مجلة الرسالة/العدد 826/مسرحية (سليمان الحكيم)

مجلة الرسالة/العدد 826/مسرحية (سليمان الحكيم)

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 05 - 1949



للأستاذ توفيق الحكيم

بقلم الدكتور محمد القصاص

- 2 -

بعد الألاعيب والمفاجآت التي تكلمنا عنها في المقال السابق يرجع سليمان فجأة عن فكرته في استمالة قلب بلقيس إليه بعد أن أمعن في تعذيبها والسخرية منها حتى في أشد ساعات محنتها؛ فيتوب إلى الله ويخلو إلى تأنيب ضميره اللاذع وجحيم شعوره بسقطته، كما تعدل بلقيس عن (البصبصة) لمنذر وتبارك زواجه من شهباء حبيبته، ثم تغفر لسليمان زلته وتبالغ في الغفران، وتعزيه في محنته حتى لكأنها تهنئه على أن هيأت له (الأقدار) هذه الفرصة السعيدة لتطهره من الأدران. أو ليست هي التي تجيبه وهو يأسى على ما وقع منه: (من هذه الأخطاء تبرز أحيانا بصائرنا متفتحة. . . كما تتفتح الأزهار النابتة في الأوحال).! وهكذا يستقر كل أمر في نصابه: فقد أرغمت القوة الخفية سليمان إرغاما على حب بلقيس، وأرغمت بلقيس إرغاما على ألا تبادل سليمان حبا بحب، وكذلك الحال بالنسبة لبلقيس ومنذر سواء بسواء. ومن ذلك يعرف العاشقان غير المعشوقين (إن الحب قدر صارم يضرب ضربته حيث يريد هو لا حيث نريد نحن). فتهدأ نفساهما، ويندمان على أن لم يعرفا منذ البداية، ويباركان السماء أن جعلت الأشياء على ما هي عليه، (إذا لا ينبغي أن نكره هذا كثيرا. . . يجب أن تكون فينا زهرة لم ترو، وجوع لم يشبع، ورغبة لم تنل، وصيحة لم تسمع. . . بهذا نستطيع أن نكون جديرين حقا بالحكمة والتمييز، خليقين بفهم القلب الإنساني ومخاطبته، قادرين على أن نحمل إليه العزاء ورسالات السماء.) والغريب بعد هذا الكشف العجيب، كشف أن كل ما كان قد كان لغاية، بل لخير الغايات على حد تعبير فلتير متهكما على لسان بنجلس (وإن كان ذلك قول يتنافى مع فكرة الأستاذ الحكيم الأساسية) نقول الغريب بعد هذا أن يستمر سليمان في حزنه وندمه حتى يقضي الحزن والندم على حياته. ولكن لعل ذلك من فعل (القوة الخفية) لغاية في نفسها أيضا.

