مجلة الرسالة/العدد 824/القصص

مجلة الرسالة/العدد 824/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 04 - 1949



قصة من روائع موباسان:

الغريب. . .!

بقلم الأستاذ مصطفى جميل مرسي

أخذنا بأطراف الحديث والعربة تغادر بنا مدينة (كان) زاخرة براكبيها، ولم نكد نتجاوز (بارسكن) حتى صاح أحدنا:

- ها هو ذا المكان الذي كانت تذبح فيه الناس!

فإذا بنا نخوض في أخبار الخرافات، ونتناول سيرة أولئك القتلة الذين كانوا - فيما مضى - يسلبون الناس أرواحهم ويغتصبون أموالهم. فراح كل منا يدلي بما يساوره من قصص، ويطرح ما يراوده من خواطر. . . وطفقت النساء يحملقن مروعات في ذلك الظلام الحالك من خلا النوافذ. . . يتوجسن خيفة أن تقع أبصارهن على رأس آدمي لدى الباب!

وتأهب أحد الأطباء - وكان يشد رحاله إلى الجنوب كل عام إذا ما بدت تباشير الشتاء - ليلقي في أسماعنا واحدة من تلك القصص التي يكتنفها الغموض والغرابة:

(لم يسعدني الحظ يوما لكي أبلو شجاعتي وأهجم جسارتي في أمر من هذا القبيل، إنما كنت على معرفة بسيدة قد طواها الموت وكانت ممن أعالجهن. . . حدث لها أمر من أغرب الأمور وأشدها حزنا في هذا الوجود. .

(كانت روسية تدعى (الكونتس ماريا بارنوا). . . وهي امرأة عظيمة ذات حسن ساحر وفتنة باهرة. . . وأنتم تدركون كم هن جميلات أولئك الروسيات بأنوفهن الرقيقة، وثغورهن الرشوفة، وعيونهن النجل، وقدودهن الفضة. وما يبدين من الصلابة الأباء مع فيض من العذوبة والإغراء. . . فيهن كل ما يخلب لب الرجل الفرنسي ويثير افتتانه!

(وكانت (الكونتس) فريدة بينهن، وقد فطن طبيبها منذ سنوات إلى الداء وهو ينهش في صدرها، فأخلص لها النصح في أن تسعى إلى جنوب فرنسا. . . بيد أنها أبت أن تبارح (سان بطرسبرج)، فانثنى الطبيب - في الخريف الماضي - فانذر زوجها بسوء المصير، فألح هذا على امرأته أن ترحل إلى (منتون) في فرنسا.

(فاستقلت القطار - منطوية على نفسها في عربتها - أما حاشيتها فقد أقامت في ناحية أخرى من القطار.

وران عليها الحزن واحتواها الشجن، وهي جالسة على كثب من الباب تلقي بطرفها إلى الحقول والقرى وهي تمر بها في إثر بعضها، وقد استشعرت ألم الوحدة، وأحست لذع الوحشة في حياتها وهي عاطلة من أطفال يملؤونها بهجة وبشرا، وخالية من ذي رحم يحيلها مرحاً وأنساً. . . غير زوج ماتت في قلبه عواطف الحب، ونضبت منه عيون الحنان. . فلم يتورع أن يقذف بها في ركن قصي من العالم دون أن يصحبها كما ينبذون الخادم المريض في معزل عن الخلق!

وكن تابعها (إيفان) ينزع إليها في كل محطة لينظر إن كانت سيدته تروم أي شئ فيؤديه لها، وكان رجلاً كهلاً شديد الإخلاص، مغلق القلب على الطاعة، سريعاً إلى إنجاز كل أمر تلقي به إليه. . .

وفجأة عن لها أن تحسب ما قدم لها زوجها - في اللحظة الأخيرة - من النقود الذهبية الفرنسية، ففتحت حقيبتها الصغيرة، وأفرغت في حجرها ذلك الفيض الأصفر الرنان!

وعلى حين غرة أصابت وجهها نسمة قارصة من الهواء، فرفعت رأسها - وقد تولتها الدهشة - تستجلي الأمر، فإذا بالباب قد فتح، فلم تملك الكونتس المضطربة سوى أن تطرح غلالتها السمراء على ما في حجرها، ثم قبعت مترقبة!

