مجلة الرسالة/العدد 825/تعقيبات

مجلة الرسالة/العدد 825/تعقيبات

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 04 - 1949



للأستاذ أنور المعداوي

مع الدكتور طه حسين في الفتنة الكبرى:

أخي الأستاذ

أملي الدكتور طه حسين بك في كتابه (الفتنة الكبرى) الجزء الأول الآراء الثلاثة التالية:

1 - (وسيرى الذين يقرءون هذا الحديث أن الأمر كان أجل من عثمان وعلي وممن شايعهم وقام من دونهم. وأن غير عثمان لولي خلافة المسلمين في تلك الظروف التي وليها فيها عثمان لتعرض لمثل ما تعرض له من ضروب المحن والفتن) ص 5.

2 - (هذه المشكلات الكثيرة التي ثارت من نفسها أو أثيرت أيام عثمان - لا لأن عثمان كان هو الخليفة - بل لأن الوقت قد أن ليثور بعض هذه المشكلات من تلقاء نفسه وليثير الناس بعضها الآخر) ص 9.

3 - (ولكن لو سار عثمان سيرة عمر ولو لم تدخل قرابته بينه وبين الناس لما كانت الفتنة. ولما احتجنا إلى إملاء هذا الكتاب) ص 156.

وإنني لأرى من ظاهر هذه الآراء تضاربها الواضح عندما يحاول الدكتور تركيز رأيه في أسباب الفتنة ومشكلاتها. فأرجو من الأستاذ المعداوي أن ييسر لنا الأمر ويوضح ما أراده الدكتور ويدلنا على الحقيقة التاريخية في هذا الحدث المهم في الحياة الإسلامية. . . ودمتم عوناً لمحبي المعرفة وطالبي الثقافة الصحيحة.

حسين حسن

معلم المدرسة الغربية

العراق الناصرية

أشكر للأستاذ الفاضل حسن ظنه، وأجيبه بأن هذا التناقض الذي يبدو له من ظاهر هذه الآراء مرجعه إلى أنها تقف وحدها في رسالته الكريمة، دون أن ترتبط بما حولها من شروح وملاحظات تتناول أسباب الفتنة ودواعيها. . . ولو ربط الأستاذ بينها وبين ما سبقها وجاء بعدها من تحليل لمقدمات الفتنة ونتائجها لا ننفي التناقض الذي يبدو له من ظاهر الألفاظ فيما كتب الدكتور طه حسين؛ هذه الألفاظ التي تحتفظ بدلالتها المعنوية إذا ما طبقت على ما جاء بكتاب (الفتنة الكبرى) من تفسير لمجرى الحوادث ووقائع التاريخ.

يشير الدكتور طه في الرأي الأول إلى أن غير عثمان لو ولى خلافة المسلمين في تلك الظروف التي وليها فيما عثمان لتعرض لمثل ما تعرض له من ضروب المحن والفتن، ثم يشير في الرأي الثالث إلى أن عثمان لو سار سيرة عمر ولو لم تدخل قرابته بينه وبين الناس لما وقعت الفتنة. . . وقد يبدو هنا شيء من التناقض بين الرأيين؛ لأن كلمة (غير عثمان) في الرأي الأول قد تنصرف إلى غيره من صحابة الرسول وفيهم عمر بن الخطاب؛ ولأن الدكتور قد قطع في الرأي الثالث بأن عثمان لو سلك مسلك عمر في معالجة الأمور لما وقعت الفتنة على هذا الوجه الذي وقعت عليه. الواقع أنه لا تناقض هناك ولا شذوذ؛ لأن الدكتور يقصد من وراء (غير عثمان) أولئك الذين رشحوا للخلافة بعد مقتل عمر وكان من الممكن أن يليها أحدهم لو لم يقع الاختيار على عثمان. . . فلو وليها علي بن أبي طالب أو عبد الرحمن بن عوف أو سعد بن أبي وقاص أو طلحة بن عبيد الله أو الزبير بن العوام لتعرض كل واحد منهم لمثل ما تعرض له عثمان من ضروب السخط وصنوف الكيد وفنون الوقيعة! كل ما حدث هو أن عثمان رضي الله عنه قد عجل بوقوع الفتنة بضعفه وتسامحه وقلة خبرته بشئون السياسة وأصول الحكم وطبائع النفوس، ولو قدر لغيره من هؤلاء الذين أتينا على ذكرهم أن يأخذ الأمور بشيء من الحزم والعنف لأبطأت الفتنة في سيرها بعض الإبطاء ولتأخرت النهاية عن موعدها بعض التأخير، ولكن هذا كله لم يكن ليحول بينهم جميعاً وبين هذا المآل الذي كان بالنسبة إلى عثمان خاتمة المطاف.

