مجلة الرسالة/العدد 822/طرائف:

مجلة الرسالة/العدد 822/طرائف:

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 04 - 1949



في الأدب والتاريخ والسياسة

(دار الحقوق إلى فتاها المجتبي)

للأستاذ محمد حسين الفار

أثار بنفسي انتخاب دولة خطيب الثورة الوطنية الأستاذ الزعيم إبراهيم عبد الهادي باشا رئيساً للهيأة السعدية الموقرة على أعقاب استشهاد زعيم النزاهة العفيف العيوف الأبي الشريف النقراشي باشا عليه الرحمة والرضوان.

أثار بنفسي هذا الانتخاب ذكريات كريمة قديمة برغم ما أعانيه الآن من ظروف ملتوية، وأويقات عاتية، إذ عاد بذاكرتي إلى سنة أربع وعشرين وتسعمائة وألف، حينما كان الزعيم الجليل المغفور له سعد زغلول باشا في دست الحكم واستصدر عفواً عن الرعيل الأول من المجاهدين الأحرار الذين كانوا باكورة من حكم عليها بالإعدام في سبيل البلاد، واستبدل بعد بالإعدام السجن مدداً متفاوتة، وكان بمكان الرياسة منهم المرحوم المبرور رجل الوطنية الصامتة عبد الرحمن بك فهمي طيب الله ثراه، كما كان أبرزهم مكاناً وأنبههم شأناً خطيب الشباب المتوثب إبراهيم أفندي عبد الهادي الطالب بالسنة الرابعة بمدرسة الحقوق السلطانية إذ ذاك.

خرج هذا الرعيل الأول من السجن على أثر استصدار العفو أطهاراً أبراراً، فاحتفت بهم مصر حكومة وشعباً، واحتشد لهم المصريون زمراً وأفراداً، وأقيمت لهم حفلة تكريم كبرى عرفت بحفلة تكريم المسجونين السياسيين، وألقيت فيها جريدة شوقية خالدة عرج فيها أمير الشعراء أحمد شوقي بك الشاعر الخالد نضر الله نزُله على فتى الحقوق المجتبي إبراهيم أفندي عبد الهادي، فقد اختصه بذكر اسمه في فريدته الشوقية دون سائر المسجونين المكرمين جميعاً.

ذلك أن الفتى الناهض إبراهيم عبد الهادي قد تقدم لترشيح نفسه، كما رشحته جدارته لرآسة لجنة شباب القاهرة والأقاليم التنفيذية العليا، وتقدم منافساً له في تلك الرياسة حسن أفندي يسن النائب السابق والوفدي المعروف. ولكن العامة خطبت ود إبراهيم منذ فتائه، فقد أكتسح خصمه، ومحا من قائمة انتخاب الرياسة اسمه ورسمه. وكان لمدرسة الحقوق في أمثال تلك المعارك الانتخابية بن الشبيبة المثقفة يد طولى وقِدح مُعلّي، فوقف سوادها الأعظم، وجمهورها الأكرم، خلف إبراهيم خطيب الشباب الموهوب.

فأشاد بذلك أمير الشعراء وشدا، وغرد البلبل الصيداح، فأسر الأفئدة، ونقع الصدى بسلسلة العذب ودرة الفريد الذي يفني الزمان ولا يفني، ويبيد الدهر ولا يبيد.

وذلك في قصيده الرائع الذي توَّج به هامة حفل التكريم، والذي كان مطلعه ذلك الغزل الرقيق الذي بلغ منتهى العذوبة وغاية الطلاوة والرواء:

بأبي وروحي الناعمات الغيدا ... الباسمات عن اليتيم نضيدا

الرانيات بكل أحْور فاتر ... يذر الحلى من القلوب عميدا

الزاويات من السُّلاف محاجزاً ... الناهلات سوالفاً وخدودا

اللاعبات على النسيم غدائراً ... الراتعات مع النسيم قدودا

أقبلت في ذهب الأصيل ووشيه ... ملء الغلائل لؤلؤاً وفريدا

يحدِجن بالحدق الحواسد دُميةً ... كظباء وجرة مقلتين وجيدا

حوت الجمال فلو ذهبت نزيدُها ... في الوهم حسناً ما استطعت مزيدا

لو مر بالوُلدان طيف جمالها ... في الخلد خروا ركعاً وسجودا

أشهى من العود المرنم منطلقاً ... وألذ من أوتاره تغريدا

وهنا انتقل انتقالا رائعاً، وتخلص من الغزل إلى السياسة تخلصاً بارعاً، إذ قال:

لو كنت سعداً مطلق السجناء لم ... تطلق لساحر طرفها مصفودا

ما قصر الرؤساء عنه سعى له ... سعد فكان موفقاً ورشيدا

وهكذا سار أمير الشعراء كما عهده الناس يتدفق بياناً وسحراً، فنوه فيما ساقه لنا من روائع آياته وخوالد بيناته بفتى الشباب المرتجي في ذلك العهد إبراهيم عبد الهادي مشيراً إلى تبوئه مكان الزعامة من الشبيبة في بيتين من أوابد الشعر وبدائع القريض حافلين بالإشادة والثناء. ذلك إذ قال:

دار الحقوق إلى فتاها المجتبى ... ثنت العنان وألقت الإقليدا

عمدت لإبراهيم فانتخبت فتى ... ثبت الجنان على الزمان جليدا هذا ما خلد به أمير الشعراء أحمد شوقي بك زعامة إبراهيم المبكرة التي أهلته لها جدارته، وقفزت به إليها كفاءته.

وبعد، فلست أدري، ولا المنجم يدري - كما يقولون - لِمَ أسقط هذان البيتان من القصيدة الخالدة حين طبع الجزء الأول من ديوان الشوقيات؟!

أللحزبية الصارخة في ذلك العهد يد في هذا؟ أم ماذا؟!

وهل من الأمانة للأدب أن نقبر بعض روائعه في لحود الإهمال وزوايا النسيان لأي غرض مهما يكن؟!

وقصارى الكلام نأمل أن يتدارك هذا البيتان الخالدان لدى الاضطلاع بأول طبعة في المستقبل لهذا الديوان أداء للأمانة وإنصافاً للناس، فهذا شأن كل طاهر العنصر، طيب الأرومة، عريق الأساس. . . والسلام على من أتبع الهدى.

محمد حسين الفار

المدرس بالأزهر الشريف