مجلة الرسالة/العدد 825/فزان بين يدي الفرنسيين والطليان

مجلة الرسالة/العدد 825/فزان بين يدي الفرنسيين والطليان

مجلة الرسالة - العدد 825
فزان بين يدي الفرنسيين والطليان
ملاحظات: بتاريخ: 25 - 04 - 1949



للأستاذ أحمد رمزي بك

(تتمة)

احتلال فرنسا:

في سنة 1940 وقبيل عقد الهدنة بين فرنسا وألمانيا دعت الحكومة الفرنسية الجنرال والقائد العظيم فيجان لتولي القيادة العامة وسد ثغرة سيدان، لقد تحطمت الجبهة واندكت حصون خط ماجينو في الشمال والزحف الألماني لا يقف وراديو برلين يصيح (لو بعث نابليون من قبره، لما كان في وسعه أن يغير القدر المحتوم) لقد هزمت فرنسا وتمزقت جيوش الجمهورية.

وكنت جاراً للجنرال كابو وقد زالت الكلفة بيننا وفي عصر أحد الأيام دعاني لمنزله وقال لي إنه يغادر البلاد الليلة إلى مصر فالسودان فأفريقيا الغربية فمراكش إلى فرنسا، وذلك بناء على دعوة فيجان الذي طلب إليه أن ينضم إلى هيئة أركان الجيش الفرنسي، إذن يجب أن يكون بجبهة القتال قبل أربعة أيام قلت (إنكم تنتظرون قرارات حاسمة لإيقاف هذا الزحف المستمر) قال: (إن إنقاذ فرنسا يحتاج إلى معجزة). أن ذكر أربعة أيام للوصول إلى فرنسا هي التي لفتت نظري، فهذا القائد يغادر بيروت إلى القاهرة ومنها إلى الخرطوم ومنها إلى واداي ومنها إلى بحيرة نشاد ثم تمبو كتو ومنها إلى وسط الصحراء ثم الدار البيضاء ليصل في أربعة أيام إلى فرنسا (التي كان بوسعه أن يصلها في ساعات).

هذا الموقف الحاسم في استراتيجية البحر المتوسط سببه دخول إيطاليا الحرب تلك الدولة التي تملك من المراكز ما يمكنها من أن تشل حركة الحلفاء جميعاً وتجعل من البحر قسمين وتدخل في صميم القارة الأفريقية بقطاع يهدد أملاك إمبراطوريتين.

ومن هذا نفهم أول مبرر يدفع الفرنسيين للتمسك بأقليم فزان على أساس أنه على الطريق الجوي بين مدغشقر وفرنسا.

وحينما عقدت الهدنة ظهرت حركة الفرنسيين الأحرار التي ترأسها الجنرال ديجول أخذ يسعى إلى جمع شمل الإمبراطورية تحت لوائه فكان أول من أنضم إليه الجنرال كات بالهند الصينية ولكن موقف اليابان حال دون استمراره فغادرها واتجهت الأنظار إلى منطقة قريبة فكان الكنغو الفرنسي أول المقاطعات التي انضمت إلى الحركة والغريب أن الظروف تركت هنالك حاكماً وطنياً من الشعوب الملونة وهو الذي توفى قبل نهاية الحرب بالقاهرة وكان أمل فرنسا يستهدف أن تحتفظ بمكان لها على مائدة الحلفاء، ولذلك تغير اسم فرنسا الحرة إلى فرنسا المقاتلة وحاول الجنرال ديجول مراراً أن يسمح له بالجلوس مع روزفلت وستالين وتشرشل، وكان الأولان يعترضان على وجود فرنسا لأنها سلمت ولم تحارب ولذلك اتجهت إرادة فرنسا الحرة إلى تحمل أعباء قتال في أي جهة وكان أن سمعنا بفراق من المتطوعين وجنود المستعمرات تحارب في صف البريطانيين وبين أيدينا في سوريا ولبنان ذكريات ضباط البر والبحر والجو الذي كانوا يخترقون حدود فلسطين للانضمام إلى قوات فرنسا المحاربة، وكان أن ظهرت قوات في ميدان سوريا ولبنان، ثم في الحدود المصرية في بير حكيم حين استبسلت قوة فرنسية أمام قوات تفوقها عدداً عن جنود المحور.

