مجلة الرسالة/العدد 825/العمل الأدبي

مجلة الرسالة/العدد 825/العمل الأدبي

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 04 - 1949



للأستاذ أحمد أحمد بدوي

يقف الأديب عند سرير جندي جريح عائد من ميدان القتال، فيثير فيه منظره معاني شتى للبطولة والتضحية. أو يدخل مصنعاً قد أنصرف فيه كل عامل إلى آلته، ومضت الآلات في عملها تنتج مسرعة، فيوحي إليه ما يراه بخواطر عن الدأب والنظام والتقدم. ويحاول أن يسجل إحساسه إزاء ما رأى، وأن ينقل هذا الإحساس إلى غيره، فينشئ مقالة أو يقرض قصيدة أو يؤلف قصة أو رواية، ويختار لذلك ألفاظه وأساليبه، بحيث تنقل إحساسه نقلاً صادقاً غير منقوص.

هذه المقالة أو القصيدة أو القصة أو الرواية هي العمل الأدبي، فهي الصلة بين الأديب والسامع أو القارئ، وبها أنتقل إحساس الأول إلى الثاني. ونستطيع أن نعرف العمل الأدبي بأنه (التعبير عن تجربة للأديب بألفاظ موحية)، والتعبير بالألفاظ هو الذي يميز الأدب من باقي الفنون الجميلة، لأن الأدب يعبر باللفظ، بينما تعبر الموسيقى بالصوت، والرسم باللون، والنحت بالحجارة.

ونعني بالتجربة كل ما جربه الأديب ومر بنفسه من شعور، سواء أكان حقيقياً أم متخيلاً، فقد تكون حادثة صادفت المنشئ في حياته أو صادفت غيره، وقد تكون قصة سمع بها، أو منظراً رآه، أو فكرة عرضت له، أو وهماً مر بخياله، ومن هنا كان كل شئ في الحياة صالحاً لأن يكون مادة للأديب، يتخذ منها صوراً لبيانه، على شريطة أن يكون قد امتزج بشعوره وملك عليه جوانب نفسه، ودفعه إلى الكلام، ولهذا وجب أن يكون في التجربة أمر غير عادي مألوف، وأن تكون ذات قوة ممتازة، وشدة خاصة، حتى تبعث في الأديب القوة الضرورية لمجهود أدبي يستطيع به أن يصف التجربة في صدق ودقة، وإتقان وبراعة، وبذلك يستطيع أن يبعثها مرة أخرى في نفوس قارئيه.

هذا، وآن الحقائق العلمية، قد يمزج بها الأديب إحساسه، وينقلها بهذه الصورة إلى القارئ، فتصبح عملاً أدبياً رائعاً، كما سنرى فيما يلي:

إن التجربة لا تكون بسيطة أبداً، بل لابد أن تكون مكونة مما تحمله الحواس إلى الفكر، ومما يأتي به الفكر نفسه من معان يدعو بعضها بعضاً، فالواقف أمام نهر النيل مثلاً، تنقل إليه حواسه لون مائه، وحركة موجه، وما على جانبيه من حقول فحسب، بل تنقل إليه أيضاً رقة النسيم، ولون السماء، وما قد يكون فيا من سحاب، وهو يضيف إلى ذلك احساسات أخرى ولدها خياله كموازنة هدوءه بالبحر وثورانه، وقد يطوف هذا الخيال بينابيعه، وبالشعوب التي تعيش على ضفافه، أو يعود متوغلاً في القدم، فيذكر ما قام على شاطئيه من حضارة ومدنية، فإذا كانت تلك اللحظة الشعورية قوية تتطلب التعبير عنها، فإن الأديب يستخلصها من بين ما يمر به من التجارب، ويحتفظ بها في نفسه، وكلما احتفظ بها ازدادت غنى بما ينضم إليها من ألوان الإحساس وبتداعي المعاني. فإذا أراد أن ينقل تجربته إلى غيره، وجب أن ينقلها كاملة، فلا نكتفي منه بأن يصور لنا آثار التجربة، ولا أن يذكر الظروف التي حدثت فيها فالشاعر الذي يروقه منظر من مناظر الطبيعة، لا يستطيع أن ينقل تجربته هذه إذا اكتفى بذكر المنظر الذي رآه، أو ذكر الإحساس الذي خالطه عندما رآه، بل يجب أن يؤدي تجربته كاملة الأجزاء لما شاهده وما أحسه معاً، مرتبطين ارتباطاً وثيقاً، حتى يحس بها القارئ إحساساً كاملاً، وتنتقل إلى شعوره، فيتخيلها، كما أدركها منشئها، وبمثل هذا التناول يخلد الأديب لحظة من لحظات شعور مرت به في حياته.

