مجلة الرسالة/العدد 828/الأدب والفن في أسبوع

مجلة الرسالة/العدد 828/الأدب والفن في أسبوع

مجلة الرسالة - العدد 828
الأدب والفن في أسبوع
ملاحظات: بتاريخ: 16 - 05 - 1949



للأستاذ عباس خضر

تقرير الدولة للأدباء:

بدا في الأسبوعين الأخيرين تقدير الدولة للأدب والأدباء في أشخاص جماعة كرمة من رجال الأدب، فقد ظفر الدكتور طه حسين بك بجائزة فؤاد الأول الأدبية لهذا العام، وتفل مندوب جلالة الملك في الحفل الذي أقيم لذلك بالجامعة فصافح عميد الأدباء وسلمه الجائزة. وقد كان للعطف الملكي الكريم نحو الدكتور طه وقع حسن وأثر بليغ وخاصة في نفوس الأدباء، لما ينطوي عليه من التكريم والتقدير لعميدهم العظيم.

وانتخب أستاذنا الكبير احمد حسن الزيت عضواً بمجمع فؤاد الأول للغة العربية، ولم يكن من اللائق أن يظل الأستاذ بعيداً عن المجمع وقد ضم أقرانه من أعلام الأدب في مصر؛ وأن لانتخابه لمعنى من التقدير الخالص، فهو لا ينتمي إلى حزب يقدمه ولا شيعة تنصره.

وعين الأستاذ الشاعر على محمود وكيلاً لدار الكتب المصرية، وكان قد ترك خدمة الحكومة لملابسات اضطرته إلى الاستقالة، ولكن معالي الأستاذ على أبواب وزير المعارف مسح على آثار تلك الملابسات فأعاد للشاعر حقه. وإن لمعاليه فضلاً ملحوظاً في ذلك رددته الصحف وتحدثت به المجالس، إذ تعالى بهذا العمل وبتحيته السمحة للدكتور طه حسين في احتفال الجامعة في كل اعتبار من الاعتبارات التي اعتدنا أن نرى رجال السياسة عندما يضعونها موضع الاهتمام. ويضاف إلى ذلك عطف معاليه على الأستاذ محمد سعيد العريان؛ إذ أحله المحل اللائق به في الوزارة بعد أن تفاد فته الوظائف المختلفة على كره منه.

وإن الدولة، إذ ترعى الأدب بمثل هذه العناية وذلك الروح إنما تقوى الحركة الأدبية في الآمة وتنمي ثروتها الفكرية الخالدة وإذا كانت الدولة تهتم بتقويم الجيش وتعزيز أسلحته للدفاع عن حرية البلاد واستقلالها، فإن أقلام الأدباء لها شأنها في الدفاع المعنوي ضد كل الشرور والآفات إلى ما تضطلع به من رسم المثل وتحقيق الغايات البعيدة والقريبة.

قلة الأدب في الإذاعة: لا أقصد هذه الأغاني الرخوة التي يشكو بعض الناس من أذاعتها على أبنائهم وبناتهم إذ يخشون بأسها على أخلاقهم ولا أقصد تلك الألحان المثيرة التي أذاعتها الإذاعة فاعترض عليها فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر وأقنع إدارة الإذاعة بأنها تنافي الحياء، فاقتنعت. وكثيراً ما تخطيء الإذاعة، وقليلاً ما تهتم بإصلاح الخطأ، ويكون هذا القليل من قبل ما لا قبل لها بدفعه.

ولندع هذا، فما إليه قصدت، إنما أقصد الأدب بالمعنى الفني وما إليه من ألوان الفكر والثقافة. والأدب في إذاعتنا المصرية قليل من زمان، ولكنا نراه أخيرا يكاد يمحى في برامجها، وقد كانت تذيع سلسلة اسمها (أعلام الأدب العربي) وقد قطعتها منذ شهور. وحسناً فعلت، فما كان هذا البرنامج إلا صفحات من مذكرات تاريخ أدب اللغة في المدارس الثانوية، وليست أدري هل منعتها الإذاعة لتفاهتها وسخفها أو لغير ذلك، ولكن هلا فكرت في برنامج أدبي آخر؟ ويقولون أن في الإذاعة قسماً لسماع الإذاعات الأجنبية للاستفادة من برامجها، فهلا استمع هذا القسم إلى الإذاعات العربية المختلفة التي تقدم ألوانا حية من الأدب العربي قديمه وحديثه. وفي العام الماضي قام مدير الإذاعة برحلة إلى عواصم أوربا لزيارة دور الإذاعة فيها والاطلاع على برامجها. . . أفلا قام بزيارة لدور الإذاعة العربية ليرى كيف تنتفع بالكفايات الأدبية وخاصة المصرية؟ وقد زار فيما زار دار الإذاعة البريطانية، فهل عرج على القسم الأدبي فيها ورأى الجهود المصرية الأدبية فيه؟.