إلا أن العملية الحربية المنفصة والمستقلة تماماً عن بقية جيوش الحلفاء هي العملية التي تولتها فرنسا المقاتلة بزحفها من بحيرات تشاد عبر الصحراء الكبرى وانتهت إلى فزان وهي من أعظم حركات حروب البادية.

ولقد كان رأي فرنسا في الحكم الإيطالي يختلف تماماً عن رأيها اليوم وإليك الدليل من نشرة رسمية لحكومة الفرنسيين الأحرار وسأقرأها بالفرنسية:

كانت مقدمة هذه الحركة. عملية من أخطر العمليات التي مرت في تاريخ حروب البادية ولكنها أشبه بحركة كشفية منها بعملية حربية. فقد قام من الجانب الفرنسي ضابط أسمه جان كولوتا دورنافو من ضباط قوات البادية الفرنسيين واشتركت معه ضابطان بريطانيان اجتمعا في القطاع الجنوبي حيث تلتقي الحدود بين المستعمرات الإيطالية والفرنسية وحدود السودان وكان هذا في 4 يناير سنة 1941 وفي11 يناير تمكنت هذه القوة المخاطرة من تدمير مطار مرزوق والسودة بعد أن ظل الضابط الفرنسي كولوتا دورتانو تحت وابل رصاص الطليان. وتعرضت بعد هذه الحملة واحة كفرة والجزء الجنوبي من فزان لعدة هجمات سنة 1942 وفي أوائل سنة 1943 زحفت قوة الجنرال الفرنسي من الجنوب وأهم أغراضها احتلال فزان وتحريرها وكان مركز التجمع ثم وأتت المؤن والذخائر وبالسيارات من برازافيل، وكانت القوة الزاحفة عددها 738 ضابطاً ورجلاً.

وقد اختير موعد الزحف بين شهري نوفمبر وفبراير وفي 25 ديسمبر أذيع أول بلاغ عن العملية يتضمن دخول القوة في يوم 22 ديسمبر 1942 أراضي فزان، وفي 30 ديسمبر احتلت أم الأرانب بعد مناوشات مع قوة إيطالية وسلم عشرة من الضباط وأكثر من مائتي جندي وطني وفي الوقت نفسه سلمت البطرون ثم سبها وفي 12 يناير سلمت مرزوق.

كان الاستعداد لهذه العملية كامل من جميع الوجوه وجاءت في الوقت المناسب الذي كان الحلفاء يدفعون بجيوش المحور إلى الحدود التونسية، ولذلك تمكنت الحملة الفرنسية بعد احتلال فزان أن دخلت طرابلس في 25 يناير، واحتلت في 26 يناير سنة 1943 غد أمس.

وقد اشتركت القوات الهوائية الفرنسية وأبلت في المعارك بلاء حسناً، ولكن عظمة الحملة فهي في تنظيمها وسيرها وأنها حركة مفاجأة رغم أن الحرب التي واجهت الحملة هي حرب مع الطبيعة أكثر من أنها حرب مع الطليان، وقد دلت عمليات الصحراء من 1941 إلى 1943 على أن قيادة الحلفاء كانت تحسب حساباً للمطارات الإيطالية في الكفرة وفي مرزوق، وقد ذكر الفرنسيون أنهم وجدوا في مطار الكفرة البريد السري الذي كان يرسله حاكم جيبوتي التابع لحكومة فيشي مما يدل على أن مطارات الصحراء كانت تسمح باتصال الإيطاليين بأثيوبيا مع دولتي المحور.

هذه هي العمليات التي أدت إلى دخول الفرنسيين وهي بطبيعتها مكملة لحركات الحلفاء في شمال أفريقيا، ولقد كانت الأهداف تبدو مستعصية وبعيدة عن التحقيق لو كانت مستقلة تماماً ولكنها كعملية للحروب الاستعمارية الصحراوية تستدعي أن تقف قليلاً لنتحدث عن الصحراء.