إن في الإنتاج الأدبي لعملاً إيرادياً للأديب، ذلك أنه يتناول تجربته، وهي مكونة من أجزاء، فيرتبها ترتيباً منسقاً، ثم يأخذ في إيضاح سلسلة خواطره واحداً واحداً، على أن يكون لكل خاطر منها دخل في تصوير التجربة وإكمالها، فيكون له وجود من أجل نفسه، ووجود من أجل الكل الذي هو جزء منه؛ وبجمع هذه الأجزاء تصير التجربة وحدة متسقة، وكلا موحداً، يتصل كل جزء فيها بسائر الأجزاء. أما إذا كان بعض الأجزاء لا دخل له في تكوين الصورة، ولكنه جاء بطريق الأستطراد، أو لم تكن التجربة مسلسلة الخواطر، يرتبط بعضها ببعض، فإنها تنقل إلى السامع مشوهه لا صلة بين أجزائها ولا اتساق. وهاك تجربه لقتيلة بنت الحارث وقد أخذت تعاتب الرسول لقتله أخاه النضر برغم قرابته له، واتصاله بنسبه:

أمحمد يا خير صنو كريمة ... في قومها، والفحل فحل معرق

ما كان ضرك لو مننت وربما ... من الفتى وهو المغيظ المحنق والنضر أقرب من أصبت وسيلة ... وأحقهم أن كان عتق يعتق

ظلت سيوف بني أبيه تنوشه ... لله أرحام هناك تشقق

فقد بدأت حديثها معه تناديه باسمه نداء القريب الذي لا كلفة بينك وبينه، مشعراً إياه بشدة الصلة بينهما حتى لكأنها توحي إليه بأن هذه القرابة القريبة ما كانت تنتظر على يده هذا المصير. ثم أتبهت إلى مكانة الرسول في قومه، فنادته واصفة بما يتفق مع هذه المكانة، وكأن قلب الأم الذي في كل أنثى دفعها إلى أن تصفه بأنه خير ابنلأم كريمة في قومها، وأب عريق في الشرف، حتى إذا انتهت من استرعاء سمعه بهذا النداء أخذت تسأله سؤال الموجع الموقن بأن حكم القضاء قد تم ولا سبيل إلى استرجاعه، فاستخدمت لذلك هذا الاستفهام الحزين الموحي بأنه لم يكن ثمة خطر في إطلاقه، فضلاً عما في هذا الإطلاق من مكرمة المن، وأتت بكلمة (لو) المشعرة بالأسف لدلالتها على امتناع وجود الفعل. وما كان أدق ذوقها في اختيار كلمة مبما، الدالة على حسن الأدب، والتماسها العذر للرسول، وتلميحها إلى ما في العفو برغم الغيظ والحنق من مثل أعلى جدير بالإقتداء، حتى إذا انتهت من ذلك لمست من الرسول موضع العطف فذكرته بقربه منه واستحقاقه أن يظفر برعايته. ثم تنتقل من ذلك إلى تصوير هذا القريب الجدير بالود أو بالمن والعتق - هدفاً لسيوف أقربائه، تتناوله بأطرافها فتمزق بتمزيق أديمه القرابة وتقطع أواصرها.

وهكذا كان كل جزء له آثره في نقل هذه التجربة التي ملكت نفس قتيله، ونجحت في إيصال ألمها للسامع، حتى روي أن الرسول بكى، وقال: لو سمعتها قبل اليوم ما قتلته.

نستطيع أن نسمي التجربة التي تسيطر على الأديب، وتدفعه إلى التعبير عنها بالإلهام، وكلما عظم هذا الإلهام احتاج إلى قوة كبيرة تستطيع التعبير عنه تعبيراً يمثله تمثيلاً صادقاً، ولذا كان كبار الأدباء ذوي سلطان على اللغة، وقدرة قديرة على التعبير، فاستطاعوا أن ينقلوا إلينا من التجارب أعظمها وأسماها.

