مجلة الرسالة/العدد 824/مشكلة الشر في ضوء وحدة الوجود
مجلة الرسالة/العدد 824/مشكلة الشر في ضوء وحدة الوجود
للأستاذ عبد العزيز محمد الزكي
إن اعتناق طاغور عقيدة وحدة الوجود لم يضف جديداً للفكر الهندي، بل هو أخذ من القديم، وترديد لنفحات حكماء السابقين. وأن تدعيمه هذه العقيدة بتوضيح ما يكتنفها من إبهام، وما يشيع فيها من إشكال، أو بعثه لها في قالب شعبي يجدد من حيويتها، ويذيعها بين العام قبل الخاص، ولئن كان فيه شئ من الجدة فأنها لا تظهر طاغور إلا بمظهر المدافع عن تراث ديني عتيق. وإنما الذي يفصح عن ابتكاره الفكري، هو استعانته بهذه العقيدة في تدعيم المبادئ الأخلاقية، وتفسير ما يشوب الحياة الإنسانية من شر، وما ينتابها من سوء.
وإن كان في تصور تجلي الله في مكونات الوجود في صورة قانونها العام شئ من البراعة الفكرية، فإن تصور حلول الله في الإنسان على صورة القانون الأخلاقي، ينم عن مهارة روحية فائقة، تظهر قدرة طاغور الملائكية في كيفية إحكام ربط الإنسان بالله، إذ جعل أفضل ما في الإنسان متمدا من الله، واتخذ من أنبل ما يحتويه كيانه من قيم روحية سبيلا لتحقيق اتحاده بخالقه اللانهائي. وإن كان هناك كثير من البشر يعصي أوامر القانون الأخلاقي، الذي ليس إلا قبسا من نور الله فاض به على الإنسان، فظهر فيه في قالب قطرته الخيرة، التي تحارب الغرائز البهيمية والشهوات المنحطة، وتقاوم سحر ملاذ الدنيا، وتدفع إغراء متعها المادية، كما تطهر النفس من كل ما يمكن أن يتسرب إليها من دنس، وتخضع حياة الإنسان للقيم الفاضلة؛ فإن هؤلاء الذين يعصون هذا القانون الخلقي، ولا يؤمنون بسيادته على النفس، يعتقدون أن منفعتهم الخاصة يجب أن تكون قانون حياتهم الوحيد، ويفضلوا أن يتمردوا على قطرتهم الخيرة على أن يستسلموا لها إذا تعارضت مع فائدتهم، ويقبلون أن يتبعوا أهواءهم الخبيثة ما دامت ترضي رغباتهم الجشعة. وبذلك يفسحون المجال لهذه الرغبات لأن تعيث فسادا في النفس، وتملأها بأنانية بشعة طاغية، تحبسها في سجن رهيب من المصالح الخاصة، لا تسمح لها بأن تخرج من دائرة الذات الضيقة إلى ساحة المجتمع الإنساني، بل تبذر فيها بذور الطمع، وتلقنها فنون اقتراف الخطايا، فتغرق في بحر من الآثام، وتقع في وهدة الشر، فتغيب عنها معرفة الله الكامن في أغوارها على صورة ذلك القانون الذي أبت أن تخضع له، وتتقيد به.
وبذلك يحجب الإثم والشر عن النفس إدراك قانونها العام، ويسلبها حب الذات القدرة على تحطيم أغلال الأنانية، فتحيد عن طريق وحدة الوجود، وتعجز عن معرفة أن جوهرها يتضمن أكثر من وجودها الفردي، وتخفق في الإحساس بالله الذي أودع ذاته في طياتها، وبالتالي تفشل في الكشف عن اتحاد الله بسائر الأشياء، وتخيب في تحقيق كمالها الروحي، ولا تتمتع بالحياة في كنف حقيقة الحياة الأولى ألا وهي حقيقة (وحدة الوجود).
وخروج الإنسان عن طاعة قانونه الخلقي مرده إلى أن الله وإن قيد الإنسان بضرورة الخضوع لهذا القانون، ترك له حرية تامة في طاعتها أو عصيانه، كما منحه إرادة حرة لها التصرف في الشئون الدنيوية، ولم يلزمه يفعل الخير أو تجنب الشر، لأن قطرته تسمح له بأن يميز بين الخير والشر، وتمكنه من أن يسلك طائعاً مختاراً الطريق السوي. لأن في النفس الإنسانية نوعين من الرغبات: أحدهما خاص والآخر عام. والرغبات الخاصة تجري وراء المطالب الذاتية، وتقف عند حد الفوائد الشخصية، بينما الرغبات العامة مطالبها تتعدى كل ما هو ذاتي، وتنشد خير كل ما هو كلي مثل الأسرة أو الوطن أو الإنسانية. وإرادة الإنسان يمكنها أن تسير تحت ضغط أي من النوعين من الرغبات، وتملك القدرة على تغليب سيطرة الرغبات العامة على الرغبات الخاصة.
