مجلة الرسالة/العدد 827/منادمة الماضي:

مجلة الرسالة/العدد 827/منادمة الماضي:

ملاحظات: بتاريخ: 09 - 05 - 1949



الإسكندرية في عصورها الإسلامية

للأستاذ أحمد رمزي

قال ياقوت الحموي: (لو استقصينا في أخبار الإسكندرية جميع

ما بلغنا لجاء في غير مجلد)

قدَّم إلي في الأسبوع الماضي، حضرة رئيس مكتب السجل التجاري بمدينة الإسكندرية، نسخة من كتاب طبعته الغرفة التجارية المصرية وعنوانه (الإسكندرية) من وضع لجنة المدينة التي أشرفت على تنسيق قسم خاص للثغر في شارع وادي النيل بالعرض الزراعي الصناعي السادس عشر.

ولما تصفحت مقدمة الكتاب، قرأت نبذة تاريخية ألفها أساتذة قسم التاريخ بكلية الآداب بجامعة فاروق، ما انتهيت منها حتى أكبرت همتهم، وشعرت بعظمة الإنتاج الذي تخلفه البيئات العلمية، تلك التي تعيش وتحيى حيث توجد الجامعات.

وكان تفاؤلي في محله لأني قرأت في الأقسام التي أفردت لتاريخ الإسكندرية الإسلامي، كلمات تعبر عن شعور النفس العربية المسلمة حينما يتعلق الأمر بتاريخها المهضوم الحق. انظر إلى كلمة الدكتور محمد عبد الهادي شعيرة واستفتاحه: (ما فقدت الإسكندرية في العصر الإسلامي شيئاً إلا استعادت به غيره). واسمع قوله: (لم تلبث المدينة أن تعربت، ودليل ذلك أننا لا نجد إلا عصبيات عربية في فتنة الأندلس سنة 183هـ) فهذا كلام لم نسمعه من قبل: فيه حيوية وإخلاص.

ثم اطلعت على بحث الدكتور جمال الدين الشيال وعرضه للعصرين الأيوبي والمملوكي، فأعجبني حين أعطى لصلاح الدين حقه، وكلنا يعرف ما هي علاقة هذا العاهل العظيم بمدينة الإسكندرية. وكم كان موفقاً في حديثه عن تاريخ المدينة حينما أفاض عليها حلة شائقة من التحقيق العلمي وحين توج كل ذلك بذكره لزيارات الملك الظاهر بيبرس واهتمامه بأمرها.

كان هذا في نظري بمثابة فتح جديد في تأريخ مدننا المصرية. إذ ما رأيت كتاباً أو تعرض لتعريف مدينة الإسكندرية إلا ومر على عهدها العربي والإسلامي مروراً بسيطاً لا يشفي الغليل كأن عهد الإسلام والعروبة كان عهداً غريباً عن مصر وأهلها!! فكل من كتب عن تاريخ الإسكندرية من كتاب الفرنجة وغيرهم يولي العهدين الروماني واليوناني جُلَّ اهتمامه، ويبرزهما بروزاً ساطعاً، بل منهم فريق يسرف في القول ويغالط في الحقائق حتى إذا جاء لعهدنا قال: (إن المدينة فقدت أهميتها وعمرانها وأصبحت خراباً بلقعاً). فكأنه يقول في مواجهتنا: لدى هؤلاء القدماء المدينة والحضارة، ولدينا الجهل والخراب.! لديهم كل ما يحبب ولدينا كل ما ينفر!. أليس في هذا دعوة إلى إنكار شخصيتنا وإلى الفناء في الغير فناء لا نرضاه لأنفسنا ولا لأحفادنا ولا لنهضتنا القومية؟!

كنت منذ سنة أعمل على رأس السياحة المصرية، وكان من ضمن عملي الاطلاع على بعض الكتب والنشرات التي تتكلم عن الإسكندرية وعرضت علي مجموعة من هذه منها القديم والحديث، وكان من بينها كتاب لعلم غربي أريد إعادة طبعه على نفقة الحكومة المصرية، ولما قرأته دهشت من كثرة ما حواه من الأخطاء عن تأريخنا القومي، فحاولت جهدي أن أرد الحق لنصابه وأرفع بعض الإبهام وأعطي صورة واضحة عن تاريخ المسلمين وأثرهم، وكنت أؤمل وقتئذ من جمهرة المثقفين في مصر ومن أهل المدينة أن يقوموا بواجبهم في سد هذه الثغرة التي تضعف من أيماننا في أنفسنا، وتقلل من أمجادنا، وتجعلنا في النهاية غرباء عن تاريخنا.

كل هذا دفعني إلى الإلمام إلماماً تمهيدياً لما كانت عليه عظمت هذه المدينة. فخرجت بأشياء تجعلني أسلم بما جاء به ياقوت الحموي في معجم البلدان من أن ما وصله عنها يستحق أكثر من كتاب واحد. ونحن أمام تاريخ الإسلام في الإسكندرية نقرر أنه في حاجة إلى عدد من المجلدات الضخمة.

وإليكم أول ما تبادر إلى ذهني في تلك الأيام، أنقله كما هو، قلت: (الذي أعرفه وأشعر به عن الإسكندرية حين أزور مدينتهم، هو أنهم أهل رباط ونجدة، نرى في وجوههم أن أصولهم وفروعهم تنحدر من صميم القبائل العربية التي رابطت في هذا الثغر الإسلامي؛ فيهم نخوة وشدة وحماس ودفعة وأقدام على المخاطر. وتلك صفات أنفرد فيها أهل المثاغرة والمرابطة في أنحاء العالم الإسلامي من أهل الثغور والعواصم الذين كتبوا بدمائهم ملاحم الحروب، فهم أذن سلالة أولئك الذين فتح الله على أيديهم هذا الثغر وأبناء الأبطال الذين صدوا وهزموا كل من حاول الاعتداء على أراضي مصر الإسلامية طول مدة العصور الطويلة الماضية التي نعمت فيها البلاد بنعمة الاستقلال الصحيح والعزة والكرامة). وأراني اليوم أكثر تمسكا بهذا الرأي مما كنت.

