مجلة الرسالة/العدد 83/بنته الصغيرة

مجلة الرسالة/العدد 83/بنته الصغيرة

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 02 - 1935


للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

تتمة

. . . وجاء من الغد أبو يحيى مالُ بنُ دينار الى المسجد، فصلى بالناس، ثم تحول الى مجلس درسه وتعكفوا حوله؛ وكانوا الى بقية خَبَره في لهفةٍ كأن لها عُمراً طويلاً في قلوبهم، لا ظَمَأ ليلةٍ واحدة

وقال منهم قائل: أيها الشيخ، جُعِلْتُ فِداك، ما كان تأويلُ الحَسَنِ لتل الآية من كلام الله تعالى، وكيف رجَعَ الكلام في نفس مًرْجِعَ الفكر تتبعُه، وأصبح الفكر عندك عملاً تحذو عليه، واتصل هذا العملُ فكان ما أنت في وَرَعك ,. . . .؟

فقطع الامام عليه وقال: هَوِّنْ علي يا هذا؛ إن شيخك لأهوَنُ من أن تذهب في وصفه يميناً أو شِمالاً، وقد روي لنا الحَسَن يوماً ذلك الخبرَ الوارد فيمن يُعذِّب في النار ألف عم من أعوام القيامة، ثم يدركه عفوُ الله فيخرج منها، فبكى الحسن وقال: (يا ليتني كنت ذلك الرجل!) وهو الحسنُ يا بني، هو الحس

فضج الناس وصاح منهم صائحون: يا أبا يحيى، قتلتنا بأساً. وقال الأول. إذا كان هذا فأوشك أن يعمنا اليأس وقنوط، فلا ينفعنا عملٌ ول تأتي عملاً ينفع

قال الشيخ: هونوا عليكم، فان للمؤمن ظنَّين: ظناً بنفسه، وظناً بربه؛ فأما ظنه بالنفس فينبغي أن ينزلَ بها دون جَمحَاتها ولا يفتأ ينزل؛ فاذا رأى لنفسه أنها لم تعمل شيئاً وجب عليها أن تعمل، فلا يزال دائماً يدفعها، وكلما أكثرتْ من الخير قال لها: أكْثِرِي. كلما أقلتْ من الشر قال لها: أقلي. ولا يزال هذا دأبُهُ ما بقي؛ وأما الظن بالله فينبغي أن يعلوَ به فوق الفَتَرات والعِلل والآثام ولا يزال يعلو؛ فان الله عند ظن عبده به، إنْ خيراً فله وإنْ شرا فله. ولقد روينا هذا الخبر: (كان فيمن كان قبلكم رجلٌ تسعاً وتسعين نفساً، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على راهب فاتاه، فقال: إنه تسعاً وتسعين نفساً، فهل من توبة؟ قال: لا! فقَتَله فكمل بن مائة! ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على رجل عالم، فقال له: إنه قتل مائة نفس، فهل له توبة؟ قال: نعم؛ ومَن يحول بينك وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا فان بها أُناساً يعبدون الله عز وجل، فاعبد الله معهم ولا ترجعْ الى أرضك، ف أرضُ سَوْء

فانطلق، حتى إذا نصفَ الطريق أتاه ملكُ الموت، فاختصمت فيه ملائكةُ الرحمةِ وملائكةُ العذاب؛ فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائباً مٌقبلاً بقلبه الى الله. وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قَ. فاتاهم ملكٌ في صورة آدمي فجعلوه حكماً بينهم، فقال: قيسوا ما بين الأرْضَين، فالى أيهما كان أدنى فهو له. فقاسوا فوجدوه أدنى الى الارض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة!

قال الشيخ: فهذا رُجل لما مشى بقلبه الى الله حُسبت له الخطوة الواحدة، بل الشبر الواحد؛ ولو أنه طوف الدنيا بقدميه ولم يكن له ذلك القلب، لكان كالعظم المحمولة في نعش؛ قبرها في المشرق هو قبرها في المغرب، وليس لها من الأرض ولا للأرض منها إلا معنى واحدٌ لا يتغير؛ هو أنه بجملته ميت، وأنها بجملتها حُفْرة

والانسان عند الناس بهيئة وجهه وحِلْيتِه التي تبدو عليهن ولكنه عند الله بهيئة قلبه وظنه الذي يظن به؛ وما هذا الجسم من القلب إلا كقشرة البيضة مما تحتها. فيا لها سخريةً أن تزعم القشرة لنفسها أن بها هي الاعتبار عند الناس لا بما فيها، إذ كان ما تحويه لا يكون إلا فيها هي؛ ومن تُبعدُ في حماقتها فتسأل: لماذا يرميني الناس ولا يأكلونني. . . . . .؟

