مجلة الرسالة/العدد 826/من أدبنا المجهول:

مجلة الرسالة/العدد 826/من أدبنا المجهول:

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 05 - 1949



المنصف

لابن وكيع المصري المتوفى سنة 393هـ

للأستاذ السيد أحمد صقر

(بقية ما نشر في العدد الماضي)

أو لم يسمع النافون عنه أخذ الكلام من النثر والنظام قول الفرزدق: نحن معاشر الشعراء أسرق من الصاغة؟ أو ما سمعوا قول الحكماء: من العبارة حسن الاستعارة؟ وما شيء بأعجب من وقوع جملة الشعراء في أمر يشترك فيه قديمهم ومحدثهم من استعارة الألفاظ والمعاني إلى مر الزمان بتحكيك الفحول منهم الشعر وتنقيتهم إياه، حتى أنهم كانوا يسمون قصائدهم الحوليات، لأنهم كانوا يعيدون فيها النظر حولا حولا قبل ظهورها، فلم يعصمهم طول النظر وكد الخواطر والفكر من أن يلم بعضهم بكلام بعض. ثم لا يرضى مقرظ أبي الطيب حتى يدعي له السلامة الكاملة من عيب لم يتكامل في أحد قط تكامله فيه. وأنى له بالسلامة من ذلك وقد جاء على ساقة أهل الشعر بعد استيلاء الناس على حلو الكلام ومره، ونفعه وضره، وهذا الظلم الواضح والأمك الفاضح.

وسأدل أولا على استعمال القدماء والمحدثين أخذ المعاني والألفاظ، ثم أعود إلى تنخل شعر أبي الطيب ومعانيه، وإثبات على ما أجده فيه من مسروقات قوافيه التي لا يمكن فيها اتفاق الخواطر، ولا تساوي الضمائر، لأن ذلك يسوغ في النذر القليل، ويمتنع في المتواتر الكثير. وسأنصفه في كل ذلك، فما استحقه على قائله سلمته إليه، وما قصر فيه لم أدع التنبيه عليه، لئلا يظن بنا الناظر في كتابنا خورا في قصد، أو تقصيرا في نقد. وذلك يلزمنا إلحاق ما فيه عيب غير السرقة بالمسروق، خوفا من أن يقول قائل قد تجاوز عن أشياء من الغثاثات واللحون والمحالات كانت أولى من الذكر للمسارقات. هذا إن لم يعبر عنا بالغفلة عنها إلا لتجاوز لها. وينبغي إذا عملنا على تسليم ما له من السرقات إليه، ورد المقصر منها عليه، أن أثبت لك وجوه السرقات، محمودها ومذمومها، وصحيحها وسقيمها، وأعرفك ما يوجب للسارق الفضيلة، وما يلحقه الرذيلة، ليكون ما نورده له وعليه مقيس على أس قد أحكمناه، ونهج قد أوضحناه، وما غرضنا في ذلك الطعن على فاضل، ولا التعصب لقائل، وإنما غرضنا إفادتك ما استدعيناه، وكفايتك الفحص عما أستكفيناه، لتظهر على خصمك، وتزداد قوة في علمك، وبالله نستعين، وعليه نتوكل، وهو حسبنا ونعم الوكيل).

هذه هي المقدمة الرائعة التي قدم بها ابن وكيع المصري بين يدي كتابه، وفيها كل الغناء لمعرفة قيمة الكاتب والكتاب.

وقد تحدث ابن وكيع بعد ذلك عن السرقات ووجوهها العشرة المحمودة، ومثيلاتها المذمومة حديثا معجبا مطربا مركزا شاملا، ثم قال: (وقد عرفتك الآن وجوه السرقات محمودها ومذمومها لتسلم من الحيف عليه، وتقضي في الحقائق بما له وعليه مما أوجبه حكم السرقة من الإنصاف، ولقبنا كتابنا (المنصف) لما قصدنا من إنصاف السارق والمسروق منه).

وعقد بعد ذلك فصلا ضافيا عن أنواع البديع أو وجوهه، كما يعبر، ثم عقب عليه بقوله: (وقد قدمت لك من هذه الأقسام ما تقوي به معرفتك بنقد الشعر فائقة ومقصره، وأطلعتك على سرائر رذله ومتخيره، لتفاضل بين الشعراء بأصل، وتنطق بعدل). ثم شرع في مقصوده الأصيل، وهو بيان سرقات المتنبي. وقد نهج في تبيانها منهجا ممتازا، ذلك أنه تتبع شعر المتنبي تتبعا تاريخا، وسايره بالنقد من أبياته الأولى إلى آخره قصيدة قلها. . .

