مجلة الرسالة/العدد 829/في دنيا البطولات

مجلة الرسالة/العدد 829/في دنيا البطولات

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 05 - 1949



ثلاثة جاهدوا فصدقوا. . .

للأستاذ محمد سليم الرشدان

من مقامي على الهوان وعندي ... مقول صارم وانف حميْ؟!

وإباء محلق بي عن الضي ... م كما زاغ طائر وحشي؟!

(الإمام الشريف الرضي)

لعلك - أيها القارئ - تخالني حين تقرا هذا العنوان، سأحدثك عن ثلاثة من أعلام الجهاد، ممن تردد ذكرهم على السنة الناس؟ لا يا أخي! ما أنا وذاك؟ أن لهؤلاء في مواطنيهم من يفي بطولتهم حقا؛ وان حديثي عنهم - لو فعلت - لا يجاوز أن يكون إلمامه عابر، لمح في الأفق البعيد جبلا، فهو يصف منه تهاويل ما خيل إليه، دون أن يصل بيقينه إلى كنه مسالكه وشعابه!

إذن فما لي ولأولئك! ودعني أحدثك عن ثلاثة عرفتهم بنفسي، وصحبتهم عمرا من دهري. وقد جاهدوا فصدقوا في جهادهم، حتى ارتقوا إلى مراتب البطولة، إلا أنها صامتة متواضعة، لم يتبعها زيف من الجلبة، ولم يتقدمها بهرج من الرياء.

أن هؤلاء الثلاثة من القرويين، وان شئت فقل من (الفلاحين)، على رأى مواطنيهم (من أبناء الذوات)! وهم من ثلاث قرى مختلفة، إحداها نكرة في القرى، لا يصلها طريق ذلول، إلا أن يكون انحدارا من شعاف الجبال، أو صعودا من بطون الوديان، فإذا ما التمست إليها سبيلا، كنت كمن يرقى في السماء، أو ينحدر في هاوية ليس لها قرار!

ولا يذهب بك الظن بعيدا، فتخالهم من سواد الدهماء! وانك لتعلم أن الظلمة لا تمتزج مع النور، وأن الجهل شر الضروب العمي، وأن من عمي له قلبه لا تستقيم له المسالك، فهو يخبط خبط عشواء لا ينتهي بصاحبه إلى غاية. فلو لم يهذبهم العلم لما أدركوا معنى الجهاد، ولو لم تصقلهم المعرفة لما استيقنت قلوبهم:

(أن حب الوطن من الإيمان. .)

فهم من أبناء الجامعات، حملوا منها رسالة العلم، ثم تقلبوا في الآفاق يؤدون هذه الرسالة وأخيرا هتف بهم الوطن فلبوا نداءه، ثم عز عليهم أن يهجروه في محنته حين هجره الكثيرون من ابنائه، وكانت العاقبة أن سقط أحدهم شهيدا ولسان حاله يردد قوله:

وأهِوى يعفَّر وجهي ثراك ... قريراً وذلك جهد المقلّ!

وبقي الآخران مرابطين صابرين، أحدهما يجاهد بقلق، بعد أن ألقى من حوله السلاح؛ والثاني ما يزال في خطوط القتال، يبذل حشاشته، ويراوغ منيته. يدفعه أمل باسم يحمله على أن يردد في نجواه: (من طلب الموت وهبت له الحياة)

اتذكر فيما مر بك أن شاعرا قتله بيت من شعره؟ انه المتنبي حين هتف به غلامه: (أتفر وأنت القائل:

الخيل والليل والبيداء تعرفني ... والسيف والرمح والقرطاس والقلم؟)

فرد عنان جواده وقال: (بلى؛ أنا القائل)، ثم قاتل حتى قتل. . وان هذا البطل الذي أسوق إليك نباه قتلته (كذلك) أبيات من شعره! أو تدري كيف؟ كانت جحافل (جيش الاتقاد) تستعد للانسحاب من مدينة (الناصرة)، ما خلا كتائب تنتشر هنا وهناك، يقابلها العدو وجها لوجه. وكان ذلك الفتى يقود كتيبه منها، وصمد هو ورفاقه في وجه العدو المنتصر، حتى ضاقت عليهم السبل، وكادوا يطوقون.

التفت إلى أصحابه يصدر أمره بالانسحاب، فإذا بأحد المجاهدين يصيح في وجهه - وقد ألهبته سورة الجهاد -: وأذلاه! أتفر وأنت القائل: سأحمل روحي على راحتي. .؟) فأجاب - وقد اشرق في وجهه نور الشهادة -: (نعم والله! أنا الذي أقول ذلك (ووثب من مكمنه يخترق حجابا كثيفا من الرصاص، وهو يردد بصوت يسمعه من خلفه:

سأحمل روحي راحتي ... وألقي بها مهاوي الردى

فأما حياة تسر صديق ... وأما ممات يغيظ العدى

ونفس الشريف لها غايتا ... ن ورد المنايا ونيل المنى

أرى مقتلي دون حقي السليب ... ودون بلادي هو المبتغى

لعمرك هذا ممات الرجال ... ومن رام موتا كريماً: فذا!!

