مجلة الرسالة/العدد 83/النزعة العملية في الأدبين العربي والانجليزي
مجلة الرسالة/العدد 83/النزعة العملية في الأدبين العربي والانجليزي
للأستاذ فخري ابو السعود
من الطريف والمفيد معاً ألا نزال نوازن بين الأدب لاختلاف ظروفهما يختلفان كثيراً وقلما يتفقان؛ والموازنة بين وجوه اختلافهما العديدة - ووجوه اتفاقهما إن كانت - تلقي ضوءاً على مختلف الظواهر في كليهما، وتبرز شتى الأسباب والمسببات في تاريخهما، وقد قيل: وبضدها تتميز الأشياء
وأعني بالنزعة العملية في الأدبين اتصالهما بالحياة اليومية والاجتماعية والسياسية والوطنية ومساهمة أقطابهما في تلك الشؤون، والأدبان هنا أيضاً على طرفي نقيض: فالنزعة العملية تسود الأدب الانجليزي من أقدم أيامه، وهي باطراد عصراً بعد عصر، بينما هي تكاد تنعدم في الأدب العربي؛ وما كان منها في صدر تاريخه قد تضاءل بكر العصور
فالانجليز بطبيعتهم العملية لم يترددوا في زج الأدب في غمار الحياة الملية والاستعانة به في شؤونها، وأدباؤهم لم يحجموا عن الاخذ بحظهم من أشغال الدنيا ومخاطراتها، أما العرب فعلى عظيم منزلة الأدب لديهم وشدة احتفائهم به، كان أدبهم دائماً بواد والحياة العملية بواد؛ وكان فناً نظرياً محصناً من توفر عليه انقطع عن غيره وعاش في عالم من الحفظ والرواية والتاريخ والتصنيف
فكان من أدباء الانجليز من ضربوا بسهم الفن والعلم والدين والحرب والشف الجغرافي وكبار وظائف الدولة، وهم مع ذلك مؤلفاتهم الشعرية والنثرية المعبرة عن خوالجهم النفسية ونظراتهم في شؤون الحياة مستقلة تمام الاستقلال عن وظائفهم في الحياة العملية او متأثرة بها، ومن أولئك سبنسر وبيكون ورالي وبنيان وسدني سميث ودزرائيلي
ومنهم من شاركوا في التقلبات السياسية فكانوا دائماً في صف الحرية وفي جانب الشعب، ولم يستظل منهم إلا القليل بلواء الملكية ابتغاء السلامة والغنيمة. وممن ضربوا بسهم في هذا الباب توماس مو مؤلف (اليوتوبيا) الذي قطعت اليزابث يده لدفاعه عن حرية الشعب الدينية؛ ويقال إنه بعد قطع يده رفعها هاتفاً بحياة الملكة لأنه كان يحب ملكته الباسلة، ولكنه كان أكثر حباً للحرية والشعب. ومنهم ملتون الذي أيد الجمهورية في ظل كرومويل وعمى بصره في الدفاع عنها أمام أنصار الملكية
ومنهم من اضطلعوا بعبء الاصلاح الاجتماعي الاخلاقي عقب الفساد الذي تركته الملكية العائدة من فرنسا بعد موت كرومويل، وإديسون، وستيل بطلا هذا الإصلاح الناجع الفريد في بابه.
ومنهم من كرس أعماله لإصلاح حال العمال عقب التطور الصناعي وزعيمهم دكنز، او لإصلاح القانون الجنائي ومعاملة المسجونين تمشياً مع عصر النور والحرية، ومن اولئك جالزورذي. ومن الأدباء الفكتوريين من صرف همه الى ترفيه الجمهور والذوق العام بالمحاضرة عن الفن والأدب، وكبير هؤلاء رسكن. وزادت هذه النزعة الاجتماعية الاصلاحية بتشعب نواحي الحياة حتى طمت في عصرنا الحاضر
بل كان من أولئك الفكتوريين جماعة خاضوا ميدان الصناعة والتجارة، فانشأوا شركة لصنع الأثاث، وكانوا يرسمون تطريز الأثاث بأنفسهم، إذ ساءتهم الطرازات الشائعة في عهدهم؛ وأنشأ أحدهم وهو الشاعر المصور وليم موريس مطبعة ومعملاً للحبر لكي يطبع كتبه على النمط الذي يختاره وبالحبر الذي يفضله
بل كان من أدباء الانجليز من عاف الاجتماع الانساني قاطبة ونقم على أنظمة الملكية والكنيسة، وحاول إنشاء مجتمع جديد تسود فيه البساطة والمساواة والأخاء، ومن هؤلاء الشعراء شعراء عهد الثورة الفرنسية؛ فالكتاب الفرنسيون الذين مهدوا لتلك الثورة أمثال روسو وفولتير اكتفوا بالعمل النظري وتركوا لتنفيذ لغيرهم، أما معاصروهم ومن جاء بعدهم من الأدباء الانجليز فحاول كثيرون منهم تنفيذ العمل بأنفسهم. وقد انتقل شيلي إلى إيرلندة ثم إلى أوربا لإنشاء مدينته الفاضلة، وإن يكن قد منى بالفشل في الحالتين؛ وعاضد وردزورث الثورة الفرنسية بقوة لمناداتها بمبادئها المعروفة حتى نقم على دولته إعلانها الحرب على فرنسا الثائرة، وكاد ينتظم في أحد أحزاب الثورة، ويركب تيارها الخطر