حروب الصحراء:

للصحراء روعة تحدث عنها الكثيرون من أهل أوربا من رجال الجندية وغيرها. فحافتها تمثل في نظرهم حدود بحر متسع من الرمال يدعو الواقف على شاطئه أن يركب الأخطار فيكتشف فيها ما وراء الأفق أو هي قطعة من عمل الطبيعة تتحدى الإنسان - أقصد الإنسان الواعي - وتدعوه أن يقدم عليها ويواجهها وينازلها ليكتشف ما تخفيه في أنحائها.

ولذلك كثر عدد الرواد وانتهى الأمر إلى أن أصبح للصحراء حروب ومعارك وأنظمة علق عليها المستعمرون أهمية خاصة. وكان من أهم مظاهرها وفوائدها أنها تخلق تلك الفئة الممتازة من الرجال الذين تخرجهم مدارس الحروب الأفريقية والأسيوية بتجاربها القاسية. ويعد أفراد هذه الفئة ذخراً لا يقدر بثمن للبلاد التي تملك المستعمرات الشاسعة البعيدة عن العمران والتي يحتاج استتباب الأمن فيها إلى القيام بحملات دائمة ومستمرة ضد أهالي وسكان البلاد الوطنين الذين يحدثون أنفسهم بالدفاع عن أوطانهم.

فلكي يكون لدينا مثل هذه الفئة الممتازة لنرد العدوان وشره، يجب أن ندفع بعدد من رجالنا دائماً إلى الأخطار فإن لم تكن لدينا حروب وجب أن نشجع هذا الفريق أن يتطوع خارج البلاد وأن يشترك في أية حروب قائمة بصرف النظر عن ميلنا لهذا الفريق أو ذاك من المتحاربين. إنما يكون غرضنا الأساسي الحصول على تجارب كل فريق وأساليبه في القتال متجهين إلى تربية روح المغامرة في النفوس.

من هذه المدرسة تخرج قواد المستعمرين الذين قادوا الحروب في أوربا وكانوا قوة للبلاد التي ينتمون إليها ذلك لأن وجودهم في جو يدعو إلى تحمل المتاعب ومواجهة الأخطار وأخذ المسئوليات بثقة في النفس يخلق فيهم صفات ممتازة أهمها الجرأة على الوقوف أمام عقبات تبدو مستعصية ووسط ظروف تعد خطيرة ثم تعويد النفس على أحد القرارات السريعة الحاسمة وتنفيذها وهي صفات تبدو في كثير من الأمم وكأنها قد فقدتها مع اليوم الذي فقدت استقلالها فيه.

وليس معنا هذا أننا معاشر الشعوب الإسلامية في تاريخنا الطويل المملوء بالحروب المتتالية سواء في آسيا أو أفريقيا لم تذق طعم الانتصار وحلاوته، بال كان لدينا من هذه الفئة الممتازة كثيرون، ومنهم من لا يمكن مقارنته بغيرهم من الرجال الأوربيين نظراً لتفوقه ومنهم لا يقل في صفاته عنهم.

ولقد كان من أسلافنا من قادوا الحملات عبر الصحراء عدة مرات ودانت لهم القارة الأفريقية بحسب الأساليب التي كانت متبعة في عصرهم فهناك حملات من الشمال إلى الجنوب عبر الصحراء الكبرى وحملات من الغرب إلى الشرق ومن الشرق إلى الغرب قام بها أسلافنا من المرابطين والموحدين على شكل أوسع وأعظم مما يفتخر به قواد المستعمرين من الإيطاليين والفرنسيين. ولكننا اليوم مضطرون أن نأخذ من الغرب وأن نتتبع خطواته، وأن ندرس هذه الحملات ونقلدها حتى أساليب القتال على أراضينا وأوطننا.