إن هذه الأخلاق الفاضلةَ في هذا الانسان لا تجد تمام معناها إلا في حالة بعينها من أحوال القلب، وهي حالة خشوعه على وصفها الذي شرحته الآية الكريمة: (أَلَمْ يَأنِ للذين آمَنُوا أن تَخشَعَ قُلوبُهمْ لِذِكْرِ الله وما نَزَلَ مِنَ الحق.)

فالأخلاقُ الفاضلةُ محدودةٌ بالله والحق معاً، وهي كلها في خشوع القلب لهذين؛ فان من القلب مخارجَ الحياة النفسية كلها

قال الشيخ: وأنا منذ حفظتُ عن الحسن تأويلَ هذه لآية، واستَنَنْتٌ بها، مضيتُ أعيشُ من الدنيا في تاريخ قلبي لا في تاريخ الدنيا، وأدركتُ من يومئذٍ أنْ ليس حفظُ القرآن حِفْظَه في العقل، بل حفظُه في العمل به؛ فان أنت أثبت الآية منه وكنت تعمل بغير معناها، وتعيش في غير فضيلتها فهذا - ويحك - نسيانُها لا حفظُها. وقد كان قومُنا الأولون بمعانيه كالشجرة الخضراء النامية؛ فيها وَرَقُها الأخضر وزهرهُا وثمرها، وعلى ظاهرها حياةُ باطنها، فلما ثبتَ الناس على الشكل وحده، ولم يبالوا القلبَ وأحوالَه أصبحوا كالشجرة اليابسة؛ عليها ورقُها الجاف ليس في بقائه ولا سقوطه طائل

ما أصبحتُ ولا أمسيت منذ حفظتُ تفسير الآية إلا في حياة منها، وهذه الآية هي دلَّتْني بمعانيها أن ليس الحياةُ الأرضيةُ شيئاً إلا ثورةَ الحي على ظُلْمِ نفسه، يَستكفُّ عنها أكثر مما يَسْتَجرُّ لها؛ والناسُ من شقائهم على العكس يستجرون أكثر ما يستكفون، وإنما السعيدُ مَن وجد كلمات روحانية إلهية يعيشُ قلبه فيهن، فذاك لا يعمل أعماله كما يأتي ويتفق، بل يحذو على أصل ثابت في نفسه، ويختار فيما يعمل أحسنَ ما يعمل؛ ومِن ثم لا يكون جهادُه مُرَاغمةً أو خضوعاً في سبيل الوجود كالحيوان، بل في سبيل صحة وجوده؛ ولا يكون غرضه أن يلابس الحياةَ كما تأخذه هي وتدعه، بل أن يحيا في شرف الحياة على ما يأخذها هو ويَدَعُها

إن الشقاء في هذه الدنيا إنما يجره على الانسان أن يعمل في دفع الأحزان عن نفسه بمقارَفَتِه الشهوات وباحساسه غرورَ القلب؛ وبهذا يُبعد الأحزان ليجلبها على نفسه في صورٍ أخرى!

قال الشيخ: وكان مما حفته من تفسير الحسن قوله: إن كل كلمة في الآية تكاد تكون آية، وليست الكلمةُ في القرآن كما تكون في غيره، بل السمو فيها على الكلام، أنها تحمل معنىً وتومئ إلى معنىً وتستنبعُ معنى؛ وهذا ما ليس في الطاقة البشرية، وهو الدليل على أنه (كِتَابٌ أُحِكَمتُ آياتهُ ثم فُصِّلَتْ)

يقول الله تعالى: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبُهم لذكر الله وما نزل من الحق)

(ألم يأن) هذه الكلمة حثٌ، وإطماعٌ، وجدالٌ، وحُجة؛ وهي في الآية تُصرخ أن خشوع القلب الذي تلك صفته هو كمال الدين للايمان، وأن وقت هذا الخشوع هو كمالُ العمر وكيف يعرف المؤمنُ أنه (سيأنى) له أن يعيش ساعة او ما دونها؟

إذَنْ فالكلمةُ صارخةٌ تقول: الآنَ الآنَ قبل ألا يكون آن.