ومما كانت تقدمه الإذاعة من ألوان الأدب وأمسكت عنه التعريف بكتب الأدب العربي القديمة، وكان يقوم بذلك الأستاذ على أذهم على خير وجه، ويعلم علام الغيوب لم منعت الإذاعة هذا البرنامج، وتقول هي في مجلتها أنها تهتم بالأحاديث التي تعالج الشؤون الحيوية والمسائل العامة، ولنفرض أن المستمعين جميعاً. أغلقوا أذهانهم وأذواقهم دون الغذاء الأدبي والفكري وأصبحوا لا تعنيهم إلا المنافع المادية القريبة، فلماذا تقدم لهم الإذاعة؟ نظرة واحدة إلى البرنامج - ولا أجشمك الإصغاء إليه - ترى منها أن اكثر الموضوعات لا فائدة منها، فهذا (أهم حوادث الأسبوع) يتلو عليك ما نشرته الصحف من أيام، وكذلك البرلمان في أسبوع، وهذه أحاديث يلقيها كبار الموظفين كالنشرات التي تصدرها المصالح بالإحصاءات وما تم من الأعمال وما أدرج في مشروع الميزانية إلى غير ذلك من الهذر الذي لا فائدة منه إلا بأقفال أجهزة الإذاعة فيخف الضغط على تيار الكهربا ويقل الاستهلاك. . .

الليل لنا:

هو الفلم الذي عرض أخيرا بسينما استديو مصر، ألفه يوسف جوهر، وأخرجه ومثل دور البطل الأول فيه محمود ذو الفقار، وأشترك في التمثيل سليمان بك نجيب والمطربة صباح. يبدأ عرض الفلم فإذا حشد من الحوادث المختلطة المزدحمة يؤدي إلى نشوء حب بين نوال (صباح) المغنية بفرقة الكواكب وبين طبيب شاب (محمود ذو الفقار) من أبناء الباشوات، ينتهي هذا الحب إلى الزواج. ولا بد أن تجتاز كل هذه الحوادث الكثيرة حتى تصل إلى نبضة القصة أو فكرتها، عند ما تلجأ نوال إلى شقة رسام شاب هربا من الشرطي الذي اشتبه فيها فظنها من بنات الليل، وكانت في أثناء ذلك لا تزال تعمل بفرقة الكواكب ولم تتزوج بعد من الطبيب؛ يستقبلها عباس (الرسام) في شقته ويعرض عليها الشراب فتأبى، فيستشعر نبل الفنان ويرفق بها، ثم يسرف في الشراب ويأخذه النوم، ثم يصحو فيجدها نائمة على مقعدها فيتأمل جمالها ويغطيها بمعطفه ويعود إلى النوم، ثم تصحو هي فتجده نائماً على مقعده فتغطيه بالمعطف، وتتسلل خارجة بعد أن اطمأن إلى ذهاب الشرطي من أمام المنزل. ويتهم بعد ذلك الرسام بقتل عمه لخلاف بينهما، وقد وقعت جريمة القتل في الليلة التي كانت نوال بشقته فيها، وفي الوقت الذي كانا فيه معاً؛ وعند محاكمته يطلب شهادة نوال وكانت قد تزوجت من الدكتور وحيد (الطبيب ابن الباشا) ويصل علم ذلك إلى زوجها وأبيه، فيعمل الباشا (سليمان نجيب) على أبعادها عن الشهادة خشية تلويث سمعته وتعاني هي صراعاً هائلاً بين واجبين: المحافظة على كرامة أسرة الزوج، وإنقاذ الشاب البريء من الإعدام وليس له دليل على البراءة غير شهادتها، وتبدع صباح في تمثيل هذا الموقف ونصب حيرتها في أغنية رائعة. وأخيراً تذهب إلى المحكمة وتشهد بأنها كانت مع المتهم في شقته وقت وقوع حادث القتل، وتم ذلك في موقف أجاد المخرج تهيئته بحيث لم يغضب الباشا الذي كان بعارض في شهادة زوج ابنة أشد المعارضة.

