مجلة الرسالة/العدد 830/صور من الحياة

مجلة الرسالة/العدد 830/صور من الحياة

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 05 - 1949



غَدْرٌ. . .!

للأستاذ كامل محمود حبيب

لقد كان عهدي بك - يا صاحبي - فتى مشرق الوجه وضاح الجبين ريق الشباب، تتألق - دائماً - في الغالي الثمين من اللباس فتبدو في رأي العين حسن الهيئة جميل الشارة، تتوثب نفسك سعادة ومرحاً ويفيض قلبك بهجة وحبوراً، يشغلك سهل الحياة عن حزَنها وتصرفك سعة العيش عن شظفه، تتفتح لك الدنيا عن مثل بسمة الزهرة النضيرة سقاها ندى الفجر الرطيب ورفت عليها نسمات الصبح الرقيقة، فتتدفق في قلبك لذة وهدوءاً، فكنت - إذ ذاك - تبدو كفراشة سعيدة ما بها إلا أن تثب بين الورود والرياحين ترشف الرحيق العذب في شوق وشغف ثم تنطلق إلى غايتها لا تأسى على شيء. فمالي أراك الآن وقد حال لونك وذوى عودك، إنني أحس كأن حادثة عصفت بك فلفَّت بهجتك في ثناياها وطوت البشر عن عينيك، فبدت على جبينك سمات الحزن وارتسمت على وجهك علامات الكآبة. يا عجبا! لقد تغضَّن جبينك بعد إشراق، وتكسرت شوكتك بعد صلابة واستحالت أناقتك إلى أسمال خلقة! فماذا كان من الأيام وماذا كان منك، يا صاحبي؟

وأطرق الرجل حيناً في خجل ثم قال وفي صوته ضعف وفي نبراته اضطراب (إن لي حديثاً طويلاً لا أستطيع أن أفضي به إلا أن يطمئن بطني، فأنا منذ ليلتين أبيت على الطوى لا أجد ما أسد به رمقي، وحاولتُ جهدي أن أحتال لأمري فعجزتُ، وتنكَّرت لي الأيام وعصرتني الحياة بين فكين من حديد، فانسدت مسالكها وأوصدت مساربها، وتراءت لي قلوب الناس جامدة لا تنبض بشفقة ولا تهتز برحمة. . .)

وحزَّ حديثه في نفسي فانطلقت أهيئ له طعاماً وشراباً، فما راعني إلا أن يلوك اللقمة ولا يكاد يزدرها ويحركها بين أسنانه ولا يكاد يستسيغها. فقلت له في دهشة (ما بالك لا تقبل على الطعام؟) قال: (يا سيدي، إن الطير ليزق فراخه وهو خمصان فيحس الشبع والراحة حين تهدأ نفوسها، وإن الوحش الكاسر ليطعم صغاره دون نفسه وبه قرم إلى اللحم فيجد السعادة والهدوء. وإن لي صبية يتلهَّبون جوعاً. . . قلتُ: (إن لعنة الله لتنحط على المكتظ فتصيبه بالتخمة ليعلم أن بطنه لا يسع ما يشبع بطنين) ثم أخذتً أعدُّ لصغاره طعاماً يكفيه أياماً، ورأى هو الطعام فهب - في بشر - يريد أن يحمله إليهم، فقلت له: (مهلاً! إن الخادم سيحمله إليهم وستبقى أنت هنا لتقص قصتك. . .)