هذا التفسير المقبول يمكن أن نعالج به الشق الأول من الرأي الثاني حين يقول الدكتور طه حسين بأن هذه المشكلات التي ثارت من نفسها أو أثيرت أيام عثمان - لا لأن عثمان كان هو الخليفة - بل لأن الوقت كان قد أن ليثور بعض هذه المشكلات من تلقاء نفسه وليثير الناس بعضها الآخر. . . أقول الشق الأول من هذا الرأي لأننا لا نستطيع أن نبرئ عثمان من هذه المشكلات التي أثيرت وكان لطبيعته النفسية والخلقية في إثارتها أكبر أثر وأوفى نصيب. أما تلك المشكلات الأخرى التي ثارت من تلقاء نفسها فأوافق الدكتور طه على أنها لم تثر لأن عثمان هو الخليفة، بل لأن الوقت كان هو السبب الأول والدافع الأصيل إلى بعثها وإثارتها بعد أن كتمت أنفاسها يد عمر، وأخمد صوتها حزم عمر وحد من جموحها سوط عمر. . . يوم أن كان يدوي فوق الرءوس ويلهب الأجساد!.

بعض المشكلات أثاره الوقت ولم يكن لعثمان يد فيه وبعضها الآخر أثاره عثمان (الخليفة) بضعفه وتسامحه واستسلامه لذوي قرباه. . . أقول هذا لأن هناك كتاباً عن (عثمان بن عفان) يطمس حقائق التاريخ حين ينظر صاحبه إلى الفتنة ودواعيها من وراء هذا المنظار الديني الساذج الذي يظهر له عثمان فوق مستوى الشبهات والتبعات! ما هكذا تعالج القضايا التاريخية بوضعها فوق مشرحة العواطف الدينية؛ إننا لا نستطيع أن نضع على أعيننا هذا المنظار إلا إذا استطعنا أن نلغي العقل والمنطق حين نتحدث عن هذه الفتنة الكبرى دون أن نقدم النتائج مستندة إلى المقدمات. . . موقف عثمان من مقتل الهرمزان، تدليله لقرابته، إنصافه المنتمين إليه على حساب الناس، عزله ابن أبي وقاص عن الكوفة ليحل محله الوليد بن عقبة، إقصاؤه أبا موسى الأشعري عن البصرة ليضع في مكانه عبد الله بن عامر، خلعه عمرو بن العاص عن مصر ليخلفه فيها عبد الله بن أبي سرح، إيثاره الحكم بن العاص طريد الرسول، إغداقه المال على مروان بن الحكم صفيه المقرب، خضوعه لتوجيهات معاوية في نفي أبي ذر، اعتدائه أو اعتداء رسوله على عمار بن ياسر. . . كل هذه الأمور وأشباهها قد فرقت الشمل وعصفت بالصفوف، لأن عثمان كان هو الخليفة، ولئن كان السخط قد ولد في النفوس هذا الانفجار، فلأن عثمان قد شارك في الأمر بضعف رأيه وقصور نظره وسقوط هيبته!