وسقط المجاهد البطل يلفظ أنفاسه وهو يردد عجز البيت الأخير: (ومن رام موتا كريما: فذا!!) وكان آخر ما تلفظ به قوله: (الحمد لله على الشهادة. .) ولم يكن ذلك أول جهاد قام به، فلقد كان له قبل ذلك جهاد طويل، ولكنه في ميدان آخر. فقد تولى التدريس زمناً في كلية النجاح الوطنية بنابلس، كما تولاها زمناً في العراق. فلقن طلابه دروساً في الوطنية، أضعاف دروسه في اللغة والأدب وكان له في الصحافة المحلية ميداناً لا يفتأ ينثر فيه من آيات إبداعه شتى الألوان وقد طوف في الأقطار العربية المجاورة وتعرف إلى جماعة الأدباء فيها، فأصبح بينهم علماُ يعرفه القريب والبعيد ومن من أدباء فلسطين ومتأدبيها لا يذكر القصيدة العصماء التي استقبل فيها الأمير السعودي يوم زار بيت المقدس. وكان أحد أبياتها قوله:

(المسجد الأقصى) أتيت تزوره؟ ... أم جئته قبل الضياع تودعه؟

لقد كانت تلك القصيدة - يومذاك - حديث المجالس وطرفة الأدباء. وكأنما تكشف له فيها حجاب الغيب، فنظر من خلفه ما صارت إليه الأمور!

وان لهذا الشاعر من ضروب القول ما يضيق عن سرده المجال (لو وصلت إليه يدي!)، حسبك أنه يقع في دواوين! ولا أدري ماذا فعل الله بآثاره، وأني لأعلم أنها كانت لا تزال مخطوطة كلها. . ويحضرني من غزله أبيات - له ما يفضلها - من قصيدة عنوانها (يا غادرة!) قال فيها:

روحي فقد راح الذي بيننا ... كالبارح السالف ما أن يعود!

روحي ولا تأسي على حالتي ... وأنسي مواثيقي وخوني العهود

لا تحملي من ذكرى عهد الهوى ... أن الهوى صعب وحمل يؤدد!

روحي فقد راح الذي بيننا

إذا تلاقينا فلا تنظري ... أرى وميض الغدر في ناظريك

ولا تشيري لي ولا تومئي ... وددت تقطع كلتا يديك!

روحي فقد راح الذي بيننا ... فلعنة الحب وقلبي عليك. .

هذا هو أحد الثلاثة المجاهدين، بذل من أجل وطنه غاية ما يملكه (وهو دمه!) وخلف من وراءه في قرية (عنتبا) أطفالاً ليس لهم عائل، وأيما لم يترك لها تراثاً، إلا أن تكون هذه البطولة الفذة، تنشئ عليها صغاره!!، فرحم الله الشهيد البطل (عبد الرحيم محمود). . .

يا أخي القارئ؛ لست أزعم لك ما قام به هؤلاء الثلاثة بطولة نادرة، وأعمال خارقة يعجز عنها هؤلاء الآخرون من بني الإنسان! ولكنها مواقف كريمة، تتمثل فيها الرجولة الصادقة، ويطمئن إلها الخلق النبيل. وإنك لتسمع في (مجالس)، وتقرأ في صفحات (كتب)، الكثير عن (النجدة والحفاظ؛ فزيد يأنف الضيم والعار، وعمرو يأبى الذل والصغار) ولكنك حين تلتمس هذا ال (زيد)، أو تطلب ذاك ال (عمرو)، تجدهما - إلا أن تواتيك المصادفة العجيبة - قد تخلفا في زوايا تلك (المجالس) أصداء تتردد، وفي صفحات تلك (الكتب) مداداً تحتضنه سطور!!

أرأيت إذن إن الأعمال تقاس بمال يحوطها من ظروف، وأن الشاعر كان صادقاً كل الصدق حين قال: (وبضدها تتميز الأشياء)! إنك - من غير شك - قرأت قول الطغراني:

حب السلامة يثني هم صاحبه ... عن المعالي ويغري المرء بالكسل

ولكنني لا أخالك لقيت من عبث الأقدار ما يقفك ذلك الموقف الذي يجعلك تحس (بنفسك) ما يريده الشاعر من (حب السلامة)، كأن يخيرك بين أمرين إما الحياة، وأما الموت! وإنه لاختيار عسير، ندر أن تجد في الناس من يتردد طويلاً في الانحياز إلى أحد شقيه أو لعلك لا تعجب أن يختار (بنو الموت) شقه الأول، فهذا هو الذي يحتمله - على علاته - منطقنا الصحيح أو السقيم لست أدري! وهل عسيتك - إن أنت وقفت حيال رجل فر من الموت - أن تستهجن ما صنع؟!