فإن خضع الإنسان لقيادة القوانين الأخلاقية، وتحكم في أهوائه ونزعاته سار في طريق الخير، وإن أتخذ من الإيثار والتضحية سبلا لسعادة الغير، فهو لاشك مساهم في خدمة أهله، ومشارك في إصلاح وطنه، ومجاهد في سبيل ترقية الحياة الإنسانية عامة. وإن بذل نفسه رخيصة من أجل عشيرته أو بلاده ولم يكترث بما يعانيه من حرمان، فقد عرف كيف يذيب الأنانية، ويقضي على حب الذات في نفسه، وإن أصر على تحقيق خير البشرية ولم يحل دون ذلك ما يقف أمامه من صعوبات، فإنه يعد لنفسه طريق الاندماج في الله. وعلى يد هؤلاء الذين فازوا بسرور غير محدود ينبع من الحياة في حقيقة وحدة الوجود ينال البشر سعادتهم، ويتخلصون من كل ما ينغص عليهم حياتهم من شر، وينتشر بينهم الخير.
أما الذي يأبى أن يخضع للقوانين الأخلاقية، ويركب رأسه ويريد على الدوام أن يستولي على ربح خاص لا يشاركه فيه أحد، أو يحظى بمزايا لا ينافسه فيها إنسان، فإنه فضلاً عن أنه لن يهتدي إلى حقيقة وحدة الوجود، ولابد أن يصطدم برغبات الجماعة، ويدخل في حرب مع كل نفع عام عندما يعرقل نفعه الخاص. وذلك يشيع التفرق والتنابذ بين أفراد المجتمع الإنساني، وينشر بينهم التكالب على المصالح الذاتية، بل يحطم ما يربطهم من علاقات محبة وتعاون، فتنحل أواصر الأسرة، ويتفكك كيان الوطن، وينعدم الأمل في تآلف دول العالم، ويتقلب النظام الطبيعي في الحياة إلى فوضى، فيضع القوي قوانين جائزة يدعى أنه وضعها لتنظيم المجتمع، بينما هي تستمد أصول تشريعها من أشرار الأنانية، وتعتمد على القوة والوحشية في تنفيذها، وتبتدع أساليب جديدة في إذلال الإنسان الوديع واستقلال الشعوب المتأخرة.
ولكن إذا أمعن غيه، وصمم على أن لا يحيد عن طريق حب فائدته، واستكبر أن يطيع أوامر القانون الخلقي، سيلبث في صراع عنيف مستمر مع صلح الكل، يستفحل أمره شيئاً فشيئاً إلى أن يقضى عليه آخر الأمر. وهذا مصير كل فرد يقف في وجه الجماعة، ولذلك يجب على الإنسان أن يكبح جماح غرائزه وشهواته التي تلح في طلب المنافع الخاصة، وتوهمه بأن هذه المنافع هي غاية حياته، وتحرضه على أن لا يسلم أمرة النفس للقيم الروحية التي تطلب منه أن يعيش لغيره كما يعيش لنفسه، وأن يضحي برغباته الشخصية إذا تعارضت مع سعادة النفس الكبرى التي تشمل حياة الإنسانية بأجمعها. والإنسان العاقل هو من يوفق بين الرغبات التي ترضي النفس القروية وبين رغبة إسعاد المجتمع الإنساني، لأن كل من يحاول أن يقف وحده في وجه قوى المجتمع، ويرغب في أن يحصرها في نطاق فائدته مصيره إلى الدمار. إن سجل التاريخ الإنساني لحافل بالثورات العظمى، التي تشهد بأن الجزء حينما يحتقر الكل، وينشد لنفسه منافع خاصة من دون الجماعة، ويسير في طريق منفصل عن طريقهم، لا بد أن تثور ضده القوى الكلية، وتشن عليه حرباً لا هوادة فيها حتى ترغمه على أن يسلك طريقها العام صاغراً.