وجلس صاحبي إلى جانبي مطرقاً في سهوم، وإن خواطره لتضطرب في بيداء السنين وإن الحوادث لتشتجر في قلبه، وإن نفسه ليتنازعه عن أن يفضي إلى بذات نفسه. فقلت: (يا أخي، لا بد من شكوى. . .!) قال: (آه، إن في الإنسان دوافع ترابية إن سيطرت عليه سفلت به عن معاني الإنسانية) ثم قال: (نشأت أنا وأخي الأكبر وحيدين تجمعنا صلاة الأخوة والصداقة وتضمنا روابط الطفولة واليتم، لم نشعر بعطف الأب ولم نتنسم حنان الأم، ولنا دار وتجارة، فتكفلنا عمنا، وماله ولد ولا فيه طمع فشملنا بعطفه وخصنا بعنايته وإنه لرجل دين وقناعة، فما امتدت يده إلى درهم من مالنا ولا عبث بالضئيل من تجارتنا ولا خلبه بريق الذهب ولا استهواه شره المال، فعاش وعشنا في كنفه سنوات، ثم أصابه الكبر وعصفت به الشيخوخة على حين قد نما أخي الأكبر واشتد عوده، فقام هو على تجارتنا يصرفها ويرعاها ومن ورائه رأي عمي وتجاره وإخلاصه.

وانطوت السنون تصقل أخي وتحبوه بالمران والدربة، وأنا منصرف عن شواغل الحياة وعن رواعي العمل إلى عبث الشباب وطيش الصبا، لا يعنيني إلا أن أجد المتعة واللذة. . . وغَرَّني ما ألاقي من حب أخي ووفائه فسكنت إلى صفاء ودَّه وخالص حبه. . .

ثم تزوج هو وتزوجت أنا، ودخلت المرأة بيننا تريد أن تفصم عروة عقدتها يد الزمن، وأن تقطع آصرة ربطتها جفوة الحياة منذ أن شب كلانا عن الطوق. والمرأة شيطان جميل ينسرب حديثه الطلي إلى القلب رقيقاً في مثل نسمات الربيع اللطيفة، وهي ثعبان ينفث سموماً تتدفق في النفس في مثل حلاوة الرحيق. . . ووجدت كلمات المرأة من أخي أذناً صاغية فما تلبث أن شطر الدار شطرين، وأقام بيني وبينه جدر، لا يستطيع واحد أن يظهره. وأحسست أنا - لأول مرة في حياتي - مسَّ الأسى والحزن حين أحسست فقد أخي وهو إلى جواري.

وانجابت غشاوة من على عيني فتراءى لي ما يتوارى خلف أستار الزمان، وخشيت أن يخلو أخي إلى زوجه يلقي السمع إلى حديثها ويلقى السَّلم إلى رأيها فإذا تجارتنا شطرين مثلما أصبحت دارنا شطرين، وغبرتُ أياماً تؤرقني الفكرة وتزعجني الخاطرة، لا أستطيع أن أصرف نفسي عنها ولا أن أمحوها من خيالي، ثم رحت إلى أخي أكشف له عن هواجس نفسي وأنشر أمامه خلجات فؤاده فقلت: (أيْ أخي! أنا لا أستطيع أن أجحد فضلك ولا أن أنكر جميلك، فلولا ما بذلت من جهد وعناية ما زهت تجارتنا ولا ازدهرت ولا درَّت علينا هذا الرزق العميم. ولقد كنتُ في حياتي كلها أحس منك شفقة الأخ الأكبر وحنان الأب الرحيم، أطمئن إلى حبك وأسكن إلى إخلاصك. وإني لأخشى أن تسوس لك نفسك فتستقل بنصيبك في التجارة وتذرني ضائعاً، وأنا حريص على ألا تعصف بنا نوازع المادة فتتصدع وحدتنا وتنشق عصانا وتتقطع وشائج القلب وصلات الروح. وهذه تجارتنا بين يديك، هي لك كلها إن شئت ولك جلها إن أردت، وأنا قانع بما تنزل لي عنه لأنني لا أرضى بأن يشمت عدو أو أن يتشفَّى حسود).

وسمع أخي الأكبر حديثي فاستيقظ تاريخنا كله في قلبه منذ أن كنا طفلين نستشعر الذلة ونحن الضياع فترقرقت عينيه عبرات ما تتحدر وفاض قلبه بالعاطفة السامية، ثم ربت على كتفي وهو يقول (لا يزعجك هذا الأمر فإنا أشد حرصاً عليه. ولقد اقتسمنا الدار لأنني كنت أخشى أن يدب خلاف بين زوجي وزوجك أو أن يطغى ابني على ابنك فتتهدم سعادتنا وتنقض راحتنا. أما التجارة فهي لي ولك. .)