هذا الجزء الذي ذكرته من وقائع الفلم هو أقوم ما فيه، ولكنه لم يأخذ حقه من العرض والإبراز، بل راح ضحية الزحمة والاختلاط في حوادث القصة وضحية تلك الفواصل الطويلة من الرقص والغناء، والغناء خاصة في غير موقعه؛ ولم أفهم الحكمة في عرض منظر الرقص الزنجي الذي كانت تغني فيه نوال وهي مطلية بالسواد في شكل قبيح إمام حبيبها الدكتور وحيد الذي جاء يشاهدها في فرقة الكواكب بعد أن عرف إنها ممثلة، وتسميها حوادث الفلم ممثلة مع أنها تمثل شيئاً إنما كانت تغنى فقط، هل أريد بذلك أن يراها الدكتور على هذا القبح فيزداد شغفه بها؟.

وفي منظر واحد يبدو على مسرح فرقة الكواكب أبو الهول والأهرام في وسط أشجار وأزهار. . وغناء لبناني ورقص مصري بلدي والقدرة التي تجمع بين كل ذلك في مكان واحد هي التي تجمع في طبق بين السمك واللبن والتمر هندي. .

وعندما تلتقي نوال وصاحبتها الراقصة بالدكتور وحيد لأول مرة، وتزعمان انهها مدرستان، تنفرج فلقتا ثوب الراقصة عن بطنها العاري في زي الرقص، فيلاحظ الدكتور ذلك، وأنه لا يتفق مع ادعائهما انهما مدرستان، فتقولان انهما كانت في حفلة مدرسية. . . فأي حفلة مدرسية ترقص فيها المدرسات عاريات البطون؟.

وأظن أن حكاية ابن الباشا الذي يحب البنت الفقيرة (الخفة) قد أكلت عليها الأفلام المصرية وشربت حتى شبعت وارتوت، ومن المؤسف أنها تلف في هذا الجزء المدعم القيم؛ ومن عيوب الأفلام المصرية أن بعضها يحاكي بعضاً، ثم تتكرر المحاكاة حتى تمل، ثم تسخف.

أما اسم الفلم (الليل لنا)، فهو كلمة من أغنية غنتها المغنية في فترة الكواكب بالليل. . . ولست أدري إذا كانت المغنية غنت بالنهار - هل كان يسمى الفلم (النهار لنا)؟!

دفاع شاعر عن الربيع:

يقول صديقي الشاعر الأستاذ إبراهيم محمد نجا: أنت تقول يا صديقي أن الربيع لا وجود له في الطبيعة المصرية، والربيع موجود أمام ناظري ألان وأنا أكتب لك هذه الكلمات. . . موجود في الحديقة التي أشرف عليها من نافذتي، موجود في أزهارها المختلفة الأشكال والألوان، هذه التي كانت في فصل الشتاء سراً في باطن الأرض، حتى جاء الربيع فكشف السر وأزاح الستار! وقد أعجبني قوله: أما اضطراب الجو في بعض أيام الربيع فذلك شيء لا يؤثر على الشعر والشعور، لان القصيدة هي وليدة حالة نفسي في لحظة زمنية تمتلئ فيها النفس بالمشاعر ويمتلئ فيها الذهن بالتأملات.

وهو دفاع صادق من شاعر إزاء هجوم رآه موجهاً، ضمناً، إلى ما قال من الشعر في الربيع، وللأستاذ نجا قصيدة في العدد الماضي من (الرسالة) عنوانها (ربيع وربيع) وقد عدل في خلالها عن الحديث في ربيع الطبيعة إلى ربيع القلوب والأماني، وأنا أوافقه على هذا النحو فهو حقيقة شعورية ظاهرة، أما ربيع الطبيعة في مصر فأنا لا أزال أسال: أين هو؟ وقد وصل إلى كتاب الأستاذ في يوم شديد القيظ وهو اليوم التالي لكتابته! فإن كان ينعم بالربيع في الإسكندرية، حيث هو، فأنا في القاهرة لا نجد ربيعاً ننعم به، وقد نالني الربيع المزعوم بالقذى في عيني فحجب وجه (الأدب والفن) في الأسبوع الماضي. . . وإذا كانت الإسكندرية تنعم بالربيع فربيعها إذن يتصل بربيع آخر، هو الصيف على شاطئ البحر، كما يقول الأستاذ في رسالته، ربيع آخر أزهاره السابحات الفاتنات!

وقلت في كلمتي السابقة: إن الفصل الممتع عندنا حقاً هو فصل الخريف، وقد قال البحتري:

وليالي الخريف خضر ولكن ... شغلتنا عنها ليالي الربيع

وكان البحتري يعيش في بلاد ذات ربيع جميل، ولذلك شغلته ليالي الربيع، أما نحن فما لنا - ما عدا الأستاذ نجا في الإسكندرية - غير ليالي الخريف.

عباس خضر