يتضح مما تقدم أن نار الشر تندلع من شرر عصيان الأوامر الأخلاقية التي تنذر بأن الأنانية ستسود حياة الفرد، وأن الإرادة ستسكن لِسيطرة الشهوات والغرائز، التي تفسد الناحية الخيرة في النفس، وتتلف مقوماتها الروحية وتدفعها في طريق الخطايا والآثام، وتوهمها بأن ذاتها هي غايتها الوحيدة في الحياة، وأن لا عمل لها إلا الجري وراء غنمها الشصي. ومثل هذه الأهواء الشريرة تخيم على البصيرة فتحجب عن الروح إدراك الله المستقر في قرارة النفس على صورة القانون الخلقي، فيضل الإنسان في غياهب الشر، ويبعد عن طريق وحدة الوجود. كما تلائم هذه الأهواء الفردية الحياة العامة وتعرقل تقدم المجتمع الإنساني، وتسوق المتأثر بها إلى خوض غمار حرب مع قوة العواطف الخيرة، أو يصطدم بالمصالح العامة، لأنها تؤذي أغلبية القوم وتضر بمنافعهم، وتوقع عليهم ظلماً وجوراً لا تصبر عليه النفوس طويلاً، وسريعاً ما تتآلب عليه وتحطمه، وتضع الحق في نصابه، وتسلب من الظالم أداة ظلمه، وترده إلى طريق الصواب، وتجبره على أن يفعل الخير للجميع.
فرغبة الشر رغبة ذاتية عرضية، لا تدوم إلا بدوام سيادة الأنانية على النفس، وتزول عند مثول رغبة الخير التي تنسجم مع القانون الأخلاقي. أما الشر في حد ذاته فحقيقته سلبية غير ثابتة، ولا ينفك يتحول في مظهره إلى أن يصبر على آخر الأمر خيراً يعم الجميع، لصراعه الذي لا ينقطع مع قوى الحق التي تنشد حقيقة وحدة وجود. ومثل الشر في تغيره هذا مثل الفلسفة الفكرية التي يأخذ العلم في تنقيحها وتصحيحها شيئاً فشيئاً إلى أن تصبر حقيقة ثابتة.
بينما رغبة الخير يقويها في النفس الإيمان العميق بأن الله أودع ذاته الإنسان على صورة القانون الخلقي، الذي يجب أن نتمسك به كل عاقل، ويرضى رضاء تاماً أن يخضع لتعليماته وإشاراته. والخير قبس من لدن الله ينير سبيل الروح نحو وحدة النفس الإنسانية، ويهديها إلى الكشف عن أوجه الله المختلفة في أعماق الكون، فمن رغب الخير سار في طريق وحدة الوجود وأتبع هدى رغبة كلية إيجابية تتمشى مع أغراض الحياة العامة وتدفعه دفعاً حثيثاً نحو الرقي والسعادة، وتحصن بقوة لا ترهب نيران الشر المفترسة، وتسحق الأنانية في النفس. إن تطور الحضارات، ودأب الإنسان المتواصل في الوصول إلى أرفع درجات الكمال، لأوضح دليل على أن الخير يتغلب على الشر، وأن الغيرية تنازع الأنانية، وأن الوحدة الإنسانية تبتلع كل وحدة فردية، وأن العالم في طريقه نحو وحدة الوجود.
فليس هناك ما يدعو للاعتقاد في أن الحياة شر في شر، أو تسير من الشر إلى الشر، ولا خير فيها على الإطلاق، ولن ينجو فيها أحد من سوء. لأن الشر فوق أنه حقيقة سلبية متغيرة غير ثابتة على الحال ومالها للزوال، لا يمكنه أن يعوق تدفق تيار الحياة أو يعرقل تحقيق مثلها العليا في الخير، أو يفتت من عزم الإنسانية الوطيد على الفوز بحقيقة وحدة الوجود عن طريق التمسك بالقانون الخلفي الذي هو إحدى آيات الله التي تكمن في شتى الموجودات. وأن ما بلغه الإنسان من تمدن ليشهد على أن الشر ليس له من القوة الإيجابية ما للخير، ولا يقدر أن ينضب ينابيع الخير التي خاض بها الله على الحياة الإنسانية، بل إن ما في الوجود من شر يلاحظ أنه يتلاشى تدريجيا مع تقدم الحياة المستمر، بينما ما يتحقق من خير تبقى أصوله ثابتة في أعماق الحياة، ويبدو أثرها في مختلف نواحي النشاط الإنساني. فالحياة تتحرك دائماً نحو الخير متخذة منه وسيلة لتثبيت أركان الوحدة الإنسانية، التي عن طريقها تسير البشرية خطوات نحو وحدة الوجود.
أما ذلك الشر الذي ينتشر في الكون، ويقاسي منه البشر كافة أصناف الآلام، ليس دليلا على أن الحياة في أصلها تجلب الشر، وإنما هو علامة على أن الحياة الإنسانية لم تبلغ بعد كمالها الأقصى الذي يجب أن تبلغه، وأنه مازال أمامها مراحل شاقة من التضحية والإيثار عليها أن تبذلها، حتى تصير حقيقة وحدة الوجود حية في القلوب، فينعم الجميع بالراحة والسعادة والأمن وينجون من ظلام الشر الذي يثير القلق، والخوف والحزن في النفوس.
عبد العزيز محمد الزكي
مدرس الآداب بمدرسة صلاح الدين الأميرية