وإن لدى الأديب إحساساً لغوياً ممتازاً، يستطيع به أن يختار من الألفاظ ما هو قوي في تصويره، واضح في دلالته على مراده؛ ويدرك ما تستطيع الألفاظ أن توحي به إلى القارئ، وإن للألفاظ لوحياً يشع منها، فيملأ النفس شعوراً، ويثير الوجدان، ويحرك العاطفة، ذلك أن الألفاظ تراكم حولها بمضي الزمن والاستعمال، معان أخرى أكثر من هذه المعاني التي نجدها لها في القاموس، فليس ما بين يدينا من معاني الألفاظ في المعاجم سوى هذه المعاني المتبلورة؛ والأديب البليغ هو من يستنفد ما للألفاظ من معان أضفاها عليها الزمن، فتثير في النفس أعمق الاحساسات، وتملأ الخيال بشتى الصور. وإذا شئت فانظر في القاموس إلى معاني كلمات: أم، وطفولة، ومدرسة، ووطن مثلاً، فالأم في اللغة هي الوالدة؛ ولكن هذا اللفظ يثير في النفس إذا سمع أسمى معاني الحب، وأقدس ألوان العواطف، وأشرف آيات الإيثار، وأعمق معاني الحنان.

وليست الطفولة سوى وقت الصبا في القاموس، أما إذا سمعت فإنها تثير تلك الخواطر التي تحوم حول هذه الأيام النضرة، وعلى هاتيك الملاعب العزيزة؛ وكم ذكريات تثيرها المدرسة في النفس، حول عهود محبوبة، وآمال مرتقبة، وأصدقاء مختارين، بينما هي في المعجم مكان الدراسة.

أما كلمة الوطن فقد تراكم حولها من المعاني والذكريات ما أشار أبن الرومي إلى بعضه حين قال:

وحبب أوطان الرجال إليهم ... مآرب قضاها الشباب هنالكا

إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم ... عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا

فلا عجب أن تثير كلمة الوطن في النفس هذه الذكريات العذبة المحبوبة. وإن أردت أن تدرك شدة وحي الألفاظ فاقرأ قوله تعالى: ولا يغتب بعضكم بعضاً، أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً؟ وانظر أي تقزز ونفور يثيره في النفس تخيل أكل لحم الأخ ميتاً. . .

واقرأ قول الشاعر:

وقانا لفحة الرمضاء واد ... سقاه مضاعف الغيث العميم

نزلنا دوحة، فحنا عليه ... حنوا المرضعات على الفطيم

وأرشفنا على ظمأ زلالا ... ألذ من المدامة للنديم

يصد الشمس أنى واجهتنا ... فيحجبها، وبأذن للنسيم

يروع حصاه حالية العذارى ... فتلمس جانب العقد النظيم

وانظر ما توحي به إلى النفس (لفحه الرمضاء) فإنها تشعرك بهذا الهواء الساخن يلفح وجهك، ويرمض عينك، فتكاد تضع يدك على هذا الوجه، تحجب بها عنه السخونة الممضة، وتحس كما أحس الشاعر بفضل هذا الوادي عليه، فقد حماه من وهج الشمس وسطوة الحر، فلا غرابة أن يدعو له من كل قلبه أن يسقيه مضاعف الغيث. وانظر ما توحي به إلى خيالك كلمة (دوح) من ظل ظليل، ونسيم بليل، تسكن إليه النفس بعد لفحه الرمضاء. وتخيل حنو المرضعات وما يثيره من معاني العطف والحنان. أما (أرشف) فتوحي إليك بهذه المتعة التي يحس بها الظمآن لفحه حر الشمس فأوى إلى ظل ظليل، وأخذ يشرب على مهل، ليستمتع بالماء الزلال، وكيف يجده حينئذ ألذ من المدامة. وتخيل كذلك ما يثيره عندك كلمة (يروع) والصورة التي ترسمها، وكلمة العذارى، وموضع الفاء التي تدل على هذه الحركة السريعة الناشئة من الروعة.

وهكذا استطاع الأديب بهذه الألفاظ الموحية أن يسيطر على خيالنا، وأن ينقل إلينا إحساسه وشعوره. ولعل هذا هو السر في أن علماء البلاغة قد كرهوا استعمال الكلمات الغريبة لأنها تعجز عن أن تثير في النفس معنى قبل البحث عنه، فضلاً عن أن تثير هذه الخواطر التي تحيط بالكلمة إذا استعملت.