فلم تمض لحظات، حتى دلف من الباب رجل عاري الرأس، جريح اليد، لاهث الأنفاس، وأغلقه من خلفه، واستقر في مقعد يلقي إلى جارته بنظرات حادة، ثم لم يلبث أن لف منديلاً حول رسغه المخضب بالدماء!

فأحست السيدة لفرط خوفها أنها تكاد تغيب عن وعيها، فلا مجال للريب في أن هذا الرجل قد لمحها وهي تحسب نقودها، فخف إلى سلبها. . . ثم. . . ثم يزهق روحها! إنه ما برح يحدجها بنظراته الثاقبة. . . مضطرب الأنفاس، مقطب السمات، يتربص بها الفرص حتى يثب عليها!

قال بغتة: سيدتي. . . لا تخافي ولا تجزعي!

فلم تنبس ببنت شفة، وقد تحجر لسانها، وطنت أذناها، وازداد قلبها خفقاً! واستطرد فيما يقول: ما أنا بشرير. . . أيتها السيدة!

فأمسكت على صمتها، ولكن حركت ساقها فجأة - وهي لا تدري - فأخذ الذهب يتدفق إلى الأرض كما يتدفق الماء من الصنبور. . . فمكث هذا الرجل يحملق حيناً وقد أخذته الدهشة في ذلك السيل الذهبي، ثم لم يلبث أن انحنى يلتقطها ويجمعها!

فهمت مروعة، وألقت بكل ما معها على البساط، وهمت أن تجري تروم النجدة وتتوخى النجاة!

ولكن الرجل - قد أدرك ما هي مقدمة عليه - قفز إليها وأطبق على ذراعها، ثم دفعها في غلظة إلى حيث كانت تجلس وهو ممسك برسغها. . . وراح يقول في صوت مرتعد النبرات: اصغي إلي يا سيدتي. . . لست بشرير، ولا معتد أثيم. . . والبرهان على صدق ما أقول أني سأجمع هذا الذهب وأرده عليك لا ينقص دانق، ولكنك إذا لم تكوني لي عوناً وملاذاً حتى أعبر الحدود، فما أنا إلا رجل يساق إلى موته، ولن أبوح لك بغير ذلك!

ففي خلال ساعة سيمرق بنا القطار من الحدود الروسية، وحياتي معلقة حينئذ بين يديك رهن بمشيئتك. . . ولا يذهب بك الخيال، وتتوزعك الوساوس، إلى أني سفكت دماً، أو سلبت مالا، أو جئت أمراً يخالف الشرف ويدنس الضمير. . . أقسم لك أني لم أجانف إثما ولم أقارف ذنباً. . . ولكن لن أبوح لك بالمزيد!

ثم ركع ثانية، وراح يجمع الذهب، حيث انتثر تحت المقاعد وفي ثنايا البساط، حتى إذا امتلأت الحقيبة به مرة أخرى، ناولها لجارته في هدوء دون أن تنفرج شفتاه عن كلمة يرددها. . . ثم انثنى إلى الركن الآخر من العربة فجلس فيه لا يحرك ساكناً! ومكثت هي جانحة إلى الصمت وقد لفها السكون. . . وما برحت الغشية تراودها من أثر الخوف والرعب، وإن أفرخ روعها وبدأت نفسها تنزع عن الاضطراب ويطمئن قلبها رويداً رويداً!

أما هو، فقد جلس لا يريم، ولا يختلج له طرف، وهو يحدق أمامه، شاحب الوجه، تعلوه صفرة كأنها صفرة الموت. . . وأخذت هي ترسل إليه - بين الفينة والفينة - نظرات عاجلة تختلسها اختلاساً، وسرعان ما ترتد عنه. . . بدا الرجل وضيء الوجه منبسط السمات، عليه سيماء السيادة والنبل، وقد تجاوز عقده الثالث! وكان القطار ينساب في سرعة مخيفة خلال الظلمات الطامية، ويرسل بين آونة وأخرى صفيره الحاد يمزق هدأة الليل بحدته! ولكن ما لبث أن خفف من سيره. . . ثم سكنت حركته بعد أن زفر بعض الصفيرات. . . فلما برز (إيفان) من الباب، ألقت (الكونتس ماريا) نظرة عجلى على رفيقها، ثم قالت لخادمها في صوت خافت ونبرة سريعة: (إيفان سوف تعود إلى الكونت، فما بي حاجة إليك!)