وقد خلا كتاب المنصف من ذلك الثقل البغيض الذي يشيع الملل في نفس القارئ، والذي تحسه واضحا قويا في كتاب الوساطة. وما كان خلوه من ذلك الثقل مصادفة ولا عفوا، وإنما كان أمرا قصد إليه المؤلف قصدا، واحتال للخلاص منه احتيالا بإيراد الأخبار النادرة، والمعاني الباهرة، كاملة غير مخدجة كلما اقتضى المقام إيرادها، واستدعت المناسبة القوية ذكرها.

وقد نبه على صنيعه هذا في مواطن كثيرة يقول في أحدها:

(وإنما قصدناه قصدا، وأتيناه عمدا، لأن موضوع الكتاب الفائدة للقارئ، ولسنا نأمن عليه من الإكثار عاقبة الإضجار بمعنى واحد من السرقات، فتريد أن ننقله إلى استماع شعر مطرب، أو خبر معجب، لنروح عن قلبه، ونجلو صدره، بما في الانتقال، من حال إلى حال، من مداواة القلوب من الأملال).

ومما هو جدير بالذكر أن ابن وكيع قد اعتمد على ذوقه الخاص في نقد شعر المتنبي، ولم يقتصر على سرد أقوال السابقين من النقاد، كما صنع غيره من المؤلفين، وإنما أجال نظره، وأعمل فكره، وأدار عقله في شعاب شعره، ثم عبر عن مشاعره وآرائه وأحاسيسه وأفكاره في قوة ووضوح وثقة واعتزاز؛ ومن هنا كانت نفاسة الكتاب، وسمو منزلته بين كتب النقد الأدبي.

وقد حرص ابن وكيع في كتابه على أمرين عظيمين: نقد الصورة الشعرية ومحاولة إصلاحها، والموازنة المفصلة بين المعاني التي يتوارد عليها الشعراء. فقد ضرب في هذين اللونين من ألوان النقد بسهام وافرة، وأتى فيها بما يعجب ويطرب، ويلذ ويشوق

قرأ ابن وكيع قول المتنبي:

بدت قمراً ومالت خوط بان ... وفاحت عنبراً ورنت غزالا

فلم ترفه الصورة الشعرية، لأن المتنبي قد أفسدها بإقحامه (العنبر) بين المشبهات التي شبه بها محبوبته، وهي القمر، والغصن، والغزال؛ فقال: وقوع (فاحت عنبرا) بين هذه التشبيهات التى هي أعضاء، قلة صنعة، وضيق عطن بما يليق في البيت، ولو قال (وماجت لجة) يريد ردفها كان البيت كله تشبيهات، وكان أحسن في صنعة الشعر؛ ولو جعل البيت بثلاثة تشبيهات فقال: (تثنى مائداً ورنت غزالا) لاكتفى بذلك.

وجميع البيت موجود في قول ابن الرومي:

إن أقبلت فالبدر لاح وإن مشت ... فالغصن مال وإن رنت فالريم

وقال البحتري:

فهي الشمس بهجة والقضيب ال ... نضر ليناً والريم طرفاً وجيداً

ويقرأ قول المتنبي:

بكيت يا ربع حتى كدت أبكيكا ... وجدت بي وبدمعي في مغانيكما

فعم صباحاً لقد هيجت لي شجناً ... وازدد تحيتنا إنا محيوكا

بأي حكم زمان صرت متخذاً ... رئم الفلا بدلا من رئم أهليكا

أيام فيك شموس ما انبعثن لنا ... إلا ابتعثن دماً للحظ مسفوكا

فلا يعجبه البيت الأخير لأنه لا يشاكل البيت الذي قبله، ولا تنسق به الصورة الشعرية فيقول: (هذا بيت رديء الصنعة، لأنه كان في حديث الوحش ثم قال: (شموس) ولو قال (ظباء) كان قد أورد ما يجانس البيت الأول) وأحسن من قوله في بقية البيت قول أشجع:

وإذا نظرت إلى محاسنها ... فلكل موضع نظرة قتل

وقال أبو نواس:

رسم الكرى بين الجفون محيل ... عفى عليه بكا عليه طويل

يا ناظراً ما أقلعت لحظاته ... إلا تشحط بينهن قتيل

قال ابن وكيع: وقد أخذت هذا المعنى فقلت:

لا ووجه لك بيدي ... صفحة السيف الصقيل

وسواد الشعر الأس ... ود في الخد الأثيل

وعيون لك لا تط ... رف إلا عن قتيل

ما جميل الصبر عن مث ... لك عندي بجميل

ومن ميز بين اللفظين عرف الفرق بينهما.

ويقرأ ابن وكيع قول المتنبي:

شاب من الهجر فرق لمته ... فصار مثل الدمقس أسودها

فيقول: (تخصيصه الشيب في فرق اللمة ضيق عطن بلفظ يعم جملة اللمة وكان ينبغي إذا خصص فرق اللمة بالشيب أن يقول (فصار مثل الدمقس أسوده) لعود الهاء على المذكر.

