مجلة الرسالة/العدد 829/رسالة النقد

مجلة الرسالة/العدد 829/رسالة النقد

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 05 - 1949



نظرات في كتاب الأشربة

للأستاذ أحمد الصقر

اختلفت كلمة العلماء في (الأشربة) منذ فجر الإسلام، وذهبوا في موقعها من الحل والحرمة مذاهب شتى، ولجت بينهم الخصومة، وابتغى كل فريق أن يظهر على خصمه، ويدفع عن رأيه، فماج الشك في عقول الناس وأفكارهم، وتداخلتهم الحيرة، وتنازعتهم الروايات المتشاجنة، والأحاديث المتباينة. وكانوا منها في أمر مريج. وقد ألف في الأشربة كثير من العلماء. وممن ألف فيها أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة المتوفى سنة 276 هـ وقد ظل هذا الكتاب مطوياً في الخزائن حتى عثر عليه المستشرق الفرنسي (أرتوركي) فأعجب به حتى نشر أكثره في سنة 1325 هـ - 1907 في مجلة (المقتبس) التي كان يصدرها في القاهرة الأستاذ محمد كرد علي. وقد رأى الأستاذ أن الكتاب خليق بالعناية، جدير بأن يطبع مستقلاً، فبذل وسعه في تحقيقه وأدرجه في مطبوعات المجمع العلمي، وقدم له بمقدمة طويلة يبدو أنها جاءت وحي ساعتها، وفيض جلستها، لم يجمع لها عزماً، ولم يشحذ فهماً، ولم يعمل فكراً؛ وإنما أطلق لقلمه العنان يجول هنا وهناك حسبما توحي به النظرة الطائرة، والفكرة العابرة، والهوى الجموح.

ومما جاء في هذه المقدمة العجيبة قول الأستاذ في ص4: (اشتد ابن قتيبة على مخالفيه ولا سيما المعتزل منهم، وفي كتابه (تأويل مختلف الحديث) طعن مبرح في الجاحظ قال فيه: أنه أكذب الأمة، وأوضعهم لحديث، وأنصرهم لباطل، فتجلى حسده جلياً ظاهراً، هجن أبن قتيبة الجاحظ وكفره، ورماه بأعظم كبيرة وهي الكذب، وسجل عليه أنه أكذب واحد في الأمة لأنه كتب أشياء تنفع في تربية العقول في الدنيا، كما كتب كل ما ينفع في الدين، وابتدع أدباً يسلي ويعلم، فهل من العدل أن يرمى بوضع الحديث، وتشدد أهل مذهبه في تحري السليم من السقيم في الحديث لا يحتاج إلى دليل؟)

أن ابن قتيبة لم يظلم الجاحظ، ولم يهجنه حسداً من عند نفسه، ولم يتهمه بالكذب لما زعمه الأستاذ، بل أنصفه وقال فيه ما له كاملاً غير منقوص، ونقده في بعض رأيه بم لا يسع المسلم الحقيقي إلا نقده ورده على قائله كائناً من كان. واليك نص كلام ابن قتيبة في كتابه تأويل مختلف الحديث، جاء في ص71 من هذا الكتاب ما يلي (ثم نصير إلى الجاحظ، وهو آخر المتكلمين، والمعاير على المتقدمين، وأحسنهما للحجة استثارة، وأشدهم تلطفاً لتعظيم الصغير حتى يعظم، وتصغير العظيم حتى يصغر، ويبلغ به الاقتدار أن يعمل الشيء ونقيضه، وتجده يقص في كتبه للمضاحيك والعبث، يريد بذلك استمالة الأحداث وشراب النبيذ، ويستهزئ من الحديث استهزاء لا يخفي على أهل العلم كذكره كبد الحوت وقرن الشيطان، وذكر الحجر الأسود وأنه كان أبيض فسوده المشركون، وقد كن يجب أن يبيضه المسلمون حين أسلموا، وبذكر الصحيفة التي كان فيها المنزل في الرضاع تحت سرير عائشة أكلتها الشاة، وأشياء من أحاديث أهل الكتاب في تنادم الديك والغراب، ودفن الهدهد أمه رأسه، وتسبيح الضفدع، وطوق الحمامة، وأشباه هذا مما سنذكره فيما بعد إن شاء الله، وهو مع هذا من أكذب الأمة، وأوضعهم لحديث، وأنصرهم لباطل).

هذا هو رأي ابن قتيبة في الجاحظ، وهو يلقف ما يقوله عنه الأستاذ. ولست أدري كيف استباح لنفسه الطعن في ابن قتيبة بذلك الأسلوب التهكمي مع أنه لم يستطع أن ينقذ مما قاله حرفاً وأحداً، أتراه كان ينتظر منه تقريظ الجاحظ لاستهزائه بحديث الرسول؟

وأن تعجب فعجب قول الأستاذ بعد ذلك (كيف لعمري قضى ابن قتيبة على خصمه في مذهبه هذا القضاء وهو القائل في عيون الأخبار من تأليفه: وليس الطريق إلى الله واحداً، بل الطرق إليه كثيرة، وأبواب الخير واسعة، وصلاح الدين بصلاح الزمان، وصلاح الزمان بصلاح السلطان، وصلاح السلطان بعد توفيق الله بالإرشاد وحسن التبصير) ما هذا الكلام؟ وماذا يريد الأستاذ بإيراده؟ بل ما معناه؟ وما علاقته بالموضوع؟ ولست أدري، ولعل الأستاذ وحده يدري!