على أنه قد يشفع في بعض الأحيان لاستخدام الكلمة الغريبة أنها وضعت في موضع سهل الأسلوب فهمها، وكانت هي جرسها موحية بمعناها، ولعل من ذلك قول شوقي:

خلوا الأكاليل للتاريخ أن له ... يدا تؤلفها درا ومخشلبا

فهذا الجمع بين الدر والمخشلب يوحي بما بينهما من البون الشاسع، وفي حروف الكلمة الغريبة ما يوحي بأنها تعني شيئاً حقيراً.

والإحساس اللغوي عند الأديب هو الذي يختار اللفظ اختياراً دقيقاً، بحيث يؤدي المعنى على وجه لا لبس فيه ولا اضطراب، وهو لذلك يلحظ الفروق الدقيقة بين الكلمات ويأخذ بينها أمسها بمعناه، حتى تقوم بواجبها من التوصيل الصادق. سمع ابن هرمة أديباً ينشد قوله:

بالله ربك أن دخلت فقل لها ... هذا ابن هرمة قائما بالباب

فقال له: لم أقل (قائماً)، أكنت أتصدق؟ قال: (قاعداً)؟ فقال: أكنت أبول؟ قال: فماذا؟ قال: (واقفاً)، وليتك علمت ما بين هذين من قدر اللفظ والمعنى.

بل إن الإحسان اللغوي قد يرهف ويدق، فيختار من الكلمات ما يكون بين أصواتها وبين الموضوع ملاءمة، بحيث يكون فيها تقليد للشيء الموصوف، حتى كأنه يوحي به إلى الخاطر كما تحس بذلك في كلمة (أرشف) من الشعر السابق، وكما اختار المتنبي كلمة (تفاوح) في قوله:

إذا سارت الأحداج فوق نباته ... تفاوح مسك الغانيات ورنده

فهي تدل بصيغتها على هذه الموجات النسيمية، تحمل في أردانها عبق المسك والرند، وكلمة صليل في قوله:

وأمواه تصل بها حصاها ... صليل الحلي في أيدي الغواني

فهي تسمعك بحروفها وسوسة المياه تداعب الحصى.

وبعض ألفاظ اللغة أسلس على اللسان وأجمل وقعاً على الأذن من بعض، وهو جمال ظاهري يساعد الأديب على إيصال تجربته. وعلماء البلاغة يذكرون من صفات الألفاظ المفردة ما يصح أن تلتمسه هناك.

وفضلا عما للكلمات من خصائص يدركها إحساس الأديب كذلك النظم في العبارة الأدبية يحمل معنى أكثر مما تؤديه الجملة بجريها على النحو، فإن هناك قوى يبثها المؤلف فيها، عن غير عمد حيناً، وعن عمد حيناً أخر، فنجده يقدم ويؤخر ويذكر ويحذف ويصل ويفصل، ويأتي ببعض ألوان المعارف دون بعض، وحيناً يدع المعرفة إلى النكرة، وآنا يستخدم أداة من أدوات الطلب مكان أخرى، أو يأتي برخرفة في مكانها. وقد وصل علماء البلاغة إلى إدراك كثير من هذه الأسرار، فعقدوا علماً يتحدث عن خصائص الجملة، ودعوه علم المعاني، وعلماً للخيال الذي يعقد الصلة بين الأشياء ودعوه علم البيان، وآخر لبعض ألوان الجمال وسموه علم البديع.

ولكن خصائص النظم لا تقف عند حد الجملة بل إن للأساليب خصائص، فمنها ما يناسب الانفعال السريع والحركة المتوثبة، ومنها ما يناسب العاطفة الهادئة والحركة البطيئة، وقد يدفع الإحساس الفني الأديب إلى انسجام في النظم وموسيقى لفظية، تساعد على الإيحاء، وإن هذا الانسجام وهذه الموسيقى يصلان إلى الذروة في فن الشعر، وبذلك يستطيع الأديب أن يصل إلى أسمى درجات التأثير.

أحمد أحمد بدوي مدرس بكلية دار العلوم بجامعة فؤاد الأول