بعد مضي سبعين عاماً على حملة فرنسا التي ساقتها على الجزائر أي في سنة 1900 احتلت القوات الفرنسية المقيمة في جنوب الجزائر واحة عين صلاح، وكان هذا الاحتلال بمثابة فتح جديد قابله العالم بدهشة زائدة ذلك لأن فرنسا فاجأت العالم بإنشاء قوة عسكرية جديدة للبادية يرجع الفضل في تدريبها وتهيئتها إلى المأجور لابرين فهذه القوه أشار إليها جراتزياني في كتابه عن إخضاع ليبيا وقال إن إيطاليا أدخلت هذا النظام لديها وزادت عليه فتولى قيادة رجال البادية الدوق داوستي الذي أخذ هذا العمل بجد ولا أزال أذكر حديثه عن الأيام التي قضاها وسط الصحراء وكيف أنه كان يعبر عن حنينه الدائم وهو في أربا عن أيامه في تلك البقاع.

والتكلم عن قوات البادية وتنظيمها لا بد أن يذكر العمل الذي قام به المأجور جلوب باشا المسمى بأبي حنبك في بادية الشام، فهذه وإن كانت بعيدة عن فزان إلا أنها نوع من أعمال الأوربيين يستحق اهتمام أولي الأمر وتفكيرهم.

ماذا نستخلص من محاضرة فزان:

أولا: اهتمام الدول الأوربية بالصحراء الأفريقية مما يتطلب ضرورة التعجيل بإنشاء معهد الصحراء لدراسة مستقبل الصحاري في بلادنا وفي القارة الأفريقية وفي أسيا خصوصاً جزيرة العرب.

ثانياً: اهتمام الدول الاستعمارية بطرق المواصلات عبر الصحراء وهي مواصلات برية وهوائية.

فالأولى ستعود بنا إلى طرق القوافل القديمة فعلينا أن نستعد من الآن على دراسة هذه الطرق ورسمها على الخرائط ثم العمل على إعادتها واكتشاف مواقع المياه فيها، أما الطرق الهوائية فأول واجب يحتم علينا إنشاء مطارات حديثة في مناطق الواحات المصرية حتى تكون دائماً على استعداد للمساهمة مع الآخرين في تعمير الصحراء.

يسير العالم بخطوات سريعة نحو توطيد سيطرة الدول الأوربية مرة أخرى على المشارق والمغارب، ومشكلة فزان إحدى المشاكل المرتبطة بمستقبل ليبيا، وقد ظهر للعيان كيف تطورت السياسة العامة بالنسبة لإيطاليا فهي قد كانت تقبل منذ سنتين مساعدات الدول العربية بأصواتها لاستعادة إرتريا والصومال في مقابل الاعتراف باستقلال ليبيا كاملاً، أما اليوم فلا أدرى هل تقبل ذلك؟

من الناحية الفرنسية يبدو لنا أن فرنسا تحاول أن تعمل على إعادة نفوذ إيطاليا كاملاً، وفي هذه الحالة هل تسلمها حدودها القديمة أم تقتطع فزان، وإذا سلمت لها بفزان هل تحتفظ بـ 100 , 000 كيلو متراً من الأراضي التي سلمها لافال إلى موسوليني؟ وما هو موقف الإنجلو أمريكان؟

إن موقفهم يتلخص في الاحتفاظ بالمراكز الاستراتيجية.

ولا يوجد شك في أن بريطانيا لها مراكزها في برقة كما لا يوجد شك في أن أمريكا لها مراكزها في طرابلس.

في مصلحة من استقلال ليبيا موحدة. .

هذا ما تمليه تطورات السياسة العالمية ومقدار الثقة التي يحصل عليها أهل ليبيا وبرقة أنفسهم.

أما أهل فزان فداخل السور الحديدي أسلاك شائكة وجنود السنغال، مثلهم كمثل ملايين من بني آدم لا يتمتعون بما يسمى حقوق الإنسان: تحرمهم منها أمم كانت هي أول من نادى بحرمة حقوق الإنسان.

أحمد رمزي