وأجب مما سبق قول الأستاذ بعد ذلك عن أبن قتيبة: (ورمى أيضاً أبا الهذيل العلاف بما ليس فيه، ووصفه بأنه كذاب أفاك، وطعن فيه أشنع طعن. وكذلك كان حظ ثمامة بن الأشرس منه، وهما الأئمة، ورمى هذا برقة الدين وتنقص الإسلام والاستهزاء به. وطعن في النظام أيضاً وهو الذي رد على الملحدين والدهريين شطراً كبيراً من عمره)

من أين علم الأستاذ أن أبن قتيبة افترى على أبي الهذيل

الكذب ووصفه بما ليس فيه؟ هل قرأ كتب التوحيد وألفى فيها ما يكذبه؟ هل قرأ كتب التراجم ووجد فيها تكأة له في تكذيبه؟

أنه لم يقرأ شيئاً من هذه ولا تلك وآية ذلك أنه وصف ابن

قتيبة له بالبخل ورقة الدين مسطوراً فيها جميعاً وقد كرر

الجاحظ في كتبه وصفه له بالبخل، وقال عنه: (أنه كان أبخل

الناس) ووصفه كذلك بأوصاف كثيرة وفي طليعتها النفاق.

وأتفق المترجمون له والباحثون لمذهبه في كتب التوحيد على

أن دينه كان أوهى من بيت العنكبوت. قال الخطيب البغدادي

في ترجمته 3366 (وكان أبو الهذيل خبيث القول، فارق

إجماع المسلمين ورد نص كتاب الله إذ زعم أن أهل الجنة

تنقطع حركاتهم فيها حتى لا ينطقوا ولا يتكلموا بكلمة، فلزمه

القول بانقطاع نعيم الجنة عنهم والله يقول: (أكلها دائم)، وجحد

صفات الله التي وصف بها نفسه، وزعم أن علم الله هو الله،

وقدرة الله هي الله، فجعل الله علماً وقدرة، تعالى الله عما

وصفه به علواً كبيراً) ومذهب أبى الهذيل في انتهاء حركات

أهل الجنة والنار قريب من مذهب جهنم بن صفوان الذي زعم

أن الجنة والنار تفنيان وتبيدان ويفنى من فيهما حتى لا يبقى

إل الله وحده كما كان وحده لا شيء معه. بل أن مذهبه شر من مذهب جهم كما يقول البغدادي في (الفرق بين الفرق).

(لأن جهماً وأن قال بفناء الجنة والنار فقد قال: أن الله قادر

بعد فنائهما أن يخلق غيرهما. وأبو الهذيل زعم أن ربه لا

يقدر بعد إنهاء الحركات على تحريك ساكن أو أحياء ميت أو

إحداث شيء). ويقول البغدادي عنه أيضاً في ص 72

(وفضائحه تتري، تكفره فيها سائر فرق الأمة من أصحابه في

الاعتزال ومن غيرهم) أفبعد ذلك يصر الأستاذ على اتهام ابن

كتيبة بأنه وصف أبو الهذيل بما ليس فيه طعناً بغير الحق

وتشنيعاً! وكما كان ابن قتيبة صادقاً منصفاً في حكمة على

ثمامة بن الأشرس بأنه كان كذلك صادقاً منصفاً في حكمه على

ثمامة بن الأشرس بأنه كان يتنقص الإسلام ورسول الإسلام

ويحقد عليهما حقداً غليظاً، ولا أريد أن أنقل من حصائد لسانه

في ذلك شيئاً وحسبي أن أنقل من حصائد لسانه في ذلك شيئاً

وحسبي أن أنقل للأستاذ الناشر ماذا قاله البغدادي عنه في ص

102، 104 (وكان زعيم القدرية في زمان المأمون

والمعتصم والواثق، وانفرد عن سائر أسلاف المعتزلة ببدعتين

أكفرته الأمة كلها فيهما) وأما طعن ابن قتيبة في النظام فيكفي في تبريره فوق ما ذكره بالتفصيل في كتابه قول البغدادي في ص 80 (وجميع فرق الأمة من فريقي الرأي والحديث، مع الخوارج والشيعة والنجارية، وأكثر المعتزلة متفقين على تكفير النظام). ولعل الأستاذ (محمد كردي علي) يؤمن بعد هذا بأن ابن قتيبة لم يغال (في طعنه بما لا يناسب عظمة علمه وأخلاقه) وانه إنما انتهج النهج الذي رسمه لنفسه، وهو أن يصحر برأيه فيما ارتأى، لا يظلم الخصم ولا يؤثر الهوى. . .

(يتبع)

السيد أحمد صفر