وعل ذلك القياس نجد أن حب السلامة يتساوى فيه الناس جميعاً، ومن هنا يمتاز من يزهدون فيه، ويقدمون على الموت بملء اختيارهم، في سبيل غاية سامية، أو ثباتاً على مبدأ يعز عليهم أن يجاوزوا حدودهم. . وكذلك كان أصحابي الثلاثة، فقد أقدم أحدهم على الموت كما رأيت، لأنه أحب أن يقول فيفعل، وقال غيره (وهم كثيرون!) أبلغ من قوله، ولكنهم آثروا العافية، وهتف بهم (حب السلامة) فخفوا إليه راغبين مسرعين، كأنما أرهف مسمعهم لندائه شاعريتهم المبدعة، فسمعوه قبل أن يسمعه أحد سواهم. وسرعان ما انتشروا بين القاهرة وبغداد (ومنهم من جاز البحر إلى قبرص)، وجعلوا من هناك يحرضون الناس على القتال! ولكن ذلك الأديب المجاهد ثبت لا يبرح مكانه متجاهلاً (سلامته)، فبذل حياته ثمن ذلك التجاهل، وإنه لثمن لا يملك صاحبه أعز منه. يلجئون

وقد فعل رفيقاه مثلما فعله، إلا أنه لكل أجل كتاب! فهذا أحدهما تصبح قريته (قلقيلية) في صميم خطوط القتال فلا يظن بحياته على تلك القرية، ويندفع في سواد أبنائها يقاتل كما يقاتلون، ويسعه ما يسعهم من شظف العيش وعنائه، ثم يعدهم ألا يبرح مكانه بينهم، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا ويحين له فرصتان، أحدهما في العراق والآخر في الشام، ولكنه لا يحول عن عهده الذي قطع، ليغتنم فرصة العمل - على حاجته إليه - بينما اغتنمها الكثيرون من زملائه! وما زال الأستاذ (احمد السبع) إلى اليوم هناك، يرتقب ما الله صانع، فحيا الله المجاهد الكريم، فقد صدق الوعد وحفظ العهد!.

وذلك ثالثهم يعود إلى القرية (بروقين)، وهي التي حدثتك إنها: (نكرة في القرى)، بعد أن يجاهد حتى تغلق في وجهه مسالك الجهاد، ويقبع فيها إلى أن تحل تلك الليلة المشؤومة، ليلة سقوط مدينة اللد، وهي منها على غلوه أو غلوتين. (ومن ذا الذي لم يسمع بكارثة اللد وجارتها الرملة؟) وينطلق أهل القرية يعدون العدة للجلاء، ويتفقون على ذلك جميعاً كبيرهم قبل صغيرهم؛ ولكنه هو وحده يعارضهم فيما اتفقوا عليه، ويعلن لهم أنه لن يبرح مكانه حذر الموت، ولن يسلمه مادام فيه عرق ينبض! فتبسمت بقوله خائر العزائم، فلم يبرح أحد بيته!

وما زال هذا الأستاذ المناضل هناك، يصدر جريدته (البعث) على مقربة من هذه القرية، ويضرب صفحاً عما يعرض له من فرص، وإن اختصاصه النادر يضاعف الحاجة إليه، وإن آثاره العلمية بين مخطوط ومطبوع، تدل على سعة اطلاعه في موضوعه الذي انصرف إلى التخصص فيه، ولكنه لم يستغل السانحة التي استغلها سواه، وذلك ثباتاً منه على مبدئه الذي انف أن يحول عنه - على الرغم ما حاطه من سيئ الظروف - وقيل ما ألئك! لقد سبق أن تحدث في (الرسالة الزاهرة) عن هذا المجاهد، وأتيت على ذكر آثاره مفصلاً حين تحدثت عن ذوي الآثار العلمية في موضوع (الأدب في فلسطين) منذ عام. وذلك هو الأستاذ (عبد الله الريماوي)، ثالث ثلاثة جاهدوا فصدقوا، فحق لي أن أسجل جهادهم الصامت، وأنا اردد في أعقاب ما سردت:

يجود بالنفس إذ ضن البخيل بها ... والجود بالنفس أقصى غاية الجود

محمد سليم الرشداق

(ماجستير في الآداب واللغات السامية)