أولئك بعض رجال العمل من أعلام الأدب الانجليزي المساهمين في الحياة الاجتماعية بفكرهم ومجهودهم، وما نخالنا واجدين مماثليهم بين أعلام أدبنا: فقد كان من يتوفر على الأدب من أبناء العربية ينصرف كما تقدم عما عدا الأدب، ويقصر أدبه على التعبير عن خوالجه الفردية وذكر مآربه وحبه وشرابه وغضبه ورضاه ونعيمه وشقائه، ويكاد لتوفره على الأدب لا يجد قوت يومه إن لم يكن له مورد سهل، ويضطر إلى التقرب إلى مَوْليَ يمتدحه ويفوز بأعطيته؛ وقد كان هذا من دواعي استطالة هذه الظاهرة في الأدب العربي: ظاهرة المدح التي سرعان ما تلاشت من الأدب الإنجليزي
والقليلون من أعلام الأدب العربي الذين شاركوا في الحياة العملية إنما صنعوا ذلك جرياً وراء مطامعهم الشخصية لا دفاعاً عن مصالح أقوامهم؛ ولذا كان أقصى همهم أن يستوزروا للحكام، ولم يدر بخلدهم مناقشة سياسة أولئك الحكام، وإنما ظلوا أبواقاً لهم وكتبه مجيدين؛ ومن ثم كان ما يتصل بالسياسة من ذخائر الأدب العربي هو الرسالة الديوانية التي دبجها أولئك المنشئون على لسان أمرائهم
والمجيدون من أعلام الأدب العربي الذين ساهموا في حياة العمل بمناهضة السلطة القائمة كقطري بن الفجاءة مثلاً قلائل، وكان جلهم في صدر الاسلام، ومن لم يفعل ذلك منهم طلباً لغاية شخصية فعلة لعقيدته الدينية حين كانت العقائد الدينية مضطرمة في الصدور
لقد كان الشعر والخطابة في الجاهلية أداتين من أدوات الحياة العملية والسياسية في ذلك المجتمع البدوي، فلما جاء الاسلام كان في أصوله شورياً يخول الرعية مشاورة راعيها، ولكن دولته قامت على بقايا الملكيات المستبدة القديمة، فقامت الخلافة العربية على غرار تلك الملكيات التي تجمع الأمر كله بيدها، ولم يعد الخليفة يشاور إذا هو شاور رعياً لحق عليه بل التماساً للرأي إن أعوزه، ولا هو كان ملزماً باتباع مشورة غيره؛ وصار من المسلم به أن الحكم لأمير لا دخل للرعية فيه. ويدهى أن الأدب الذي ينمو في مثل هذه الظروف يظل مكفوفاً عن شؤون السياسة كما كانت بقية الرعية مكفوفة، فهذا سبب انعزال الأدب العربي عن السياسة
فالأدباء ممثلو أممهم: ففي انجلترا حيث كان الدستور والحياة النيابية هما العقيدة التي يدين بهال الشعب شارك الأدباء كما شارك غيرهم من أفراد الشعب في الحياة السياسية وتوطيد أركان الحرية، وفي الأقطار العربية حيث كانت الملكية المطلقة هي القاعدة أحجم الأدباء عن غمار السياسة كما كان بقية الشعب محجماً
ولقد خفق من وطأة الحكومة المطلقة على الأدب أن أكثر الخلفاء والأمراء كانوا أدباء او عشاقاً للأدب، وانوا جميعاً يقربون رجال الأدب ويغدقون عليهم؛ على أن هذه الحالة كانت لها مساوئها بجانب مزاياها: إذ زخر أدبنا دون غيره من الآداب العالية بأشعار المديح والتهنئة والاستجداء، وشتان بين أدب ينمو في ظلال الحرية والاستقلال، وآخر بين قيود الرعاية والحماية والمنحة
كان الدستور محور السياسة في انجلترا، وكان الدين محورها في الأقطار العربية، فعليه انقسمت الأمة أحزاباً في أول الأمر، ومنه انبعثت الفتن والثورات وقامت الأسر الحاكمة وتقسمت الإمبراطورية العربية دولاً ودويلات، وبحافز منه جاهد المسلمون الروم ثم الفرنجة. كان الدين في كل هذه الأطوار مبعث النشاط السياسي وزناد الروح الوطنية والقومية، ولا ترى الشعر العربي يحفل بالحماسة وروح القومية إلا في عصور الجهاد تلك
فالحياة الديمقراطية في انجلترا كانت العامل الأول في اتسام الأدب الانجليزي بالنزعة العملية ومساهمته في الحركات السياسية والاجتماعية، واختراع الطباعة كان عاملاً آخر ساعد اتصال الأدباء بلحياة الاجتماعية واعتمادهم على جمهور القراء بدل الاعتماد على منح الأمراء، ونتج من توثق هذا الاتصال نشوء الصحف الدورية فكانت عاملاً جديداً في هذا الميدان أعقبه تعميم التعليم
فعاملا امتلاء الأدب الانجليزي بالنزعة العملية هما الحياة الديمقراطية أولاً وانتشار المطبوعات ثانياً، وقد كان كلا العاملين يعوزان الأدب العربي، ومن ثم يزخر الأدب الانجليزي بالشؤون الاجتماعية والسياسية والوطنية بينما يقتصر الأدب العربي على وصف المشاعر الانسانية العامة وتصوير حالات النفس وأطوار الفرد
فخري أبو السعود