا عند أول قلبة تقلبها الأرض.
ومتى وصلت الأرض إلى الشمس صهرتها حرارة الشمس التي تبلغ عند سطحها 6 آلاف درجة بمقياس سنتغراد. وإذا سقطت الأرض المصهورة أو المتبخرة إلى باطن الأرض حيث الحرارة 40 مليون درجة سنتغراد امتزجت أبخرة الأرض بأبخرة الشمس.
قلنا إن النور يسير بسرعة 300 ألف كيلومتر في الثانية فهو كسرعة الصوت مليون مرة. ويمكننا أن نفصل من الشمس مليونا وثلثمائة ألف أرض. ولو وضعت الأرض في مركز الشمس ومعها القمر على بعده المعلوم عن الأرض لبقي القمر يبعد عن سطح الشمس بقدر ما يبعد عن الأرض، لأن نصف قطر الشمس 432000 ميل في حين أن بعد القمر عن الأرض 239000 ميل.
حول الشمس 9 كواكب (سيارات) أقربها إليها عطارد. وهو يبعد عنها نحو 36 مليون ميل، وأبعدها السيار بلوتو هو يبعد عن الشمس نحو 4 ساعات نور ولكن متى بعدنا عن نظامنا الشمسي بسرعة النور فبعد 4 سنين و 65 يوماً نصل إلى أقرب نجم إلينا إذا جعلنا وجهتنا إليه. والنجم المسمى قنطوروس أو والنجوم لا تقرب إلى بعضها أكثر من هذه المسافة.
بعض الأحيان نرى أمام الهلال نجمة كأنه يحتضنها، هي كوكب الزهرة، ولكنها تبعد عنه نحو 26 مليون ميل، وهي أكبر منه بنحو 45 مرة.
ولا يخفى عليك أننا لا نزال في جوار الشمس، وما بعدنا عنها أكثر من 4 سنين وخمس السنة إذا سرنا بسرعة النور. أنظر كم في السماء من نجوم فهي لا تكاد تحصى، ولا نرى منها إلا القليل، اللهم إلا بالمقراب (التلسكوب) وهذه النجوم تتباعد ببعضها عن بعض بمثل بعد قنطوروس عن الشمس تقريباً.
أبعد مسافة استطاع أقوى تلسكوب أن يكتشفها هي مسافة 50 مليون سنة نورية.
النجوم التي نراها بالمرقب (التلسكوب) في أثناء الربع وعشرين ساعة ضمن نطاق درب الدبان الذي يسميه الإفرنج الدرب اللبني تبلغ نحو 300 ألف مليون نجم تقريباً. وهذه المجموعة الهائلة من النجوم تسمى (المجرة). وشمسنا مع كواكبها تقع في الثلث الأول بعد مركز المجرة. وجميع هذه النجوم أو الشموس تدور حول المركز وأسرعها أقربها إليه، وأبطئها أبعدها عنه والشمس تقضي 25 مليون سنة لكي تتم دورتها حوله. وقطر محيط هذه المجرة نحو 150. 000 سنة نور، وسمكها نحو 25000 إلى 4000 سنة نور، وإذا جمعت جميع هذه النجوم معاً كانت كتلتها 16000 مليون مرة ككتلة الشمس. وذلك نحو 52 أمامها 27 صفراً من الأطنان.
هذه النجوم أو الشمس التي تعد بالملايين تختلف في الحجم اختلافاً كبيراً. وشمسنا من الحجم الذي هو دون الوسط. والجوزاء المسماة كبيرة جداً بحيث لو وضعت في مركز الشمس لغطت جميع فلك الأرض، أي لملأت الرحبة التي تدور الأرض فيها حول الشمس وزادت عليها. يعني أن قطرها يزيد على 272 مليون وهي تبعد عنا نحو 30 سنة نورية. وتعد من كوكبة الجبار وهي أسطع الكواكب في السماء
ومعظم النجوم جماعات جماعات، كأنها أسراب متضامنة وتسعى كوكبات. وبعضها مجموعة نجوم وبعضها تعد بعشرات الألوف ومئاتها. وكل كوكبة منظمة قائمة بنفسها وتدور على نفسها. وفي الوقت نفسه تدور مع سائر الكوكبات الأخرى والنجوم حول مركز المجرة العظيمة.
ونحن إلى هنا ما زلنا في نطاق المجرة فإذا خرجنا منها يجب أن نطوف على بعض مليون سنة بسرعة النور من حول مركز المجرة من جميع النواحي، فنشرع نصطدم بمجرات أخرى مثل مجرتنا وهي مبتعدة بعضها عن بعض كبعدها عن مجرتنا، ونظام كل منها كنظام مجرتنا ولكنها تختلف حجماً اختلافاً قليلاً.