أما المشكلة الكبرى التي أثارها الوقت ولم يكن لعثمان فيها ذنب ولا جريرة، فهي أتساع رقعة الفتوح، وتدفق الأموال، وانطلاق الأرستقراطية القرشية من معاقلها انطلاق الأسود السجينة قد تخلت عن زجرها قبضة السجان. ولم تكن القبضة الجبارة غير قبضة الجبار العادل عمر بن الخطاب لقد كان عمر يقف أبداً في طريق هذه الأرستقراطية التي لا يصدها جشع ولا يحدها طموح، لأنه كان أخبر الناس بالطبيعة القرشية إذا ما خلي بينها وبين ما تطمح إليه من سؤدد وما تطمح فيه من سلطان. . . الدرة في يمينه تخشع لرؤيتها رءوس السادة من قريش والكلمة تحت لسانه تخضع لسطوتها نفوس السادة من قريش: (ألا إن قريشاً يريدون أن يتخذوا مال الله معونات دون عباده ألا فأما وابن الخطاب حي فلا، أني قائم دون شعب الحرة أخذ بحلاقيم قريش وحجزها أن يتهافتوا في النار)!

ولكن عمر يموت وتتنفس قريش بملء رئتيها بعد أن لقيت العواطف المكبوتة ما لقيت من قسوة الكبت ومرارة الحرمان، وما كان لرجل غير عمر أن يقف في وجه هذه القوة المتحفزة للتوثب والانطلاق في غير حكمة ولا روبة ولا اتزان. . . لا هذا الخليفة المستضعف ولا هؤلاء الذين قاموا من بعده ليخلفوا، لأن الأرض لم تظفر بغير عمر واحد لا شبيه له في العدل ولا النظير!

في رحاب الوقت على التحقيق ثارت من تلقاء نفسها هذه المشكلة الرئيسية وما تفرع عنها من مشكلات، وفي رحاب عثمان على التحقيق أثار الناس وأثار هو ما جد بعد ذلك من أزمات!

دفاع مضحك عن السير ربالزم:

يذكر القراء أنني تناولت مذهب السير ريالزم بالنقد في عددين سابقين (من الرسالة)، حيث تحدثت عنه في مجال الأدب والفن عند عميديه في فرنسا: بريتون وبيكاسو. . . ويذكرون أيضاً أنني رميت هذا المذهب بأنه شعوذة فنية لا أكثر ولا أقل، وبأنه (لخبطة) ولا شيء غير (اللخبطة)! قلت هذا فتصدي للرد عليه في جريدة (البصير) التي تصدر في الإسكندرية أديب لا داعي لذكر أسمه لأن أحدا أيضاً لا يعرفه. . . ولقد هاجمني الأديب الإسكندري في بداية كلمته حتى خيل إلي أنه يمد بصلة القرابة إلى مسيو أندريه بريتون أو أنه على الأقل أحد تلاميذه النابغين! قال الأديب النابغ بعد تهجمه النابغ: (وبذلك شاء الأستاذ المعداوي أن يقضي بجرة قلم على مدرسة فنية ذات شهرة ذائعة ترتكز إلى مبادئ يدين بها فنانون هم الآن في طليعة حركة التجديد، يكفينا أن نذكر أسم زعيمهم (بيكاسو) للتدليل على أهمية ثورتهم على التقاليد القديمة. وبيكاسو فنان معاصر، مبدع مذهب السير ريالزم، ولنا إلى تاريخ حياته رجعة. إنما حديثنا اليوم حول موضوع السير ريالزم في حوار مع (نيكولا كالاس) وهو شاعر يوناني يعيش الآن في نيويورك، وقد طبع له في باريس منذ عشر سنوات كتاب (النقد الفلقي) من أجمل ما يتضمنه ما جاء في موضوعنا.

- ما هي أغراض السير ريالزم؟ - يرى السير ريالزم إلى التقليل - إن لم يكن التخلص نهائياً - من المتناقضات المفضوحة القائمة بين الحلم والحياة المستيقظة، أو بين الخيال والواقع، أو بين الشعور واللا شعور.

ويرمى أيضاً إلى الخروج بالشعر من (غرفات) الشعراء المشهورين إلى عالم واسع الجنبات، يصبح فيه هذا الشعر ملكاً مشاعاً للجميع!.

- ولكن ألم يكن الشعر أو التصوير ملكاً مشاعاً للجماعات!