أيْ: البدَارَ البدَارَ ما دمتَ في نَفَسٍ من العمر؛ فان لحظة بعد (الآن) لا يضمنها الحي. وإذا فني وقتُ الانسان انتهى زمنُ عمله فبقى الأبد كله على ما هو؛ ومعنى هذا أن الأبد للمؤمن الذي يدرك الحقيقة، إنْ هو إلا اللحظةُ الراهنة من عمره التي هي (الآن). لأنظر - ريحك - وقد جُعِلَ الأبد في يدك؛ انظر كيف تصنع به؟ تلك هي حكمة اختيار اللفظة من معنى (الآن) دون غيره على كثرة المعاني

ثم قال: (للذين آمنوا) وهذا كالنص على أن غير هؤلاء لا تخشع قلوبهم لذكر الله ولا للحق، فلا تقومٌ بهم الفضيلة، ولا تستقيم بهم الشريعة، وعلِمُهم وجاهلُهم سوء؛ لا يخشعان إلا للمادة؛ وكأن إنسانهم إنسانُ ترابي، لا يزال يضطربُ على مَْر الليل والنهار بين طرفين من الحيوان: عَيشِه وموته؛ وما تقسو الحياةُ قسوتها على الناس الا بهم، وما ترقُّ رقتها إلا بالمؤمنين

وجَعل الخشوعَ لقلوب خاصةً، إذ كان خشوعُ القلب غير خشوع الجسم؛ فهذا الأخير لا يكون خشوعاُ، بل ذلاً، أو ضَعَةً، أو رياءً، أو نفاقاً، أو ما كان. أما خشوع القلب فلن يكون إلا خالصاً مُخلصاً مَحْضَ الإرادة

واشترطَ (القلبَ) كأنه يقول: إنما القلب أساسُ المؤمن، وإن المؤمن ينبع من قلبه لا من غيره، متى كان هذا القلب خاشعاً لله وللحق. فان لم يكن قلبه على تلك الحال، نَبَعَ منه الفاسقُ والظالم والطاغية وكل ذي شر. ما أشبه القلبَ تنفرعُ منه معاني الخُلُق، بالحبة تَنسَرِحُ منها الشجرة؛ فخُذْ نفسَك من قلبك كما شئت؛ حُلواً من لوٍ ومُراً من مُر

وخشوعُ القلب لله وللحق، معناه السمو فوق حب الذات وفوق الأثرة والمطامع الفاسدة؛ وهذا يضع للمؤمن قاعدةَ الحياة الصحيحة، ويجعلُها في قانونين لا قانونٍ واحد؛ ومتى خشع القلب لله وللحق عَظُمت فيه الصغائر من قوة إحساسه بها، فيراها كبيرةً كبيرةً وإن عَمِىَ الناسُ عنها، ويراها وهي بعيدةٌ منه بمثل عين العُقاب، يكون في لُوحِ الجو ولا يغيب عن عينه ما في الثرَى

وقد تخشع القلوبُ لبعض الأهواء خشوعاً هو شرٌ من الطغيان والقسوة؛ فتقييدُ خشوعِ القلب (بذكر الله) هو في نفسه نَفْيٌ لعبادة الهوى وعبادة الذاتِ الإنسانية في شهواتها.

وما الشهوةُ عند المخلوق الضعيف إلا إلهُ ساعتها. فيا ما أحكمَ وأعجبَ قولَ النبي : (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرقُ السارقُ حين يسرق وهو مؤمن، ولا يَشربٌ الخمرَ حين يشربها وهو مؤمن). جَعَلَ نزعَ الايمان موقوتاً (بالحين) الذي تُقْتَفُ فيه المعصية؛ إذ لم يكن الله عند هذا الشقي هو إله ذلك (الحين)

والخشوعُ لِمَا (نزَلَ من الحق) هو في مناه نَفْيٌ آخرٌ للكبرياء الإنسانية الي تُفسِد على المرء كل حقيقة، وتَخرج به من كل قانون؛ إذ تجعل الحقائق العامة محدودةً بالانسان وشهواته، لا بحدودها هي من الحقوق والفضائل

ويخرج من هذا وذلك تقريرُ الإرادة الإنسانية، وإلزامُها الخيرَ والحق دون غيرهما، وقهرُها للذات وشهواتِها، وجعلُها الكبرياءَ الإنسانية كبرياءَ على الدنايا والخسائس، لا على الحقوق والفضائل. إذا تقرر كل ذلك انتهى بطبيعته إلى إقرارا السكينة في النفس، ومحوِ الفوضى منها، وجَعْلِ نظامها في إحساس القلب وحده؛ فيحيا القلبُ في المؤمن حياةَ المعنى السامي، ويكون نبْضُه علامةَ الحياة في ذاتها، وخشوعُه لله وللحق علامة الحياة في كمالها