وقمت من لدن أخي وإن الفرحة لتفعم قلبي.

ومضت سنة واحدة، ثم انحط عليَّ مرض يعركني عركاً شديداً. وحبسني الداء في حجرة من الدار لا أستطيع أن أبرحها وإلى جانبي زوجي تقدم على حاجاتي في غير غضاضة ولا ملل، وأخي يغدو إليَّ ويروح وإلى جانبه طبيب وبين يديه دواء، وأنا لا أنوء بأثقال المرض، وإن زوجي وأخي بين يدي يرفهان عن نفسي شدة الضنى ويخففان عني صولة العلة، ومن بينهما طبيب. والطبيب رجل غليظ الكبد، سقيم الوجدان، واهي الرجولة؛ لا يشفي غلته سيل من المال، ولا ينقع صداه بحر من الذهب يصرفه الجشع عن الواجب، ويشغله الشره عن الإنسانية. وطالت بي العلة، فما أرمضني إلا صغاري يحومون حولي، وإن قلوبهم لتتفطر أسى ولوعة لما أعاني من ألم. ثم برئت - بعد لأي - من سقامي لأخرج للناس شبحاً ضامراً هزيلا شاحب الوجه، مرتعش اليد، منحط القوة.

ورأى أخي عجزي وضعفي فتنكر لي وانطوى عني فلا يزورني إلا لماماً ولا يحدثني في شأن تجارتنا إلا قليلا، وقبض يده عني فلا يبض إلا بدريهمات لا تسد حاجة ولا ترأب صدعاً. ولمست أنا فيه الجفوة والقسوة فاضطرب قلبي وانزعج فؤادي، ولكني لم أستطيع أن أتحدث إليه بأمر. ماذا أقول وأنا أوقن بأن مرضي قد كلفني فوق الطاقة استنفد الكثير من مالي، غير أن حاجات العيش ثقال ومن ورائي زوجي وصغاري يطلبون القوة واللباس ولا يقنعون بالتافه من العيش ولا يرضون بالرخيص من اللباس؛ فذهبت إليه أدفع نفسي دفعاً عنيفاً وأحملها أمراً لا تطيقه.

وجلس وجلست أنا، وتحدثت إليه بحاجتي فأعرض عني ولم يلق بالا إلى كلماتي، بل قام في أناة وتؤدة ليجمع أوراقه ودفاتره ثم لينشرها أمامي وهو يقول: لقد استنزفت أيام مرضك كل ما ادخرنا وركبنا الدين ونحن الآن نسير إلى الإفلاس في سرعة. وهذه أوراقنا تدل على صدق ما أقول) ووجمت أنا لحديث أخي، وتراءى لي أن يداً عبثت بالتجارة وعقلا عاث في الأوراق ولكن الكلمات ماتت على شفتي، واستمر هو في حديثه يقول: (والآن أصبح لا معدى لنا عن أحد أمرين: إما أن نبيع الدكان بما فيه لرجل غريب، وإما أن يشتريه أحدنا ويدفع الثمن فوراً) وصدمني الرأي صدمة عنيفة، فأخي يثق بأنني خاوي اليد والجيب وأنني أضن بتجارتنا أن تصبح في يد غريبة وأنني في حاجة شديدة إلى المال. فقلت في استسلام وكمد (خذ أنت حصتي) قال (فهي تساوي كذا وكذا يخصم منها ثمن الدواء وأجر الطبيب وهو كذا فيبقى كذا) وأرغمتني الحاجة على أن أنزل عند رأيه فكتبت له تنازلا عن حقي لقاء المبلغ الذي أراد) ثم انفلت من لدنه وبين يدي جنيهات وفي عيني عبرة وفي قلبي لوعة

آه، يا صاحبي، إن في الإنسان دوافع ترابية إن سيطرت عليه سفلت به عن معاني الإنسانية). . .

كامل محمود حبيب