- لم يكن الشعر أو التصوير ملكاً للجماهير على النحو الذي يقصده السير ريالزم. فيما مضى كان الشعر والتصوير مجرد تضليل وخداع للفرد. أما الآن فالسير ريالزم يفهمهما على أنهما تعبير عن أعمق الرغبات التي تختلج في أعماق الفرد.

- ما هي أهم قواعد السير ريالزم؟

- الشيء الذي يجب أن يكون نصب أعيننا دائماً هو الحقيقة والحقيقة لا ضير عليها مع التخفي وعدم التصريح! بل إننا بأتباعنا هذه السبيل إنما نساعد على التحلل من القيود الشكلية وهذا يعتبر من أظهر أهدافنا!.

إلى هنا ونكتفي بهذا القدر من كلمات هذا الشاعر اليوناني المخرف. . . وأي تخريف أروع من قوله بأن الحقيقة لا ضير عليها من التخفي وعدم الوضوح؟ لست أدري كيف تختفي الحقيقة عن أعيننا وعن أذهاننا ثم يتهيأ لنا القول بأننا قد عثرنا على الحقيقة، ولست أدري كيف نعيش في ظلام الحيرة من الفهم لأهداف المذهب السريالي في لوحة فنية أو قطعة شعرية ثم يتيسر لنا القول بأننا نعمل في رحاب النور! أليس من المضحك حقا أن يذهب السرياليون إلى أن الشعر والتصوير كانا مجرد تضليل وخداع للفرد، وأن السير ريالزم هو وحده الذي ينهض بهما إلى مستوى رفيع من التعبير عن أعمق الرغبات؟!. . . تصور أن الغموض ينهض بالوضوح، وأن المجهول ينهض بالمعلوم، وأن الشعوذة تنهض بالعقل، وأن الخيال السقيم ينهض بالمعنى الجميل! هل تستطيع أن تتصور؟ لا أظن. . . اللهم إلا إذا فقدنا نعمة الذوق والشعور!!

حقوق المرأة المصرية بين الأنصار والخصوم:

تدور منذ أيام على صفحات الصحف اليومية معركة حول مطالبة المرأة المصرية بحقوقها السياسية، وفي هذا الموضوع قرأت في (الأهرام) كلمة (موزونة) للأستاذ محمد زكي عبد القادر يقول فيها: (. . . وذكرت أنه منذ سنوات دخلت الفتاة المصرية المحكمة وعليها روب المحاماة، وحسب الرجال أن الفتيات سيهرعن إلى هذا الروب، ولكن المهنة الشاقة ظلت وقفاً على الرجال!. . . لو كنت صاحب سلطان لفتحت أبواب البرلمان ومنصات الوزارة للمرأة، وأطلب لها كل عمل تزاوله كما تشاء، واثقاً أنها ستظل حتى وهي في أوج السلطان، يسعدها أن تسمع من رجل كلمة إعجاب أضعاف ما يسعدها أن تبلغ كرسي الوزارة!).

هذا الذي يقوله الأستاذ زكي عبد القادر يقرر الواقع بلا جدال. . . وكم أود - لضيق النطاق - أن أسأل المطالبين بحقوق المرأة سؤالاً واحداً لا أنتظر الجواب: كم في مصر من المثقفات اللائي يستطعن النهوض بهذا العبء الخطير ويشاركن بثقافتهن الناضجة في ركب الحياة السياسية؟

إنني أنظر فلا أرى منهن من تعينها ثقافتها على تحمل المسئولية الضخمة غير عدد ضئيل لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، ومع ذلك فقد بحت الأصوات من المطالبة بحقوق المرأة في مصر. . . بالله خففوا من هذه الغلواء، وإذا قال واحد منكم بأن الجامعة يمكن أن تخرج لنا جيلاً ناهضاً من الفتيات المثقفات فقد كذب على الواقع الذي لمسته يوم أن كنت في الجامعة؛ أن الفتاة المصرية لا تذهب إلى الجامعة طلباً للعلم. . . ولكنها تذهب إليها طلباً للزوج!

أنور المعداوي