وإلى الآن أمكن العلماء أن يكتشفوا نحو 30 مليون مجرة. وقد يمكن أن يكتشفوا غيرها متى نصب مرصد كابسفورنيا العظيم الذي تبلغ قوته أربعة أضعاف قوة مرصد جبل ويلسن الذي هو أعظم مرصد إلى الآن. ولما كان النور الذي يرد من أي نجم إلى الموشور (أي المظياف الذي يحل النور إلى ألوانه السبعة) يدل على أن النجم يبتعد عنا إن كان طيفه يدنو من الأحمر، ويقترب إلينا إن كان يدنو من البنفسجي، فقد رئي أن طيوف المجرات والأجرام تدنو من الأحمر (ماعدا بعضها لأسباب لا محل لتفسيرها هنا) وهو أمر يدل على أن الأجرام تتباعد بعضها عن بعض ومقدار الانحراف أو الابتعاد يدل على مقدار سرعتها.
ومعنى ذلك أن الكرة الكونية الشاملة جميع العوالم تنتفخ وتتسع. والمتطرفة منها تبتعد بأسرع من القريبة للوسط. وعلى بعد 135 مليون سنة نورية تبلغ سرعتها 14. 300 ميل في الثانية ومتى صارت السرعة (على بعد آخر) كسرعة النور أي 300000 ميل فلا يعود أعظم المراصد يرى ذلك الجرم الذي فاقت سرعته سرعة النور مهما بلغت قوته.
وبحسب رأي ادنغتون أن حجم الكون الأعظم يتضاعف كل 1300 مليون سنة. فإذا صحت نظريته فالكون كان أصغر جداً مما هو الآن. وعلى حسابه فالكون ابتدأ منذ 90000 مليون سنة (قبل الخليقة أي قبل 4004 سنة ميلادية). وماذا كان قبل أن ابتدأ هذا السكون؟؟
وفي رأي تجايمس تجينز. ابتدأ الكون مجموعة فوتونات أي ذرات أيثر كانت مالئة الحيز الكوني. ثم مَدَّ الله تعالى أصبعه فحرك هذا البحر الفوتوني فجعلت الفوتونات تتجمع الكترونات فبرتوتونات فذرات فجزئيات فأجسام فأجرام فعوالم فأكوان. وبعد أن تشع كل ما فيها من حرارة تتقلص وتعود تبتدئ. أن تتمدد من جديد وتعود إلى سيرتها الأولى. وهكذا دواليك من الأزل وإلى الأبد بلا بداية ولا نهاية. واللانهاية واللابداية ملك الله. فلا يمكن الإنسان أن يحصيهما بقاصر عقله.
وفي رأي علماء آخرين أن محيط مجموعة المجرات التي هي كرة الكون الأعظم (وخصوصاً في رأي اينشطين) نحو 6000 مليون سنة نور. وهي ذات قدر محدود أي معين لا يزيد ولا ينقص. فبحسب حساب انشتاين أن الكون مؤلف من إلكترونات تبلغ نحو 6 أمامها 72 صفراً (1072 6) وهي ضمن نطاق 6000 مليون سنة نور كما تقدم.
وبعد هذا النطاق لا توجد أجرام مادية وإلا شعرنا بوجودها بواسطة مراصدنا وعن يد إشعاعاتها إن كانت من طبيعة كوننا الأعظم هذا. أما إذا كان ثمة بعد ذلك عوالم أخرى ليست مادية أو ليست من طبيعة كوننا هذا فليس لنا أن نقول بها ما دام ليس لنا دليل حسي على وجود شيء آخر. وأما أن نفرض فروضاً ونقول قد يمكن أن يوجد عالم آخر يختلف عن عالمنا فليس من منطق يبرر هذا الفرض. وإلا يمكننا أن نفرض ألوف الفروض ويكون الكلام ثمة لغواً.
وقد نسأل: إذا كان هذا الكون نطاق واسع يحده محيط قدره 6000 مليون سنة نور فماذا وراء هذا النطاق؟ هنا يقف العقل حائراً لأنه لا يستطيع أن يتصور المحدود الذي لا وراءه شيء - لا يستطيع أن يتصور النهاية التي لا شيء وراءها كما أنه لا يستطيع أن يتصور اللابداية. هنا يبتدئ جهل الإنسان المطبق مهما تعمَّق في العلوم، وتبحر في الفلسفة، وتوسع في اكتشاف أسرار الكون. هنا يقف العقل حائراً.
قد يفهم العقل ما بقي من أسرار الكون وهو أكثر جداً مما عرفه ولكنه لا يمكن أن يفهم اللامتناهي واللامحدود. إن هذا العقل البشري الصغير الذي هو ذرة في الكون ولا يقاس بشيء أمام عظمة الكون. لقد أدرك عظمة الكون وشمله كله بعلمه. فهو على حقارته أعظم من هذا الكون إذ استطاع أن يحتويه في عقله. فما أصدق قول أبي العلاء المعري فيه.
وتزعم أنك جرم صغير ... وفيك انطوى العالم الأكبر
نقولا حداد
2ش البورصة الجديدة بالقاهرة