فحملق فيها الرجل بعينين واسعتين يتراقص فيهما الاضطراب وقد تجلت على وجهه الحيرة، وأرتج على لسانه القول: (ولكن يا سيدتي!) فأجابته:

- (كلا. . . لا تصحبني. . . فقد غيرت من فكري ورجعت عن رأيي. . . ومن الخير أن تبقى في روسيا. . . إليك بعض النقود لتعود بها، وناولني قبعتك وعباءتك!)

فخلع الخادم في جزع ودهش قبعته وعباءته دون أن ينبس بسؤال يستجلي به الأمر، فقد عودته التجارب وعلمته الأيام أن يطيع أهواء سادته ويجيب نزواتهم ولو كانت غريبة مباغتة، ثم أرتد على أعقابه مغرورق العنين بالدموع!

ولم يلبث القطار أن أندفع يطوي الأرض شطر الحدود. فقالت (الكونتس ماريا) لرفيقها: (إن هذه الأشياء لك - أيها السيد - أنت الآن (إيفان) خادمي. . . ولا أروم إزاء ذلك سوى شرط واحد، هو ألا تحدثني بكلمة، ولو كانت تحمل معنى الشكر!). فانحنى الرجل في رقة دون أن ينبس ببنت شفة!

ثم عاد القطار إلى الوقوف ثانية، وصعد إليه نفر من الضباط في أرديتهم الرسمية، فمدت لهم الكونتس يداً بأوراقها قائلة - وهي تومئ إلى الرجل في مؤخر العربة -:

(ها هو ذا خادمي إيفان وأوراقه هنا!)

انطلق القطار في سيره من جديد، وقد جلس كلاهما غير بعيد من الآخر، والليل يضمهما، والصمت يحتويهما، حتى إذا انسلخ نور الصبح من دياجير الليل، وقف بهما القطار في محطة ألمانية، فنهض الرجل المجهول، وقام إلى الباقائلا في صوت هادئ رقيق:

- معذرة يا سيدتي إن أخلفت ما كان من وعدي، يبدو أني قد حرمتك من خادمك، فلا أقل من أن أحل مكانه، أما تعوزك حاجة؟!

فأجابته في فتور: اذهب وادع وصيفتي! فمضى ثم طواه الخفاء، ولم يقع عليه طرفها بعد ذلك إلا حينما كانت تتناول غداءها في إحدى المحطات وهو يرمقها من بعيد، ثم أخيراً في (منتون) حيث استقر بها النوى!

- 2 -

وثاب الطبيب إلى صمت هنيهة، ثم وصل ما انقطع من حديثه قال:

(وذات يوم، بينما كنت أتلقى مرضاي في عيادتي، دخل علي شاب فارع القامة وسيم المحيا وسألني في هدوء وسكينة: (أيها الطبيب، لقد أقبلت متقصياً أخبار الكونتس ماريا بارنوا! إني من أصدقاء زوجها، وإن كانت لا تربطني بها معرفة!)

فأجبته: (لقد أفلت الزمام من يدها، ولن تطأ أرض روسيا بعد الآن!)

فإذا بي أرى الرجل يغرق في البكاء، ثم مضى في سبيله يترنح كمن ذهبت بلبه الخمر! وقد أخبرت (الكونتس) في المساء بما كان من شأن ذلك الرجل الغريب، فهزت رأسها وقد لاحت على وجهها سيماء التأثر. . . ثم أخبرتني بتلك القصة التي رددتها على أسماعكم لتوي!

ثم أضافت قائلة: (إن هذا الرجل الذي لا أدري عنه شيئاً. يتبعني الآن كظلي!. ولا أكاد أخرج يوماً حتى ألتقي به. . . فينظر إلي في رقة ونبل. . . بيد أنه لم يحاول أن يخاطبني أبداً!. . .

وران الصمت عليها حيناً، وهي تحاول أن تجمع شتات فكرها. . ثم قالت: (تعال. . . سأراهنك على أنه قائم تحت النافذة في هذه اللحظة!.)

وغادرت كرسيها الطويل، وخطت إلى النافذة. . ثم أزاحت الستار عنها، وجعلتني أرى ذلك الرجل الذي أتاني في الصبيحة. جالساً على مقعد في الروضة أمامنا. . يمد بصره إلى المنزل. . فما إن وقع بصره علينا - ونحن في النافذة - حتى نهض من جلسته، ومضى في الطريق لا يلوي على شيء، حتى غاب عن ناظرينا!. .