وقال: (ما نزَلَ من الحق) كأنه يقول: إن هذا الحق لا يكون بطبيعته ولا بطبيعة الإنسان أرضيا، فاذا هو ارتفع من الأرض، وقرره الناسً بعضُهم على بعض، لم يجاوز في ارتفاعه رأسَ الإنسان، وأفسدتْه العقول؛ إذ كان الإنسان ظالماً متمرداً بالطبيعة، لا تحكمه من أول تاريخه إلا اسماءُ ومعانيها وما كان شبيهاً بذلك ما يجيئه من أعلى؛ أيْ بالسلطان والقوة؛ فيكون حقاً (نازلاً) مُتدَفِّعاً كما يَتصَوبَّ الثُّقْلُ من عالٍ، ليس بينه وبين أن ينفذ شيء

والخشوعُ لما نزل من الحق ينفي خشوعاً آخر هو الذي أفسد ذاتَ البينِ من الناس، وهو الخشوع لما قام من المنفعة وانصرافُ القلب اليها بايمان الطمع لا الحق

وبجملة الآية على ذلك الوجه يتحقق العدلُ والنصفَةُ بين الناس؛ فيكون العدل في ل مؤمنٍ شعوراً قلبياً، جارياً في الطبيعة لا مُتكلفاً من العقل؛ وبهذا وحده يكون للانسان إرادةٌ ثابتة على الحق في كل طريق، لا إرادةٌ لكل طريق، وتستمر هذه الإرادة مُتسقةً في نظامها مع إرادة الله، لا نافرةً منها ولا متمردة علها؛ وهذا وذاك وذلك يُثبت القلبَ مهما اختلفت عليه أحوال الدنيا، فلا يكون من إيمانه إلا سُموه وقوتهُ وثباتهً، وينزل العمرُ عنده منزلةَ اللحظة الواحدة، وما أيسرَ الصبرَ على لحظة! ما أهونَ شر (الآن) إن كان الخيرُ فيما بعده

ألم يأنِ؛ ألمْ يأن؛ ألم يأن. . . .

قال الشيخ: وكان الحَسنُ في معانيه الفاضلةِ هو هذه الآية بعينها؛ فما كانت حياته إلا اسلامية كهذا الكلام الأبيض المشرق الذي سمعته منه؛ شعاره ابداً: (الآن قبل ألا يكون آن.) وغمامه: (خُذْ نفْسك من قلبك.)

وطريقتهُ (شَرفُ الحياة لا الحياةُ نفسها) وكان يرى هذه الحياة كوقعة الطائر؛ هي عملُ جناحين مُسْتوفِزين أبداً لعملٍ آخر هو الأقوى والأشد، فلا ينزلان بطائرهما على شيٍ إلا مطويين على قدرة الارتفاع به، ولا يكونان أبداً إلا هَفَافين خفيفين على الطيران؛ إذ كانا في حكم الجو لا في حكم الأرض، وآلةُ الوقوع والطيران بالانسان شهواته ورغباته؛ فان حطته شهوةٌ لا ترفعه فقد او بقته وأهلكته وقذفت به ليؤخذ.

لقد روينا عن النبي : (لا يبلغ العبد ام يكون من المتقين حتى يدع مالا بأس به حذراً مما به بأس) وهذا ضربٌ من خشوع القلب المؤمن فيما يحل له، يدع أشياء كثيرة لا بأس عليه فها او أتاها، لقوى على أن يدع ما فيه بأس، فان الذي يترك ماله يكون أقوى على ترك ما ليس له.