رجعت إلى ما كتبته أيام السياحة؛ لأني أعجبت بالقسم التاريخي من كتاب الغرفة التجارية، فعدت إلى أوراق الماضي أقلبها، ثم حمدت الله أن تنبهت الغرفة لهذا التاريخ الإسلامي، وسلمت أساتذة قسم التاريخ بكلية الآداب هذه الأمانة، فأدوها وهذه لفتة جديدة لم تعرفها المدينة قبل اليوم.

ولكن مثلي يطمع في الكثير من هذا؛ يطمع أن تعرض عليه حوادث التاريخ الحي، وأن يتغنى بمواقف أهل المدينة، وينادم آثارها الإسلامية؛ ويشمخ بأدبها العربي وبروحها الوثابة وبما خلفته وتركته لنا تلك العصور العزيزة علينا، وهذا عمل عظيم، أؤمل أن يتولاه الأدباء والعلماء والمؤرخون وأهل الآثار ورجال الدين والقضاة وكل محب للإسلام والعروبة.

فهذه مدينة أصبحت أكبر منازل الرباط في مصر منذ أتم الله فتحها على يد منقذ مصر الأكبر (عمرو بن العاص)، فبرزت بروزاً في تاريخنا لا يمكن إنكاره ولا الإقلال من أهميته رغم الطعنات التي يوجهها الغير إلينا وتحديهم لنا.

إن أيام الفتح توحي بالكثير من المواقف وقد أوحت بالفعل شيئاً من ذلك: أنني لا أزال أذكر ما نقل عن عمر وهو يحدثنا قائلا: (ثلاث قبائل من مصر؛ أما مهرة: فقوم يَقتلون ولا يُقتلون، أما غافق: فقوم يقتلون ويقتلون، وأما بِلى: فأكثرها رجلا صحب النبي وأفضلها فارساً). قال هذا عندما نزل بعض هذه القبائل في الإسكندرية إبان القتال الدائر حول أسوارها عندما حمل الروم على العرب فقتلوا لأول مرة رجلا من مهرة - ولم يكن قد قتل أحد منهم قبل ذلك اليوم - واحتزوا رأسه وحملوها. وقالوا: (لن ندفعها حتى نأتي برأسه). فقال لهم عمرو: (كأنكم تغضبون على من يبالي بغضبكم. احملوا على القوم واقتلوا منهم ثم ارموا برأس قتيل منهم يرموكم برأس صاحبكم) فخرجت الروم واقتتلوا. فقتل من الروم رجل من بطارقتهم، فاحتزوا رأسه ورموا به الروم، فألقت الروم برأس المهري إليهم، فقال: (دونكم الآن، فادفنوا صاحبكم). وقد تكون هذه القصة واقعية أو من عمل الرواة بقصد الدعوة إلى الحماس، وهذا لا يهمنا بقدر أنها تعرفنا من كان على أبواب الإسكندرية يقاتل. وهؤلاء هم أصحاب المدينة. إذ أجمع المؤرخون على أنهم عند الفتح كانوا من خلاصة القبائل العربية التي استوطنتها بعد جلاء الروم عنها. قال المقريزي: (إن لخماً كانت أعز من في ناحية الإسكندرية وأطرافها). وهي قبيلة امتدت فروعها وبطونها في صميم مصر ولا يزال أبناؤها في إقليمي البحيرة والشرقية، ولها المواقف التاريخية في كل حادث من حوادث التاريخ. وليس من السهل إنكار التاريخ والخروج على الأصول والأنساب.

وللإسكندرية مواقف ومعارك وأحداث تحدث التاريخ عنها وأهلها أحق من غيرها بآثارها والتفاخر بها، ولم يكن سكانها في تلك العصور ممن تلين قناتهم. أو لا يعتد الخصوم بهم فيصفونهم بالأصفار المتراصة، وإنما كانت سيوفهم مرهفة، ورماحهم للجهاد قائمة، وكانت لهم في البحر جولات، طالما أدخلت الرعب والخوف في نفوس الروم والفرنجة ومن معهم. نعم؛ جاءتهم قبائل عربية من المغرب ومن الأندلس، أنزلوها حيناً باختيارهم، وحيناً بعد حروب دامية. ومن نزل منهم رحبوا به، ومن لم ينزل على حكمهم أرجعوه على سفنهم وبعثوا به إلى البحر ثانية، فهم مرابطون بكل ما تحمل هذه الكلمة من معان.

نقل الكندي في فضائل مصر ما قاله سفيان بن عيينة لأحمد ابن صالح: (يا مصري، أين تسكن؟) قلت: (أسكن الفسطاط) قال: (أتأتي الإسكندرية؟) قلت: (نعم) قال سفيان: (تلك كنانة الله يحمل فيها خير سهامه).

ونقل السيوطي في كتابه: أنه نُعي إلى عبد الله بن مرزوق الصيرفي، ابن عم له اسمه خالد بن يزيد، وكانت وفاته بالثغر الإسكندري، فلقيه ثلاثة هم: موسى بن رباح وعبد الله بن لهيفة والليث بن سعد، منصرفين وكل منهم يقول: (ألم تكن ميتته بالإسكندرية؟. إذن هو حي عند الله يرزق ويجري عليه أجر رباطه ما قامت الدنيا، وله أجر شهيد حتى يحشر على ذلك).

(البقية في العدد القادم)

أحمد رمزي