ولو قال:

شابت لهجر الحبيب لمته ... فصار مثل الدمقس أسودها

كان في الصنعة أملح، وهو مأخوذ من قول القائل:

بيني عنه أبان في شعَري ... أبيضه بعد حسن أسوده

في هذا البيت مجانسة من ذكر البين والإبانة، وفيه مطابقة، وفيه ضرب من استخراج معنى احتذى عليه، وإن فارق ما قصد به إليه، من ذلك قول امرئ القيس:

فظل العذارى يرتمين بلحمها ... وشحم كهداب الدمقس المفتل

فشبه الأبيض بالأبيض، فنقل أبو الطيب هذا التشبيه من الشحم إلى الشيب وشبه الأبيض بالأبيض، ففي هذا البيت رجحان على ما قاله أبو الطيب والسابق أولى به.

ويقف ابن وكيع عند قول المتنبي:

وقابلني رمانتا غصن بانة ... يميل به بدر ويمسكه حقف

ويقول: (إضلفة الرمانتين إلى غصن البانة تدل على أن أغصان ألبان من ثمرها الرمان، وقد عرفنا مقصده، إنما شبه الثديين بالرمانتين وقدها بالغصن، وأرانا جمع خلفها غرائب لا تجتمع، ولا تقع إلا فيه، ولو أمكنه أن يقول: (رمانتان في غصن بانة) كان أسوغ في مقصده كما قال ابن الرومي:

أغصان بان عليها الدهر فاكهة ... وما الفواكه مما يحمل ألبان

فكل يعجب مما ليس في العادة اجتماعه. فأما إطلاقه اللفظ على الرمان أنه من ثمر ألبان بغير مقدمة توضح مراده فلا أستحسنه هاهنا. وقوله: (يميل به بدر) فالبدر وجهه، وليس يميل وجهه بقده، لأن قده إذا مال، مال يوجهه حيث يميل. وابن الرومي أشعر منه في إثباته أن الفواكه ليست مما يحمل ألبان، فدل على أن المراد التشبيه لا الحقائق، وهو أولى به. وهذه معان متداولة إذا نشط لأحدها فلا بد من إخراج مواضعها، ومع ذلك فقد عرفتك نقصان صنعته فيها، وكلاهما بالسلامة أرجح وهما أولى بما قالا).

ويوازن ابن وكيع بين قول المتنبي:

هم الناس إلا أنهم من مكارم ... تغنى بهم حضر ويحدو بهم سفر

وبين قول ابن الرومي:

وقد سار شعري شرق أرض وغربها ... وغنى به الحضر المقيمون والسفر

فيقول: (فألفاظ بيت ابن الرومي ويأخذ بعضها بأعناق بعض، وقد عرف (الحضر والسفر) بالألف واللام، فيمكن أن يقال: إن الناس كلهم قد عنوا به، وأبو الطيب نكر، فأمكن أن يكون المعنى فرقة من الحضر وفرقة من السفر. وإذا كان كلام ابن الرومي أشرح وأمدح بإمكان العموم فيما خص فيه أبو الطيب، فابن الرومي أحق بما قال. ولعل قائلا أن يقول: جمع أبو الطيب حالتي الغناء والحداء، فصارت له زيادة فإنه إنما يحتسب له بذلك لو كان الغناء لا يكون إلا في الحضر، فإذا صلح للحضر والسفر، لم يصح تقسيمه، وقد قال عمر بن الخطاب: نعم زاد الراكب، فجعله بمنزلة الزاد للمسافر.

ويقرأ ابن وكيع قول المتنبي يخاطب حاديي عير حبيبته.

قفا قليلا بها عليَّ فلا ... أقل من نظرة أزودها

فيقول: (معنى هذا البيت غير غريب. ولكن أبى الطيب لا يحقر شيئا، بل يأخذ الشعر الرفيع والوضيع، وهو في هذا الأخذ كما قال ابن المعتز في العشق:

قلبي وثاب إلى ذا وذا ... ليس يرى شيئاً فيأباه

يهيم بالحسن كما ينبغي ... ويرحم القبح فيهواه

فيجب علينا الاهتمام بما اهتم، وهذا البيت من قول ذي الرمة:

فإن لم يكن إلا تعلل ساعة ... قليل فإني نافع لي قليلها

وهو من قسم المساواة، وقال ابن أبي فنن:

ما ضر لو زودت خلك نظرة ... قبل الرحيل وقلت قولا يجمل

إلى آخر ما هنالك من النفائس التي تضمنها كتاب (المنصف).

السيد أحمد صقر

المدرس بالليسية الفرنسية بمصر الجديدة