والنفسُ لابدّ راجعةٌ يوماً إلى الآخرة، وتاركة اداتها؛ فقوام نظامها في الحياة الصحيحة ان تكون كل يمٍ كأنها ذهبت إلى الآخرة وجاءت. وتلك هي الحكمة فيما فرضته الشريعةُ الاسلامية من عبادةٍ راتبة تكون جزءاً من عمل الحياة في يومها وليلتها. فاذا لم تكن النفس في حياتها كأنها دائماً يذهب إلى مصيرها وترجع منه، طمسها الجسم وحبسها في إحدى الجهتين، فلم يبق لها فيه إلا أثر ضئيل لا يتجاوز النصح، كاعتراض المقتول على قاتله، يحاول أن يرد السيف بكلمة. . .! وبذلك يتضاعف الجسم في قوته ويشتد في صولته، ويتصرف المرء دينه، وتقذف به يميناً وشمالاً، على قصدٍ وعلى غير قصد، وتمضي به كما شاءت في مدرجةٍ مدرجةٍ من الشر؛ ومثلُ هذا المسرفِ على نفيه لا يكون تمييزه في الدين ولا إحساسه بالخير إلا كذلك السكير الذي زعموا أنه أراد التوبة، وكانت له جرتان من الخمر، فلما اتعظ وبلغ في النظر إلى نفسه وحظ إيمانه وأراد ان يطيع الله ويتوب - نظر الى الجرتين ثم قال: أتوب عن الشرب من هذه حتى تفرغ هذه. . .!

قال الشيخ: ثم إني تُبتُ على يد الحسن، وأخلصت في التوبة وصححتها، وعلمت من فعله وقوله أن حقيقة الدين هي برياء النفس على شرها وظلمها وشهواته، وأن هذه الكبرياء القاتلة للإثم هي في النفس أختُ الشجاعة القاتلة للعدو الباغي، يفخر البطل الشجاع بمبلغه من هذه، ويفخر الرجل المؤمن بمبلغه من تلك، وأن خشوع القلب هو معناه حقيقة هذه الكبرياء بعينها.

وحدثتُ الحسنَ يوماً رؤياي وما شبه لي من عملي السيئ وعملي الصالح، فاستدْمَعَتْ عيناه:

وقال: إن البنتَ الطاهرةَ هي جهادُ أبيها وأمها في هذه الدنيا، كالجهاد في سبيل الله؛ وإنها فوزُ لهما في معركةٍ من الحياة، يكونان هما والصبر والايمان في ناحية منها قبيلاً، ويكون الشيطاُن والهمُّ والحزن في الجهة المُناوِحَةِ قبيلاً آخر

إن البنتَ هي أم ودار، وأبواها فيما يكابدان من إحسان تربيتها وتأديبها وحياطتها والصبر عليها واليقظة لها - كأنما يحملان الأحجارْ على ظهرَيهما حجراً حجراً، ليَبْتَنيا تلك الدار في يومٍ الى عشرين سنة أو أثر، ما صحبته وما بقيتْ في بيته.

فليس ينبغي أن ينظر الأبُ الى بنته إلا على أنها بنته، ثم أمٌ اولادها، ثم أمُ احفاده؛ فهي أكبرُ من نفسها، وحقها عليه أكبر من الحق، فيه حُمتها وحرمة الانسانية معاً؛ والأب في ذلك يُقرِض الله إحساناً وحناناً ورحمة، فحقٌ على الله أن يُوفيه من مثلها، وأن يُضعف له

والبت ترى نفسها في بيت أهلها - ضعيفةً كالمنقطعة وكالعالة، وليس لها إلا الله ورحمةُ أبويها؛ فان رحماها، واكرماها فوق الرحمة، وسراها فوق الكرامة، وقاما بحق تأديبها وتعليمها وتفقيهها في الدين، وحَفِظا نفسها طاهرة كريمةً مسرورةً مؤدَّبة - فقد وضعا بين يدي الله عملاً كاملاً من أعمالها الصالحة، كما وضعاه بين يدي الانسانية. فاذا صارا الى الله كان حقاً لهما أن يجدا في الآخرة يميناً وشمالاً يذهبان بينهما إلى عفو الله وكرمه، كما قال رسول الله : (من كان له ابنةُ فأدبها فأحسن تأديبها، وغَذَاها فأحسن غَذاءَها، وأسبغَ عليها من النعمة التي أسبغ الله عليه - كانت له مَيْمَنَةً ومَيَسرةً من النار إلى اجنة.)

فهذه ثلاثُ لابد منها معاً، ولا تُجْزِيءُ واحدةٌ عن واحدة في ثواب البنت: تربيةُ عقلها تربية احسان، وتربيةُ جسمها تربية إحسان وإلطاف، وتربيةُ روحها تربية إكرام وإلطاف وإحسان

قال الشيخ: والله أرحمُ ان تضيعَ عنده الرحمة؛ والله أكرم أن يضيع الإحسان عنده، والله أكبر. . .

وهنا صاح المؤذن: الله أكبر

فتبسم الشيخ وقام إلى الصلاة.

طنطا

مصطفى صاداق الرافعي