وحينئذ فطنت إلى شيء عجيب يبعث الحزن ويثير الإعجاب. لقد أدركت سر ذلك الحب الصامت الذي توثقت عراه وتمكنت وشائجه بين هذين المخلوقين اللذين جهل كل منهما صاحبه كل الجهل!. .

إنه يهيم بها ويعبدها عبادة خالصة، ويود أن يفديها بحياته. فكان يقبل علي في كل صباح يسألني: (كيف حالها؟!.) وهو على يقين من أني أدرك مدى أحاسيسه ومشاعره. . . ثم ينشج في نحيب وجزع وقد أسدل على وجهه راحتيه. . . كلما أحس بأنها تزداد ضعفاً وتشتد نحولاً. . . وقد ثقلت عليها وطأة العلة.

قالت لي يوماً:

(إني لم أخاطب ذلك الرجل العجيب سوى مرة واحدة. ولكن يبدو الآن كأني أعرفه منذ عشرين سنة. . .) وحينما التقت به ردت على انحناءته الرقيقة؛ بابتسامة أضاءت على ثغرها، وفاضت على صفحة وجهها! وقد أحست - على الرغم خطاها السريعة إلى القبر - أنها سعيدة كل السعادة هانئة كل الهناء بذلك الحب الذي يفيضه عليها هذا الإنسان ويغمرها به في وفاء نبيل وإخلاص شاعري. . . يكاد أن يذهب بنفسه كل مذهب!. ولكنها أبت أن تعرف اسمه ورفضت أن تخاطبه وهي. . تردد: (كلا. . . ثم كلا. . . أن هذا سوف يمحو تلك الصداقة الغريبة بيننا. . . ويفسدها. . ينبغي أن يظل كل منا جاهلاً صاحبه. قريباً إليه بقلبه بعيداً عنه بلسانه!)

أما هو، فقد كبت نفسه وراضها على ألا يدنو من صاحيته. . . وحزم أمره على أن يفي بعهده الذي قطعه على نفسه في العربة وهو ألا يكلمها أبداً. . . وقد كانت هي خلال الساعات الطوال التي يشتد بها الوهن عليها ويضيق صدرها بالحياة. . . تنهض عن مقعدها وتسعى إلى النافذة فتزيح ستارها. . . حتى تنظر إن كان تحت النافذة؟! فإذا اطمأن بصرها إليه وهو جالس على مقعده لا يريم. . . انثنت إلى فراشها، وقد انفرجت شفتاها الذاويتان عن ابتسامة رقيقة!. .

وأشرقت عليها الشمس ذات يوم جسداً بلا روح، وقد طوى الموت صفحة حياتها!. . وبينما كنت أهم بمغادرة البيت. . . أقبل على الرجل شاحب الوجه زائغ العنين، وقد تجلى على محياه أنه علم بوفاتها منذ لحظة. . وابتدرني قائلا في صوت كله رجاء وتوسل: (كم أود أن أراها ولو لحظة في حضرتك!) فأخذته من ذراعه ودلفنا إلى المنزل معاً. فلما بلغنا حيث سجيت السيدة الميتة. ركع إلى جوارها في خشوع، وأمسك بيدها في رفق، وطبع قبلة طويلة حارة تبللها الدموع. . . ثم انقلب على أعقابه. . . وانطلق في سبيله. . . وكأنما تجرد من مشاعره وتعطل من أحاسيسه!. .

وخيم الصمت برهة على الطبيب! ثم عاد الحديث: (إن هذه الحادثة هي أغرب ما مر بي من الحادثات. بل لعلها الوحيدة التي تظهر لكم الناس. . . وما هم عليه من غرابة وجنون!. .) فتمتمت إحدى النساء في نبرة خفيضة: (لم يكن هذين المخلوقان سادرين في جنونهما كما تذهب بك الظنون. . . بل إنهما كانا! إنهما كانا!. .)

بيد أنها لم تمض في عبارتها. . . فقد شرقت بالدموع! ولم يدرك أحد منا ما كانت ترمي إلى قوله. . . إذ حولنا دفة الحديث لنهدئ من روعها وننزل على قلبها السكينة.

مصطفى جميل مرسي

(طنطا)

1 قارن هذا بعمليات اليهود في النقب وخليج العقبة1949 33 * 32

2 جريدة المصري1521949

3 كتاب رسائل الصداقة بين نيتشة وفاجنر.

4 سانت هيلير في مقدمة كتاب الأخلاق لأرسطو

? ?

? ?

? ?

? ?