هذه هي الفكرة التي هدف المؤلف إلى إبرازها في كتابه، وتلك طريقة عرضها. وقد رأ أنها لا ترفع من قدر الإنسان، وأن عرض الكاتب لها لا يرفع من قدرها في حد ذاتها، بل يبرزها مشحونة بالمتناقض وبالتافه وما لا يفهم. وإلا فكيف نلمس في حب سليمان لبلقيس وإعراض بلقيس عن مبادلته حبا بحب أثرا لقوة خفية دفعتهما إليه؟ ألا يكون أقرب إلى المنطق أن نرى في رفض بلقيس أن (تنزل) عن حبها لمنذر (لتبيعه) إلى سليمان أثرا لفرديتها المستقلة عن فردية سليمان، وبرهانا على حريتها التي هي غير حرية سليمان؟ عندئذ تصير المسألة صراعا بين حرية وحرية، بين ميول وعواطف وظروف من جهة وميول وعواطف وظروف من جهة أخرى، بين نفس تعيش في زمان ومكان معينين ونفس أخرى تعيش في زمان ومكان معينين أيضاً اللهم إلا إذا كان الأستاذ يشترط في حرية الإنسان ليعترف بها أن تكون شيئا منفصلا عن مقومات شخصيته كل الانفصال، شيئا يدير الإنسان من خارجه على نحو ما رأى في القوة الخفية. أو إذا كان يرى أن الحرية في الحب، بل وفي غير الحب، يجب أن يتمتع بها طرف دون الآخر. فما دام سليمان قد أحب بلقيس فما عليها إلا أن تتبعه كالعجماء يلوح لها بحزمة البرسيم، بل كالحجر يلقى به من حالق دون حرية ودون شعور. وما دامت بلقيس قد أحبت منذرا فما على منذر إلا أن يلغى حريته وكل ما يكون شخصه المعنوي ليبادل بلقيس حبا بحب وهياما بهيام. إن كان ذلك ما يريد الأستاذ الحكيم، فإنه يحمل الحرية ما لا نطيق ويعرفها تعريفا لم يعرفه لها أحد من قبله، فتمنى لبني الإنسان أو لبعض بني الإنسان حرية الآلهة لا حرية البشر ليخرج بهم من حدود البشرية إلى ملكوت الألوهية. وإلا لم يعترف بأن لبني الإنسان حرية. تذكرني هذه النظرة في فهم الحرية بفكرة ساذجة عن الحرية أيضاً يلقنها سارتر لإحدى أبطاله لينقضها ويسخر منها. وكانت هذه الفتاة قد تآمرت مع أخيها على قتل أمها لسبب ما، فقتلاها. ولكن الفتاة بعد الحادث وقعت فريسة للندم، وصمد الفتى للضربة لأنه فعلها بحريته، فيقول لأخته لينتشلها من براثن الندم: (أنا حر يا إلكترا. لقد انقضت على الحرية انقضاض الصاعقة). وتجيبه الفتاة: حرا أما أنا فلست أشعر بأني حرة. أتستطيع أن تعيد ما كان وكأنه لم يكن؟ وقد وقع منا ما وقع ولسنا أحرارا في أن نرجعه إلى ما كان قبل أن يقع: أتستطيع أن تمنعنا من أن نكون قاتلي أمنا إلى الأبد؟ فيرد عليها أورست قائلا: (أو تظنين أني أريد منعه؟ إنه فعلي أنا، وسأحمله على كتفي إلى الأبد). أجل إن حرية الإنسان محدودة بحد الإنسان، حرية غير تجريدية، بل متصلة بتفكيره وعواطفه وشهواته وكل ما هو من شخصه، ولكنها الحرية على كل حال. ولا يجوز في حكم العقل أن يدفعنا ما لها من صفة نسبية، من صفة الإنسانية إلى إنكار وجودها كما فعل مؤلفنا الكريم.

ربما رأى القارئ أننا أسرفنا بعض الشيء في عرض فكرة الأستاذ الحكيم وشرحها ونقدها. ولكننا إن فعلنا ذلك فلأننا نعتقد أن الفكرة في العمل الأدبي يجب أن تحتل المكان الأول لأن الكاتب إذ يكتب، لأن الكاتب إذا راح يجمع الكلمات في جمل يتوخى أن تكون واضحة مفهومة فلا بد أن أمرا غريبا عن مجرد الكتابة لذات الكتابة قد ساقه إليها، ذلك هو عزمه على أن يبلغ النتائج التي وصل إليها بذهنه إلى الآخرين. فإذا فعل ذلك دون أن يكون لديه شيء يقوله فقد فعل ما فعل في الفراغ. وأظن ذلك مما يجب أن تتنزه عنه أعمال العقلاء. وقد قلنا في مقال سابق إن إقصاء التفكير عن المسرح إفراغ له من مادته الأساسية وإنزال لقدره وحط لكرامته. كما نرى أنه من أجل أعمال الناقد أن يتتبع في العمل الأدبي نظرة الكاتب إلى العالم والحياة والناس، سواء أكانت هذه النظرة شعورية أو غير شعورية، ويحررها وينقدها ويقومها. لأنه إذا كان من أهم وظائف الأدب، كما يقول أندريه جيد. أن يضيف إلى المعرفة الإنسانية أرضين جديدة (في الميادين النفسية مثلا)، أرضين يتعسر الوصول إليها بطرائق أخرى غير طرائق الأدب فإن من وظيفة النقد أن يقوم هذه الأرضين ليجعلها صالحة للاستغلال، ويسهل للإنسان السيادة عليها. وفي اعتبارنا أن الأستاذ توفيق الحكيم جدير بهذا النقد الجدي، جدير به وأن لم نرضى عن أفكاره في رواية سليمان الحكيم التي ندرسها هذا العام مع طلبة الفلسفة بكلية الآداب. هذا إلى أن هذه الفكرة كان لها أثرها الفعال على فن الرواية نفسه كما سنبين فيما بعد. أما الآن فنود أن نشير إشارة عاجلة إلى الباعث الذي يجنح بالمؤلف إلى اختيار مثل هذه المواضيع مادة لمسرحه، وأن ندلي بوجهة نظرنا فيه.

يرى الأستاذ ويصرح بهذا الرأي في مقدمة مسرحيته: (أوديب الملك) بأن الدين كان أساس التراجيديا عند الإغريق القدماء فيقول: (أساس التراجيديا الحقيقية في نظري هو إحساس الإنسان أنه ليس وحده في الكون، وهذا ما أعبر عنه بعبارة الشعور الديني. . . مهما كان شكل التمثيلية وإطارها وأسلوبها والأثر الذي تحدثه في النفس فإن هذا كله لا يسوغ في رأيي وصفها بالتراجيديا ما دامت لا تقوم على هذا الشعور الديني). وهذا كلام لا نرتاب في صدقه ونقائه. فموضوع التراجيديا عند إسخيل وسوفوكل مثلا مأخوذة من عبادة الشعب بطريق مباشر. وكانت تمثل أمام شعب مجتمع متجانس يرى في آلهته الآلهة الحقيقيين، وفي أبطاله الأبطال الحقيقيين، وكلهم أبلوا في حماية الوطن وإعلاء كلمته. فتعرض على الشعب أعمالهم الجليلة ومظاهر بطولتهم وكلها معروفة من الجميع، حية في نفوس الجميع. تعرض هذه الأفعال العالية والبطولة النادرة، وتعرض معها جرائم الأسلاف ونكباتهم، أولئك الأسلاف الذين يرزحون تحت سطوة القدر القاسي: فمن خرافة بروفين إله النار الذي يخدع الآلهة فتقضي عليه الآلهة بأن يظل طول الأبدية مشدودا إلى صخرة وقد جثم عليه نسر عات ينخر كبده دون أن يخفف عنه العذاب أو يقضي عليه فيموت، إلى الملحمة التي انتهت بهدم طرواده وما تخللها من أعمال البطولة التي تعلو على طوق الإنسان، إلى سلسلة المآسي الفاجعة التي ترتبت ترتبا حتميا على مآدبة أنرية المشؤومة حتى انتهت بحماقة أورست المروعة، إلى الانتصار الهليني على العدوان الفارسي، ذلك الانتصار الذي كانت ذكراه تلهب قلب كل يوناني بالحماس. فكلها موضوعات شعبية دينية ليس منها واحد لا يمتزج امتزاجا بروح كل فرد في الشعب وبأخفى خفايا نفسه. وقد دعي شعراء التراجيديا للاحتفال بها أي إلى الاحتفال بروح الشعب المشترك وإيمانه المشترك في وقار، بل في أسمى ما يكون الوقار. دعى الشعراء التراجيديون لتقديم أعمالهم عن هذه الموضوعات، وكان على الشعب أن يتفانى في تكريم من كان منهم أهلا للتكريم، أعني من استطاع خيرا ممن عداه أن يثير في نفسه (نفس الشعب) الانفعال الذي كان ينتظره من بروميتي وأجاممنون وأوديب وأورست بعد أن تقمصهم أمامه أشخاص أحياء بضع ساعات من نهار.

(للبحث بقية)

محمد القصاص

دكتوراه الدولة في الآداب من جامعة باريس